قلّة من المؤرخين من قام بدراسة الحروب الصليبية وتحليلها بعمق، مثل المؤرخين الصهاينة. فقد كان المشروع الصهيوني في جوهره، ورغم بعض الاختلافات، مثل سابقه ونظيره الصليبي: مشروعاً اوروبياً استعمارياً، يتضمن إقامة دولة تكون بمثابة رأس جسر لاختراق وتفتيت المشرق العربي. وقد أراد هؤلاء المؤرخون والساسة الصهاينة، قبل وبعد إقامة دولة إسرائيل، أن يستخلصوا دروس وعبر هزيمة المشروع الصليبي، علّهم يتفادونها، خصوصاً أنّ التجربة الصليبية كما الصهيونية، تعتمد على شبكة من المستوطنات/القلاع العسكرية الزراعية. من هنا، عكف المؤرخون الصهاينة على دراسة التجربة الصليبية وبرعوا في ذلك، وعلى رأسهم كل من يهوشع برافر، وميرون بنفنستي، وبن كيدار. وقد عمل عدد كبير من المتخصصين في الحروب الصليبية في المؤسسة العسكرية الإسرائيلية، وخصوصاً في مراكز البحث المرتبطة بها.ويمكن تلخيص بعض أهم العبر والدروس التي استخلصوها من الحروب الصليبية على النحو الآتي:

الديموغرافيا

عندما احتل الصليبيون القدس، ذبحوا جميع سكانها المسلمين واليهود والمسيحيين (1)، ولم يفرقوا بين طائفة وأخرى. وتطابق هذا مع ما جرى لمدن أخرى وأريافها في بلاد الشام وخصوصاً المعرة، حيث تصرف الفرنجة مع أهالي المدينة المغلوبة على أمرها بوحشية بالغة، حين قتلوا جميع السكان عن بكرة أبيهم، دون تمييز بين رجل وامرأة وطفل، فقتلوا ما يزيد على مائة ألف. وبلغت وحشيتهم الذروة عندما فعلت بهم المجاعة فعلتها فأكلوا لحوم الأطفال العرب، بعد طهوها. ثم أشعلوا النار في المدينة المنكوبة فقضوا عليها قضاءً تاماً (2).
لكن سرعان ما تنبه الصليبيون، بسبب قلة الطاقات البشرية الأوروبية، إلى حاجتهم إلى قوة عمل السكان المحليين، فتوقفوا عن ابادتهم، وعوضاً عن ذلك بدأوا باستغلالهم اقتصادياً كشبه أقنان (على نمط الاقطاع الاوروبي). وعندما بدأت المقاومة في مرحلة لاحقة، ظلّ المشروع الصليبي، الذي لم يستطع المحافظة على تدفق كافٍ من الغرب لشبان اصحاء ومحاربين، يعاني من قلّة الموارد البشرية، الأمر الذي كانت له نتائج عسكرية وخيمة على أرض المعركة أو على الوضع الاستراتيجي العام، إذ ضعفت قدرة الصليبين على الانتشار والسيطرة على مناطق شاسعة، وهو ما خلق بدوره فراغات مهمة سمحت لجيوش اسلامية أو حتى وحدات صغيرة نسبياً منها بالإغارة في عمق خطوط الأعداء (يشبه ذلك، قدرة الفدائيين الفلسطينيين بدعم مصري، على اختراق إسرائيل في سنوات الخمسينيات عندما كان عدد سكان إسرائيل محدوداً، ولا يسمح بتغطية كامل حدود خطوط الهدنة لعام 1949). من وحي هذا الدرس، ركز الكيان الصهيوني على العامل الديموغرافي في الصراع، لتفادي مصير الصليبيين نفسه، وهو تركيز منطقي ومفهوم. فيما تبنت الحركة الصهيونية مبدأ العمل العبري (عافودا عبريت) الذي ينص على تشغيل اليهود فقط في المشاريع اليهودية، بهدف خلق حالة بطالة لدى السكان العرب حتى يرحلوا عن بلادهم (رغم انّهم خرقوا هذا المبدأ مراراً وتكراراً لأسباب براغماتية مثلاً بعد 1967 في الضفة والقطاع، حيث جرى تشغيل مكثف للفلسطينيين لأغراض حاجات الاقتصاد الإسرائيلي الذي شهد طفرة كبيرة). بالمقابل، قام الصليبيون، نتيجة النقص البشري، ليس فقط بتشغيل عرب ومسلمي الديار المقدسة، بل وحتى القيام بغارات عبر الأردن والجولان، لخطف فلاحين عرب واستجلابهم للعمل في «أراضيهم» الزراعية.
وعلى عكس ما يجري في أيامنا هذه، حيث تتمثل مقاومة المشروع الصهيوني فلسطينياً بالصمود على الأرض، فإنّ مقاومة الصليبيين في فلسطين في القرن الثاني عشر، وقبل معركة حطين في 1187، تمثلت في الهروب من المناطق التي يسيطر عليها الصليبيون، إلى مناطق يسيطر عليها المسلمون، لحرمانهم من الطاقات البشرية. ومن اشهر قصص الهروب الجماعي، فرار بني قدامة من جماعين والذين نزلوا خارج سور مدينة دمشق في أرض الصالحية التي كانت شبه خالية. ولعب هؤلاء دوراً رئيسياً في تعبئة العالم الاسلامي، وخصوصاً في سوريا والعراق ضد المشروع الصليبي. كذلك فهم الصهاينة أنّ المطامع التوسعية في العالم العربي تصطدم بنقص الطاقة البشرية، فها هو بن غوريون يعترف: «خلال الأعوام العشرة [القادمة] ستكون لنا اليد الطولى، إذا شئنا نستطيع الذهاب حتى الليطاني والقنيطرة، ولكن إذا توسعنا فسوف نختنق [بسبب تمدد جغرافي لا تصاحبه موارد بشرية كافية]» (3).

ضرورة العمل على تفتيت العرب

أدرك الصهاينة أنّ سبباً رئيسياً في هزيمة المشروع الصليبي، نجم عن عزلته الكاملة في محيط عربي اسلامي. فقد كان الصليبيون أسرى ايديولوجية دينية عنصرية جامدة، ترى في غير المسيحيين الأوروبيين اعداء وضعوا في سلة واحدة، وبهذا وسعوا معسكر الأعداء وقلصوا معسكر الأصدقاء. ورغم تحالفاتهم مع بعض الحكام والأمراء المسلمين العملاء، فإنّ هذه التحالفات ظلت ذات طابع تكتيكي وليس استراتيجي، مما ركز الضغط المقاوم والممانع عليهم. وهكذا توصل القادة الصهاينة بعد ثورة 1936 التي شهدت تعريب واسلمة القضية الفلسطينية (بمعنى تحولها إلى قضية عربية واسلامية لا تخص الفلسطينيين وحدهم)، وكان ابوها الروحي الشيخ عز الدين القسام وهو سوري، إلى استنتاج مفاده أنّه ومن أجل تخفيف الضغط عن المشروع الصهيوني يجب ــ على الرغم من عقدة التفوق اليهودية تجاه الأغيار ــ إقامة تحالفات اقليمية بين الحركة الصهيونية وبين طوائف وقوميات تعيش في العالم العربي أو حوله، تتناقض مع المكون الرئيسي العربي الغالب. من هنا، ومنذ منتصف ثلاثينيات القرن الماضي، أكد بن غوريون عدّة أمور أصبحت بمرور الوقت ثوابتَ صهيونية لا جدال فيها، ومن هذه الأمور أنّ العرب هم العدو الأول للحركة الصهيونية. ومن أجل مواجهة هذا العدو اللدود، ينبغي البحث عن حلفاء في منطقة الشرق إلى جانب الحلفاء في الغرب. فأية طائفة أو جماعة تعادي القومية العربية أو أي مشروع وحدوي، وتبدي استعدادها لمحاربته أو مقاومته، هي في حقيقة الأمر حليف كامن يمكن استغلاله في تنفيذ السياسات الصهيونية من استيطان وتهويد واقتلاع وتوسع وهيمنة. فهذه الأقليات والجماعات «التي يضطهدها العرب والمسلمون شركاء في المصير وحلفاء وجدانيون، يجمعها وإسرائيل، الاضطهاد والنضال من أجل الخلاص من العدو المشترك» (نظرية حلف المحيط). وسيصار إلى تشجيع هذه الجيوب لتتحوّل إلى دول طائفية على غرار إسرائيل (دولة كردية، مارونية، درزية، قبطية، مسيحية في جنوب السودان... إلخ).
بعد قيام دولة إسرائيل، طوّر بن غوريون افكاره، فدعا إلى خلق طوق معاد للعرب، يضم الدول غير العربية وخصوصاً من خلال علاقات استراتيجية مع تركيا وإيران وإثيوبيا (نظرية الطوق)، وتوسيع حلقات هذا الطوق والحصار ضد العالم العربي من خلال توسيع علاقات إسرائيل مع كل بلدان القارة الأفريقية والآسيوية (بعد خروج ايران وتركيا من تحالف الطوق، يصار إلى التركيز على الهند لدخول النادي الذي انضمت اليه أخيراً دولة جنوب السودان).
وقد أصبحت أفكار بن غوريون تلك (نظرية حلف المحيط ونظرية الطوق) والتي صاغها مع زعماء الحركة الصهيونية، فلسفة وبرنامجاً للتعامل مع الحلفاء والعالم العربي. وعلى أساس هذا التصور، دعمت إسرائيل في الماضي والحاضر الحركات الانفصالية أو الانعزالية، في كل من السودان والعراق ومصر ولبنان، وأي حركة انفصالية في أي بلد عربي تراه إسرائيل معادياً لها (بما في ذلك مصر كامب دافيد) ووثقت علاقاتها مع تركيا وإيران. وكانت الأخيرة أول بلد اسلامي يطوّر علاقات دبلوماسية مع إسرائيل بعد قيامها في 1948، ويزودها بالبترول. على نقيض الصليبيين الذين لم يسخروا طاقات جدية لمنع وحدة عربية، أظهرت اسرائيل عداءً مستحكماً تجاه أي شكل من اشكال الوحدة العربية أو الإسلامية، وعبّر بن غوريون عن ذلك بقوله: «إن وحدة الوطن العربي هي الطريق الذي ينشده العرب وهو ما سيحول دون قيام دولة صهيونية في حدودها، [لذا] يجب محاربتها بكل القوى» (4).
أضف إلى ذلك، عملت إسرائيل كل ما في وسعها لتفتيت العالم العربي، إذ آمنت بأنّ «أمن إسرائيل» لا يتحقق من خلال التفوق العسكري وحده، بل من خلال عدم السماح بقيام أو استمرار وجود أي دولة مركزية كبرى في المنطقة (مصر، سوريا، العراق)؛ وأن تعمل كل ما في وسعها لتفتيت ما هو قائم منها وتحويلها إلى كيانات صغيرة تقوم على أسس طائفية أو عرقية. فإذا نجحت في ذلك، تكون قد حققت هدفين في ضربة واحدة، الأول: أن تتحوّل إسرائيل نفسها إلى دولة طبيعية إذ إنّها تقوم على أسس لا تختلف عن دول الجوار، والثاني: أن تصبح إسرائيل هي الدولة الأكبر والأقوى والأكثر تقدماً، وبالتالي تأهيلاً وقدرة، على قيادة المنطقة والسيطرة على تفاعلاتها. وهو ما يمكن أن يسمح لها بأن تلعب دور ضابط الإيقاع الذي يتولى تنظيم وضبط علاقات المنطقة وفق رؤياتها ومصالحها الخاصة (5).

ضرورة السيطرة على النقب

فيما قامت مملكة القدس اللاتينية في معظم أرجاء فلسطين، وتوزعت إمارات صليبية أخرى خارج حدودها، لم يهتم الصليبيون بالسيطرة الكاملة على النقب، الأمر الذي سمح بخلق فراغ نسبي وطريق آمن بين مصر وسوريا (بحكم دور الجسر الذي تلعبه فلسطين). سهّل ذلك حرية الحركة بين سوريا ومصر، وساهم في اكتمال مشروع المقاومة (الذي بدأه عماد الدين الزنكي وابنه نور الدين عند منتصف القرن الثاني عشر وسار على خطاه صلاح الدين الأيوبي وأنجزه المماليك بعد زوال حكم الأيوبيين وكانت خاتمته تحرير عكا آخر معقل صليبي في 1292) من خلال وحدة سوريا ومصر مع الأيوبيين. وهي الوحدة التي لولاها لما تمكن صلاح الدين الكردي التكريتي، من توجيه الضربة القاصمة ضد الصليبيين في حطين.
وعلى خلاف الصليبيين، فقد فهم القادة السياسيون الصهاينة وخصوصاً بن غوريون ــ الذي كان مهتماً على وجه الخصوص بالتجربة الصليبية ــ ضرورة سيطرة الحركة الصهيونية على النقب الذي يشكل جغرافياً ورمزياً اسفيناً يفصل تماماً بين مصر أفريقيا وسوريا وعراق آسيا (انظر خريطة فلسطين)، لا سيما أنّ بن غوريون كان يدرك أنّ في مصر القوة العربية الأساسية الكامنة، ومن هنا تنبع ضرورة تحويل النقب عبر استيطان يهودي مكثف فيه، إلى قلعة في مواجهة المصريين. ومرة أخرى يفسر ذلك قرار تحويل مياه نهر الأردن للنقب الذي أُخذ في الخمسينيات وبدئ في تطبيقه في 1963 والذي أدى، أي القرار، إلى جملة من التفاعلات وردود الأفعال انتهت بحرب 1967 رغم انّ ذلك لم يكن سببها الرئيسي.
لهذا كان النقب، رغم أرضه الجرداء، مطلباً رئيسياً من مطالب الحركة الصهيونية بقيادة بن غوريون عشية قرار التقسيم في 1947، وهو مطلب ناله بتواطؤ غربي. وكانت اهمية النقب ضمن هذا التصور الجيوبوليتيكي الصهيوني، سبباً رئيسياً في اغتيال المبعوث الأممي، الكونت برنادوت يوم السابع عشر من أيلول في 1948، إذ إن برنادوت أراد ــ بعدما سيطرت الحركة الصهيونية على أراض واسعة من فلسطين كان يفترض بها أن تكون جزءاً لا يتجزأ من الدولة العربية وفق قرار التقسيم ونتيجة لظهور قضية اللاجئين الفلسطينيين ــ من منطلق العدالة في توزيع الأرض وبهدف تسكين اللاجئين الفلسطينيين الذين هجروا من ديارهم، أراد منح أراض واسعة من النقب للفلسطينيين. ذلك، رغم أنّ النقب (من جنوب مدينة بئر السبع وحتى قرية أم الرشراش على البحر الأحمر والتي اقيمت على أراضيها مدينة إيلات) كان من حصة الدولة العبرية. وهذا ما يفسر أيضاً رمزية تقاعد بن غوريون في النقب (في مستوطنة سدي بوكر)، إذ اراد أن يكون قدوة ومثلاً لحث الصهاينة على استيطان النقب بشكل مكثف.

ضرورة السيطرة على غور الأردن

سبق لنا الحديث عن موضوع الفراغ الناجم في النقب، نتيجة لغياب رؤية استراتيجية جيو سياسية لدى الصليبيين وقلّة مواردهم البشرية. والأمر نفسه، تكرر في غور الأردن، في المنطقة الواقعة من جنوبي بحيرة طبريا وحتى شمالي البحر الميت، وهي منطقة لم يكن للصليبيين فيها سوى قلعة عسكرية واحدة مهمة وهي قلعة بل فوار (كوكب الهوا). وقد سمح هذا الفراغ للقوات الاسلامية بالنفاذ من خلالها للداخل الصليبي، وإنهاك الصليبيين قبل توجيه ضربات رئيسية لهم. ولهذا السبب كان غور الأردن حجر زاوية استراتيجياً في الرؤية الصهيونية. فما أن احتلت إسرائيل الضفة الغربية في 1967، حتى اعلنت غور الأردن منطقة لا يمكن التنازل عنها. ولتحقيق هذا الهدف، عملت على إيجاد تواجد عسكري دائم وشبكة متصلة شبه متراصة من المستوطنات الزراعية العسكرية، واقيم شارع خلفي استراتيجي يتحكم بالتلال المطلة على الغور (طريق ألون، على اسم صاحب الخطة يغئال ألون).

منع بروز زعامة للأمة

إذا كان هرتزل صاحب رؤية الدولة اليهودية (كتاب دولة اليهود 1896)، وصاحب البرنامج السياسي الذي يكفل تحقيقها من خلال ضمانات دولية ودعم غربي مستمر (برنامج المؤتمر الصهيوني الأول في بازل 1897)، وهو واضع الأدوات التنفيذية لتحقيق هذا البرنامج (المنظمة الصهيونية العالمية ومؤسساتها)، فإنّ بن غوريون هو مؤسس الدولة العبرية ومنظّرها الاستراتيجي. فهو عندما يكرر تحذيره من وحدة عربية، كان يرفقه بتخوّف عميق من بروز زعيم عربي على غرار نور الدين زنكي، أو صلاح الدين، يوحّد العرب والمسلمين، ويضع حداً لعربدة المشروع الصهيوني. لذا لم ينس، حتى وهو في قمة انتصاره في 1949، هذا الخوف. يذكر بن غوريون في يومياته: «وأنا أتخوف طوال الوقت من أن يقدم زعيم عربي بقيادة العرب على هذا الطريق [طريق الوحدة]». لم يكن هذا التخوف أو الاستنتاج بعيداً عن دروس التجربة الصليبية، فعندما جاء الصليبيون، كان العالم العربي مقسماً إلى إمارات، يحكمها امراء وحكام ضعفاء متناحرون، منكبون على ملذاتهم، تحركهم شهوة المال والسلطة، على شاكلة معظم حكامنا اليوم. وقد تعاون العديد منهم مع الصليبيين، إما اتقاءً لشرهم او استقواءً بهم على غيرهم من امراء وحكام بلاد الشام.
وفر هذا الوضع للصليبيين فرصة عظيمة للاختراق والتحكم والسيطرة من خلال مبدأ «فرّق تسد». وهكذا، ظل الصليبيون يسجلون انتصاراً تلو آخر، ويبنون لبنة فوق أخرى، حتى ظهر الأمير عماد الدين زنكي الذي بدأ، ومن بعده نجله نور الدين زنكي، بمقاومة الصليبيين بنحو منهجي، ورؤية استراتيجية تقضي بتوحيد شمل المسلمين واستنزاف الصليبيين وإنهاكهم قبل الانقضاض عليهم. كان ذلك هدف نور الدين الذي لا يكلّ ولا يملّ، وكان حلمه الذي لا يغيب عن وجدانه، تحرير بيت المقدس. لقد كان مشروع المقاومة مشروع حياته، ديناً ودنيا.
وهكذا استطاع « آل زنكي» فرملة المد الصليبي والانتقاص من هيبتهم ــ كما فرملت المقاومة في جنوب لبنان وغزة، بعد أكثر من ثمانية قرون، هيبة الردع الإسرائيلية ــ والذي كانت أولى مؤشراته سقوط امارة الرها الصليبية (شمال سوريا) ومراكمة الانتصارات. وهي انتصارات، وإن لم تكن حاسمة، فقد سمحت لاحقاً لقادة نور الدين زنكي (أسد الدين شيراكوه وابنه الناصر صلاح الدين) واللذين كانا قد اوفدهما إلى مصر لنجدتها قبل وفاته المبكرة، بتوجيه ضربة قاصمة للمشروع الصليبي نتيجة لنضوج الظرف التاريخي الموضوعي المتمثل في بروز زعامة مخلصة مسلحة بمشروع مقاومة، ووحدة مصر وبلاد الشام المدعومة بعمق تاريخي وجغرافي وحضاري عربي وإسلامي كبير.
رغم البون الزمني الشاسع بينهما، يعلمنا التاريخ المقارن لظاهرتين متشابهتين من الاختراق الغربي (الصليبي والصهيوني) دروساً أساسية، تتعلق بجغرافية المكان وظاهرة الاستعمار وتصارع العقول ودينامية المجتمعات، والقيادة، في منطقة جغرافية ذات أهمية استراتيجية. وهي منطقة ازدادت اهميتها في يومنا هذا، بسبب احتياطيات النفط الهائلة في باطن أراضيها وبحارها.
وفيما تُظهر هذه الدراسة، بشكل لا يقبل الشك استيعاب أعدائنا لدروس المواجهة التاريخية مع العرب والمسلمين بهدف تجنب زلاتها، فإنّ هناك شكوكاً جدية حول استيعاب هذه الدروس من طرفنا نحن. واذا لم تع النخب السياسية التي ابرزها «الربيع العربي» في المنطقة، وخصوصاً الإسلامية منها، دروس وعبر تاريخها الاسلامي، رغم أنّه يفترض أن يكون الإسلام مرجعيتها، فالخوف أن تقع في شرك حكام أمراء الطوائف، الذين يبددون ثروات شعوبهم ويعملون ليل نهار على شرذمة وتقطيع أوصال هذه الأمة بين: مسلمين ومسيحيين، سنة وشيعة، عرب وغير عرب، وهابيين وغير وهابيين، خليجيين وغير خليجيين، مواطنين ووافدين، مواطنين وبدون، وحتى... بين رجال ونساء.
يبدو أنّ البعض لا يتعظ من التاريخ، رغم انّه كمالك الحزين في قصة «كليلة ودمنة»، وهو كمن يرى الرأي لغيره ولا يراه لنفسه، يستطيع نصح الآخرين وينسى نفسه. كتب برهان غليون قبل سنوات عديدة، عندما كان يلعب دور المثقف الحكيم، وقبل أن يصبح «رئيس المجلس الوطني السوري»: «التاريخ يكرر نفسه، قال الفيلسوف الألماني هيغل عن حق. في المرة الأولى على شكل مأساة وفي الثانية على شكل مهزلة، رد عليه ماركس معلقاً. لكن قد تكون المهزلة أكثر إيلاماً من المأساة نفسها، أضاف إليهما ماركيوز ــ صاحب كتاب «إنسان البعد الواحد». لا أدري في أي مقام من هذه المقامات يندرج وضعنا نحن؟».
وأنا أجيب على تساؤله مستعيناً باقتباس من الكاتب جوزيف مسعد: «يبدو أنّ التاريخ، بالفعل يعيد نفسه مرتين، في المرة الأولى كمأساة، وفي الثانية كمهزلة، ولكن هل يعيد التاريخ نفسه للمرة الثالثة؟ يتضح في عصر المعارضات العربية في المنفى والتي ترعاها دول النفط الخليجية والامبريالية الأميركية أنّه بالفعل يمكن للتاريخ أن يعيد نفسه من جديد، لا كمهزلة بل ككارثة. ولعل المعارضة السورية في المنفى والتي اختطفت الانتفاضة الشعبية السلمية (...) قد أصرت على دحض نظرية ماركس الآنفة بأن أرادت للتاريخ أن يكرر نفسه ثلاث مرات (6).
وأخيرا ألجأ مرة أخرى إلى مثل من «كليلة ودمنة» (الفارسية): «أُكلت يوم أكل الثور الأبيض». فالرغبة المحمومة في تفتيت سوريا، الناتجة من احتضانها مشروع المقاومة في جنوب لبنان وغزة، لن تطاول دمشق فحسب، فهدف التفتيت يأتي بعد تفتيت العراق والسودان (ولربما ليبيا)، وشهية التقطيع الشيلوكية (نسبة إلى شيلوك في «تاجر البندقية» لشكسبير) شهية لا تشبع، وسكاكينه مستمرة في تمزيق جسد الأمة. فإن سقطت سوريا، لا سمح الله، فالدور على مصر مقر «جامعة الخيانة العربية»، بعدما كانت مصر المعز وصلاح الدين والظاهر بيبرس وقلاوون. ولن يشفع أحد لمصر والسعودية حين تشحذ السكاكين الطويلة. فنحن في إطار مشروع شامل لإعادة رسم المنطقة العربية، فتزداد رقع الفسيفساء. مشروع لا يفرق بين احد، فالتفتيت والتبعية قطعاً وليس نشر الديموقراطية، هما الهدف الحقيقي لما جرى ويجري التخطيط له في العواصم الغربية وفي تل ابيب. وعليه فإنّ معركة سوريا هي معركة أن نكون أو لا نكون. فهل نكون؟
* استاذ العلوم السياسية والتاريخ في جامعة بيرزيت

هوامش
(1) انظر وصف وليم الصوري للمذبحة.
(2) امين المعلوف «الحروب الصليبية كما رآها العرب»، ص63.
(3) «يوميات بن غوريون»، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يوم 2/6/1949، ص756.
(4) المرجع نفسه، يوم 29/1/ 1949 ، ص723.
(5) حسن نافعة، «قراءة جديدة في أوراق قديمة: الاستراتيجية الصهيونية لتفتيت العالم العربي»، الحياة اللندنية، 27/06/2007.
(6) جوزيف مسعد «الإمبريالية والاستبداد». «الأخبار»، العدد ١٦٢٩، الثلاثاء ٧ شباط ٢٠١٢.