عامٌ مضى على انطلاق الثورة في مصر، ولا تزال مستمرة رغم كل شيء. تحققت بعض أهدافها، ولا تزال أهدافٌ أخرى تنتظر، لكن الأهم هو أنّ المواجهة مع بقية النظام السابق لا تزال قائمة ومستمرة حتى الآن. خرجت الجماهير إلى الشوارع في الذكرى الأولى لثورة «25 يناير»، فكان اليوم الأكثر حشداً منذ تنحّي مبارك. لكن الخلاف بدا واضحاً في شعارات المسيرات والميدان، بين من يطالبون بتحويل هذا اليوم إلى مناسبة لتجديد روح الثورة، والمطالبة برحيل المجلس العسكري، وبين آخرين يصرّون على الطابع الاحتفالي للمناسبة، رافضين خوض مواجهة مباشرة مع العسكر.الصورة في مصر ليست واضحة تماماً للمراقبين والفاعلين في الداخل المصري، فضلاً عن المراقبين من الخارج. لكن بعد عام، يمكن القول إنّ تقدماً قد تحقق بفضل استمرار الفعل الاحتجاجي، وإنّ المجلس العسكري أخطأ كثيراً، فكان مساهماً بطريقة غير مباشرة في زيادة الزخم الشعبي الذي أجبره على تحقيق بعض مطالب الثورة. لكن هذا لا ينفي وجود صعوبات كبيرة تعترض طريق الثورة المصرية، وحضور مصالح قوى نافذة يمكنها عرقلة التحول الديموقراطي وتشويهه.
لا يزال شباب الثورة مرابطين في الساحات والميادين للمطالبة باستكمال أهداف الثورة، لكنّهم في اللحظة الحالية الطرف الأضعف في المعادلة السياسية القائمة، إذ لا يتمتعون بشعبية كبيرة تمكنهم من مواجهة الأطراف الأخرى، وتحديداً المجلس العسكري. وقد نجحت الدعاية المضادة، التي حرص المجلس وفلول النظام السابق على بثها والترويج لها، في تحريض الناس ضدهم، فباتوا قادرين فقط على الحشد داخل ميدان التحرير، فيما هم ملعونون خارجه، ومدانون عند كثير من أبناء الطبقة الفقيرة بتخريب البلد وتعطيل الإنتاج وتدمير الاقتصاد.
يمكن ملاحظة اندفاع شباب الثورة لمحاصرة مقر التلفزيون الحكومي (ماسبيرو) في كل تظاهرة، فهم يريدون تطهير الإعلام من بقايا النظام السابق الذين يقودون الثورة المضادة والتحريض الإعلامي ضدهم. لكن المشكلة أكبر من ذلك، فهم لم يتمكنوا من تحقيق نتائج جيدة في انتخابات مجلس الشعب الأخيرة، وبالتالي أصبحوا خارج التأثير السياسي في المؤسسات الجديدة، بما يجعل قدرتهم على استكمال أهداف الثورة محصورة في الفعل الاحتجاجي في الشارع فقط.
الطرفان الأقوى في المعادلة السياسية المصرية في هذه الفترة هما العسكر والإخوان المسلمون، وبينهما يدور صراع خفيّ على الإمساك بزمام السلطة وقيادة البلد. ففيما يحاول الإخوان تقليص نفوذ العسكر تدريجاً عبر اللعبة السياسية، لا في الشارع، يحاول العسكر احتواء الإخوان والحفاظ على عدد من المكاسب التي تحققت لهم في العقود الماضية، ويظهر أنّ نموذجاً جديداً من التفاهم بين الطرفين (يختلف بعض الشيء عن النموذجين التركي والباكستاني) قد يحصل في نهاية المطاف.
لا يريد العسكر الاستمرار في حكم البلاد كما يبدو، فهم يرون أنّ السلطة عبء لا يريدون تحمله، ويعتبرون الخروج من مسؤولية السلطة هدفاً، لكنّهم لا يريدون الخروج من السياسة، فحتى بعد تسليم السلطة للمدنيين، يريد العسكر الاحتفاظ بنفوذ معين في المسألة السياسية، وبالتحديد في القضايا الكبرى والمصيرية، إضافة إلى رغبتهم في الحفاظ على المكاسب المالية والاقتصادية التي حققوها في العقود الماضية. فبحسب التقديرات المتداولة، تدير المؤسسة العسكرية ما لا يقل عن ثلث الاقتصاد المصري، ويتمتع كبار الضباط وأعضاء المجلس العسكري بامتيازات مالية، وتدور حولهم شبهات فساد كثيرة. والمطلوب في أي نظام جديد حماية امتيازات العسكر المالية ورفض الرقابة البرلمانية على ميزانية الجيش، وهو ما ظهر بوضوح في «وثيقة السلمي» التي خرج الناشطون والقوى السياسية اعتراضاً عليها في الشارع في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي.
كذلك يعوّل الأميركيون على دور حيوي للعسكر في قضايا الأمن القومي والسياسة الخارجية، ويهمّهم بعد الضربة التي تلقوها بسقوط مبارك (الكنز الاستراتيجي كما سماه نتنياهو) أن يضمنوا من خلال علاقتهم الخاصة بسامي عنان (الذي يقال إنّه الرجل الأقوى في المؤسسة العسكرية وليس طنطاوي) القضايا المتعلقة بأمن إسرائيل ولو بالحد الأدنى. صحيح أنّ الأميركيين يتخبطون حتى الآن في معالجتهم للثورات العربية، وخاصة في مصر، لكنّهم على الأقل يريدون احتواء الموقف قدر الإمكان، وتطمين الإسرائيليين من خلال علاقتهم القوية بالعسكر. كما أنّهم لم يخسروا حتى الآن الجهازين الرئيسيين المرتبطين بعلاقات خاصة جداً ومباشرة معهم: أمن الدولة والاستخبارات العامة، فرغم تغيير مسمى الأول ظاهرياً ورحيل عمر سليمان من الثاني، إلا أنّ الجهازين ورجالهما في الواجهة بقوة. ولعل إسقاط العقل الأمني القمعي الذي قتل المتظاهرين أكثر من مرة في ميدان التحرير وشارع محمد محمود أمام مجلس الوزراء، وسحل الناس وعرّى النساء هو أحد أهم خطوات استكمال الثورة.
أما الإخوان المسلمون فيمارسون أعلى درجات البراغماتية، ويجوز أن تسمى مكيافيلية، فلم يعد معروفاً ما إذا كانوا يرغبون في الوصول إلى السلطة لتنفيذ مشروع سياسي أو يرغبون في مشروع سياسي (كيفما اتفق) يوصلهم إلى السلطة. المهم بالنسبة إليهم أنّهم حققوا نصراً كبيراً في الانتخابات البرلمانية، وهم مستعدون للاستماتة في الدفاع عنه إلى درجة الدخول في مواجهة مع متظاهرين أمام مجلس الشعب بشكل فج ومسيء. وقد اتضح في ذكرى الثورة التباين الحاد بينهم وبين المجموعات الشبابية الثائرة التي تطالب بتسليم السلطة في أقرب وقت، فيما يتجنب الإخوان الدخول في مواجهة الشارع مع العسكر، ويصرّون على استكمال أهداف الثورة من خلال البرلمان.
الاستماتة من أجل الوصول إلى السلطة وتعويض حرمان العقود الماضية قد يدفع الإخوان للوصول إلى تفاهم مع العسكر والأميركيين. وتتردد معلومات عن زيارات متكررة من مسؤولين كبار في مكتب الإرشاد للسفير الأميركي، ويبدو أنّ التفاهم مع الأميركيين يدور في الأساس حول نقطتين رئيسيتين تمثلان الهم الأميركي في مصر والمنطقة: الموقف من إسرائيل والالتزام بمعاهدة السلام، والموقف من إيران وعدم الذهاب في اتجاه نسج علاقات استراتيجية معها. يقال إنّ تفاهمات حصلت حول النقطتين، لكن الفترة المقبلة ستكشف صحة هذا الكلام من عدمه، مع ملاحظة تأكيد الإخوان العلني على احترام اتفاقية السلام، وعدم دخولهم في الاعتصام أمام السفارة الإسرائيلية في القاهرة.
يستكمل التفاهم مع العسكر والأميركيين باتفاق يقضي بتسلم الإخوان الملفات الداخلية التنموية والخَدَمِيَّة، مقابل تسلم العسكر الملفات المتعلقة بالسياسة الخارجية والأمن القومي. ولا يمكن الجزم بأنّ اتفاقاً مثل هذا قد حصل فعلاً، لكن مؤشرات كثيرة تدل عليه. الأهم في هذا الأمر هو أنّ حفلة تذاكٍ تقام بين الأطراف الثلاثة، فالإخوان يتذاكون على الأميركيين والعسكر، معتقدين أنّهم قادرون على تقديم تطمينات وتنازلات معينة تكتيكية، يمكنهم بعد الإمساك بالسلطة بالكامل العودة عنها أو على الأقل فرض شروطهم، فيما يتذاكى العسكر على الإخوان معتقدين أنّهم قادرون على احتوائهم بإجبارهم على التنازل. ويتذاكى الأميركيون معتقدين أنّه يمكن احتواء الإخوان وتحييدهم عن الصراع العربي الإسرائيلي، ودعمهم كقوة صاعدة في المنطقة عموماً في وجه إيران. مع كل هذه الحسابات السياسية والصراعات الظاهرة والخفية والتي قد تأخذ وقتاً طويلاً قبل استقرار الأمور، يبقى أمر مُطمئن في ذكرى ثورة «25 يناير» هو الحشد الشعبي الكبير الذي رفع الصوت عالياً ضد حكم العسكر، مطالباً بدولة مدنية وانتخابات رئاسية بأسرع وقت. والمطلوب من شباب الثورة أن يستمروا في الضغط باتجاه إتمام التحول الديموقراطي، ثم أن يلتفتوا إلى الناس ويقدموا لهم خطاباً سياسياً واقتصادياً يقنعهم ليحققوا أهداف الثورة في إسقاط القوى التقليدية مع النظام السابق، وتقديم مشروع ورؤية جديدة لمصر والمنطقة العربية كلّها خلال الفترة المقبلة، تلتف حوله كتلة شعبية كبيرة، ويحقق نهوضاً عربياً طال انتظاره.
* كاتب سعودي