نظّم «المعهد الكردي في باريس» ندوة دولية في العاصمة الفرنسية الأسبوع الماضي، عنوانها: «الأزمة السورية، رهانات وآفاق». وقد رعى مجلس النوّاب الفرنسي هذه الندوة عبر استضافته لها في أحد مبانيه. برنامج الندوة يعطي المطلع عليه فكرة واضحة عن المنحى السياسي الذي ينحو إليه هذا الحدث الذي يستضيف عدداً لا بأس به من المعارضين السوريين الأكراد المنضوين إلى «المجلس الوطني السوري»، إلى جانب عدد من الشخصيات الأخرى المؤيّدة لهذا المجلس أو المتعاطفة معه. تكمن أهميّة حضور هذه الندوة في الاستماع إلى آراء المحاضرين المعارضين لنظام الرئيس الأسد وتحاليلهم ومطالبهم، وبالأخص قراءات رصينة قام بها اختصاصيون فرنسيون في علم السياسة، في القضايا الإقليمية والدولية التي يجب أخذها في الاعتبار لدى تناول إشكالية الأزمة السورية الراهنة.
القراءات الجيوسياسية لللأزمة السورية لافتة؛ إذ تخرج سامعها من متاهات السياسات الداخلية، والتعبئات الإيديولوجية، والحروب الإعلامية، والحسابات الفئوية الضيّقة المختلفة التي تمنع العقل من إدراك واقع معقّد تتخطّى آفاقه السياق السوري، والعربي، والشرق أوسطي. قراءات تدرج أحداث سوريا الآنية ضمن صراع كوني حاصل بين قوى سياسات إقليمية والدولية. يخلص هذا النوع من القراءات إلى اعتبار الثورة السورية أكثر الثورات العربية تدويلاً، التي تحدث بذلك انقطاعاً في دائرة الثورات؛ إذ تضحي أزمة إقليمية ودولية. والعامل الأساسي الذي يدوّل الثورة هو عامل الوقت. فعلى عكس الثورتين المصرية والتونسية اللتين انتهيتا في أقل من شهر، قارب عمر الثورة السورية العام، وهذا العامل يولد التدويل، والعنف، والعسكرة، والتصرّف الميليشياوي. ويضاف إلى ذلك موقع سوريا الإقليمي، وقوامه مكانة متجذرة ومعقدة ضمن الصراع العربي الإسرائيلي، والمواجهة الحاصلة بين إيران والغرب، والتشنجات المتصاعدة بين العالمين الشيعي والسني، وبين بلدان الخليج وإيران، وحتى داخل التيارات الإسلامية. أمّا على صعيد السياق الدولي، فهناك ثقل حول سوريا ومناخ حرب باردة بين القوى العظمى في مجلس الأمن. فسوريا خاضعة الآن لصراع بين فريقين إقليميَّين ودوليَّين: مجلس التعاون الخليجي، وجامعة الدول العربية، وتركيا والبلدان الغربية من جهة، وروسيا وحلفائها كالصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا من جهة أخرى. وهذا الواقع ليس طارئاً على سوريا التي كانت في الخمسينيات والستينيات ساحة مواجهة دولية.
النظرة الجيوسياسية للواقع السوري تتجنّب فهم الصراع كمواجهة صرفة بين الديكتاتورية والديموقراطية. فالمسألة ليست مسألة أخلاقية تسعى فيها الأمم المتحدة إلى إحلال الديموقراطية في سوريا، بقدر ما هي مسألة صراع بين قوى دولية. فهناك في سوريا قضايا عديدة لديها أبعاد عالمية، ومنها الصراع بين الغرب وإيران. فلا شك في أنّ إيران ستكون أضعف في هذه المعركة من دون حليفتها العربية سوريا. لكن المسألة الأهم تطاول إسرائيل وأمنها. فمن الواضح أنّ النظام السوري كان في السنين العشرين المنصرمة ثقلاً موازناً لإسرائيل؛ إذ ساعد في تسليح حزب الله ودعمه في 2006، أثناء العدوان الإسرائيلي على لبنان، وقد دعم المقاومة الفلسطينية في غزة في 2008. وتلك المعطيات لا يجب التخفيف من أهميتها، بالأخص في وجه دعم مطلق من الولايات المتحدة لإسرائيل باستيطانها واحتلالها للأراضي الفلسطينية، من دون أن يقوم المجتمع الدولي بأيّة حركة عملية تتخطّى الإدانات الورقية غير المجدية. والتفكير بأنّ إسرائيل غير معنية بهذا الصراع الإقليمي غير واقعي، لأنّ هناك قراراً دولياً مبنياً على مصالح مختلفة، ومنها العلاقة الوطيدة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، وقوامه التخلّص من النظام السوري، لا لأنّه ديكتاتوري أو غير ديموقراطي فقط، بل أيضاً لأجل مصالح الدول الغربية وأمن إسرائيل. خلصت أغلبية المداخلات الجيوسياسية في المؤتمر إلى التكلّم على طريق مسدود أمام الوضع السوري الراهن، فلا النظام قادر في رأيها على الانتهاء من هذه الأزمة، ولا المعارضة قادرة على التخلّص من هذا النظام؛ لأنّ حل التدخل العسكري الأجنبي غير وارد. والخوف الأكبر من هذا الوضع يكمن في أن تؤول الأمور إلى حرب أهلية تكون تداعياتها سيئة على كل المنطقة. وقد أمل أحد المحاضرين أن تُحل الأزمة من خلال تأسيس مرحلة انتقالية يكون فيها عناصر من النظام الحالي كما حصل مع ديكتاتوريات أميركا اللاتينية، وقد آلت إلى إيجاد حلول مقبولة وجنّبت دولاً عدّة الحروب والدمار والقتل. تقع مسؤولية خلق هذه المرحلة الانتقالية والتفاوض على عاتق المجتمع الدولي.
جمعت الطاولة الأخيرة من المؤتمر الباريسي أربعة محاضرين يمثلون الجانب «غير العربي» في المعارضة السورية، ويتكلّمون على مطالب «الأكراد» أو «الأقليّات» الأخرى الذين يقولون إنّهم يمثّلونها. قراءاتهم بأغلبها تختلف عن التحاليل الجيوسياسية الشاملة للأزمة السورية، وتندرج في معظمها ضمن مطالب سياسية محليّة مباشرة، لا تخلو من الشعر أحياناً، ولا تخفي الانقسامات والتباينات الموجودة ضمن «المجلس الوطني السوري». ومن أهم ما طالب به الحاضرون، نقض القومية الواحدة، أي «القومية العربية»، واللغة الواحدة، والمطالبة بتغيير طبيعة الدولة. نظام الدولة القومية في العالم العربي، وبالأخص في سوريا، «أفلس من الجوهر؛ لأنّه يتناقض مع تنوع المجتمع»؛ إذ يجب تجاوز القومية العربية وبناء الأمة الديموقراطية الضامنة للتعددية. بناءً عليه، إنّ حل الأزمة السورية يكمن في حل المسألة الكردية التي هي «جوهر عملية الدمقرطة في سوريا». ويذهب أحد المحاضرين إلى المطالبة ببناء دولة تعددية برلمانية علمانية، بعيداً عن العنصرية، دولة المساواة والقانون التي تصون الحقوق. ويطالب بإقرار دستوري بوجود الشعب الكردي كأحد مكونات الشعب السوري الرئيسية، وكثاني أكبر قومية فيه. فيجب «إيجاد حل ديموقراطي عادل لقضيته القومية بما يضمن حقه في تقرير مصيره بنفسه ضمن وحدة البلاد»، وفي ظل لامركزية سياسية تضمن حق الأقليات. وقد أكّد محاضر آخر أنّ الأشوريين يبحثون مع شركائهم الأرمن والعرب والأكراد عن إنشاء نظام ديموقراطي وعلماني مبني على العدالة والمساواة والمواطنة، والاعتراف بوجودهم كشعب أصلي وبضمانته وفقاً للإعلان العالمي لحقوق الإنسان ولكل الاتفاقيات الدولية الضامنة لوجود الأقليات.
لا شكّ في أنّ خلاصات هذا المؤتمر الجيوسياسية تضع في متناول قارئ تطور الأوضاع في سوريا معطيات جديّة تكوّن مادة رصينة للتفكّر في هذه الأزمة المستعصية، وتخرجها من التعبئات الإعلامية والإيديولوجية المختلفة. ولا ريب في أنّ الاستماع إلى مطالب البعض وتفكّراتهم، أمعارضين كانوا أم مناصرين، يساعد المرء على توضيح نظرته إلى الآخر ويحثّه على الحوار، وهو أفضل الحلول وأصعبها. لكن تساؤلات كبيرة تُطرح في هذا السياق من الاستماع والبحث. فتفتة القوميات تلك مقلقة، وأخشى أن تعطي ذريعة إضافية للكيان الصهيوني الذي يبحث عن كل شرعية يمكنه إيلائها لقوميته العنصرية. وتناول العروبة بهذا النحو مؤلم، لأنّها ليست قومية موازية للقومية الكردية أو الأرمنية أو الأشورية. فالعروبة حضارة وثقافة بناها المسيحيون والمسلمون واليهود والعلمانيون، وهي فكر إنسانوي وكوني وحضاري يتخطى الحسابات السياسية الضيقة. وتحزّ في القلب غياب القضية الأم عن المناقشة، القضية الفلسطينية، والخشية أن ينال بعض «ثوّار» الدول العربية تأييداً ومساعدة ممن يدعم من دون هوادة من يقتل كل يوم شعب فلسطين، لأنّ من يعطي في السياسة، يحاسب حتماً...
* دكتور في الفلسفة واللاهوت