من وجهة نظر سلطة حزب البعث في سوريا (أو السلطة الحاكمة باسمه)، تسير «المسيرة الإصلاحية التي يقودها الرئيس بشار الأسد»، بوتيرة أسرع وبمضمون أعمق مما كان قائماً في حسابات الحزب وسلطته، ولو في أحلام أو كوابيس اليقظة! في فترات ما قبل التحرك الشعبي ـــــ الشبابي العربي، كان النظام السوري يقدم نفسه على أنّه نظام تعددي مكرّس في مؤسسات أبرزها «الجبهة الوطنية التقدمية» التي تشارك، حسب الدستور، في قيادة البلاد، وتتمثل أحزابها في مجلس الشعب (البرلمان)، وفي الحكومة، وفي إدارات الدولة.وعندما كان يتعلق الأمر باعتراضات يطلقها يساريون، أو شيوعيون تحديداً، سراً أو علانية، عن حصرية حق حزب البعث في العمل في عدد من القطاعات الأساسية (الشباب والطلاب والعمال...!) كان الجواب جاهزاً، بل وقاطعاً: وهل كانت تجربة الاتحاد السوفياتي وبلدان منظومته أفضل من ذلك؟ كان الرد مفحماً، وخصوصاً، بالنسبة إلى أولئك الذين اعتادوا أن يكونوا سوفياتيين أكثر من السوفيات، وكانوا ولا يزالون، تلامذة نجباء في المدرسة الستالينية، دون سواها. هؤلاء، طبعاً قبل انهيار الاتحاد السوفياتي وبعده، لم يكونوا أبداً في موقع الراغب في إجراء تقويم أو في مباشرة مراجعة للتجربة: ما لها وما عليها، طالما أنّهم يرون أنّ أسباب الانهيار، هي في الأساس، ثمرة مؤامرة إمبريالية خارجية فحسب!
استناداً الى هذه الرؤية الذاتية القاصرة لحاجات تطور المجتمع السوري ولحقيقة الوضع القائم فيه، تعاملت السلطة السورية مع الاحتجاجات والانتفاضات الشعبية العربية. كانت البداية في القول إنّ الوضع في سوريا «مختلف»، بسبب ما توفره سياسة «الممانعة» من حصانة سياسية وشعبية للنظام القائم. وكذلك بسبب وجود بعض شكليات الاختيار الديموقراطي والحضور التمثيلي الحزبي، وإن بصيغ تفتقر إلى الحد الأدنى من المضمون والمشاركة والتنوع... اللهم إلا إذا كان المقياس هو فقط مقارنة الوضع السوري بالوضع في المملكة العربية السعودية، حيث يقوم نظام عائلي استئثاري تيوقراطي لا مثيل له في العالم!
في امتداد ما تكرس من ذهنية الاضطلاع بدور تاريخي في تمثيل المصالح الوطنية القومية دون الآخرين، وفي الصراع مع بعضهم، وما تكدّس من الممارسات والصيغ الأمنية وصولاً إلى المافياوي منها (وهو الأكثر رسوخاً وفعالية مع الوقت)، وصولاً إلى الانخراط في الصراع الإقليمي من زاوية الاعتراض على بعض توجهات الغزو والهيمنة الأميركية والإسرائيلية، في امتداد ذلك وسواه، كوّن النظام السوري وضعية خاصة مقفلة وحذرة ومتشددة في المجال السياسي، على وجه الخصوص.
وهكذا، واستناداً الى المعادلات التي ترسخت لدى النظام السوري، فقد نظر إلى الاحتجاجات الناشئة باعتبارها أمراً يحركه الخارج، ولا أساس جدياً له في الداخل. وقد اجتهد في جعل آلته الأمنية تؤكد هذا الأمر، وفق ما توافر لها من مقومات وإنجازات في مجال توطيد الاستقرار لمصلحة النظام، وبكل وسائل المنع والقمع التي تمرّس بها، وكدّس في حقل ممارستها خبرة مشهودة!
لكن الأمور لم تكن كما أرادها النظام. وهو اضطر تباعاً إلى الإقرار، ولو غير المعْلَن، بالحاجة إلى بعض التغيير والإصلاح، لكنّه نظر إلى الأمر من زاوية تكتيكية وشكلية وبهدف كسب الوقت وتجاوز الأزمة، لا أكثر. يفسر ذلك ما شاب «مسيرة الإصلاح» من تأجيل وتأخير، وما رافق دعوات الحوار من مناورات وتعطيل. ودون الدخول في التباينات الداخلية بين أطراف النظام حول موضوع الإصلاح، فإنّه يجب التأكيد الآن، أنّه من وجهة نظر النظام، فمسائل من نوع إلغاء المادة الثامنة من الدستور وتحديد ولاية الرئيس (ولو طويلة ومستمرة نظرياً حتى 2028)، تعدّ ثورة بكل ما في الكلمة من معنى! لن يدور في خلد أحد من أنصار النظام السوري، وليس من أركانه فحسب، أنّه يمكن أن تكون هذه التعديلات غير كافية. ولذلك تحاط هذه التعديلات بهذا القدر الكبير من الضجة الإعلامية، كذلك بهذا العدد الوفير من الاستدراكات والشروط والتعقيدات، بحيث يبقى زمام المبادرة في يد الأجهزة السلطوية، فيتغير المسار دون القرار... وذلك أيضاً بانتظار ظروف ومعطيات جديدة، قد تكون أكثر ملاءمة من الظروف والمعطيات والتوازنات الراهنة.
يمكن القول ببساطة، ومن الناحية النظرية، إنّ التعديلات الدستورية موضوع الاستفتاء المقرر في السادس والعشرين من الشهر الجاري، كانت ستبدو أكثر أهمية، بما لا يقاس، فيما لو بوشر بها فور اندلاع الاحتجاجات. يومها كانت المطالب الداخلية أكثر تواضعاً، والدور الخارجي أقل أهمية وحضوراً وفاعلية. يومها أيضاً، كانت كمية الدم أقل والخسائر من كل نوع في بداياتها. يومها لم يكن الخارج قد تمكن بعد من استيعاب معظم القوى المحتجة، ومن توظيفها في منظومة الصراع الذي يحدد هو أهدافه ووسائله. نعم لقد فوّتت السلطة فرصة ثمينة، وبلغ الصراع مستوى من التعقيد بات معه الداخل السوري، معارضة وسلطة، في موقع أضعف، وخصوصاً، مقارنةً بالخارج الحليف أو العدو، على حد سواء!
المفارقة اليوم، أنّ السلطة في سوريا، ترى أنّها أعطت كل ما تستطيع إعطاءه وكل ما يمكن إعطاؤه. وهي تتوقع في المقابل، أن يقدم المعارضون، وخصوصاً من غير المتورطين في صراع حياة أو موت معها، على خطوات إيجابية مشجعة وداعمة في أقل تقدير. أما في الجهة الأخرى، فثمة من ينظر إلى هذه الخطوات باعتبارها شكلية وتنفيسية، وأنّها لا تأتي وفق سياق طبيعي من وقف العنف، وعقد التفاهمات، وإبداء الاستعداد للمشاركة في السلطة عبر حكومة ذات تمثيل يكرس النوايا الإيجابية لا السلبية....
إنّ القوى المتربصة بسوريا وبوحدتها وبدورها (وخصوصاً الشق الخارجي منه)، لن تدّخر وسعاً في سبيل إلحاق الضرر بهذا البلد وتعطيل دوره، وبكل الوسائل والأساليب. هذه الحقيقة يجب أن تدفع السلطات السورية الى تقديم «المزيد». والمزيد هو هنا مبادرات ذات طابع عملي وسياسي لإثبات حسن النوايا، وخصوصاً حيال تلك الفئة من المعارضة التي لم يعد كافياً إسباغ صفات الوطنية عليها. فلقد بات مطلوباً اتخاذ خطوات وقرارات جذرية نسبياً، من نوع فتح حوار مع ممثلي تلك الفئة، ودعوتهم سريعاً إلى المشاركة في إدارة شؤون البلاد. فالمشاركة هي الآن، في الغرم لا في الغنم، ومن يقدم عليها، إنما يخوض في الواقع مغامرة، ولا يحقق مكاسب شخصية أو فئوية، وإن كانت النتائج ستصب ربّما لمصلحة سوريا ومنع سقوطها في التفتيت والفوضى والانقسام، كما يخطط كثيرون.
لماذا لا يبادر الرئيس الأسد الى تأليف حكومة ذات صدقية في نظر أوساط سورية حريصة؟ أما إذا تأخر تأليف الحكومة المنشودة، أو كان تأليفها من بعض الأسماء التي لا تضيف شيئاً، فسنكون أمام مرحلة جديدة من تضييع الفرص وتعقيد الأزمة وتصعيد النزف والدم والمخاطر.
مرة جديدة: الدولة أهم من النظام، والشعب أهم من الأحزاب والأشخاص.
* كاتب وسياسي لبناني