تخيّلوا لو أنّ جوزيف ك. علم من البداية الى النهاية ماهية تُهمه. تخيّلوا لو أنّه كان هناك جُرم وتهم وأدلة. تخيّلوا لو أنّ محاكمة جوزيف ك. كانت «عادية» بحكام ومحكومين ومحامين وحراس وقاعات مهيبة. تخيّلوا لو أنّ جوزيف ك. لم يمُت في نهاية «المحاكمة»؛ هل كان عندها ليكون لـ«المحاكمة» أي من معانيها ومقولاتها؟إنّ الشعور الأشد الذي يتملّك الفرد منا حين يقرأ «المحاكمة» لفرانتس كافكا، هو عدم التصديق والدهشة من الحالة العبثية التي يسردها الكاتب بتفاصيل تجمع بين واقع مجرد وآخر سريالي، تاركاً إيانا مترددين غير مصدقين، متهمينه بنزعته السوداوية للحياة حتى يصعقنا المشهد الأخير حين يغرس أحد الحارسين سكيناً في قلب جوزيف ك. فقط عندها، نصدق أنّ «المحاكمة» كانت حقيقية، وأنّ العبثية هي واقعنا المطلق.

الشيخ خضر عدنان اعتُقل إدارياً طيلة أشهر عديدة. مرة تلو أخرى جاء الاحتلال، بفرعيه الإسرائيلي «والفلسطيني»، الى بيته ليزجّ به في زنازينه لأشهر عديدة، دون محاكمة. حاله كحال الآلاف من المعتقلين الإداريين في سجون الاحتلال. اعتقال إداري هو حبس دون محاكمة، لأنّ لا جريمة ارتكبت، عليه فلا تهمة ولا شهود ولا دلائل. اعتقال كافكائي بامتياز. وفيما ينص القانون «المعلن» على أنّ هذا الإجراء يبقى في حُكم الاستثناء لا القاعدة، إلا أنّه في الواقع القاعدة التي يبدو أنّ لا استثناء لها. فالاحتلال رغم إبداعه الفذّ، ليس باستطاعته ــ لا فكرياً ولا اقتصادياً ولا أخلاقياً ــ أن يخلق المرة تلو الأخرى تهماً تفي شروط القانون لتجريم شعب كامل يطالب بالحرية. الاحتلال واقعي ولا يكذب على نفسه، لذلك فقد حوّل الاعتقال الإداري الى واقع يومي وليس حدثاً استثنائياً، فيما يأبى العالم المتقوقع في تنوُّره أن يصدق هذه العبثية.
الشيخ خضر عدنان فهم وعاش على جلده كذب الاحتلال، إلا أنّه قرر هذه المرة عدم الرضوخ وقبول الواقع على أنّه طبيعي، فرفض بكل ما فيه من قوة ومثابرة وإيمان متصدياً للاحتلال في عقر زنازينه، فصيّر جسده زنزانة للمحتل. وهنا عظمة نضال الشيخ خضر، فهو لم ينتظر التضييق عليه في التفاصيل التي تلي الاعتقال الإداري. هو لم يختر حدثاً «خاصاً» ومغايراً لكي يتحدى. بل هو تحدّى ما بات ممارسة عادية للاحتلال، وبذلك أعاد النضال ضد الاحتلال الى الخطوط الأمامية. أعاد قضية الأسرى الفلسطينيين إلى صُلب المقاومة فيما يحاول الاحتلال، بالتعاون مع حلفائه، سلخ قضية الأسرى عن القضية الوطنية وتحويلها الى ملف قابل للمفاوضات والمساومات السياسية، كحاله مع تجزئة باقي أركان النضال الفلسطيني.
في الجلسة الأولى التي عُقدت لسماع جوزيف ك.، الذي كان مثلنا لا يزال يؤمن بأنّ صوته قد يُسمع وبأنّ العدل ليس بدعة أخرى ابتكرها الأقوياء، نادى المتهم بأعلى صوته: «إنّ الذي حدث لي ليس حالة منفردة، فإن كانت كذلك عندها لن تكون بالقدر ذاته من الأهمية كما أنّها لن تكون كذلك بالنسبة اليّ، بل إنّها ظاهرة لإجراءات تُتخذ بحق الكثيرين. إنّي باسم هؤلاء أقف هنا الآن، وليس فقط من أجل نفسي».
في «المحاكمة» يظل القارئ موهماً نفسه بأنّ أحدهم سيُنصف جوزيف ك.، في النهاية، لكن ذلك لا يحدث. هكذا هي الحال مع الأسرى الفلسطينيين، فلسنين أوهمنا أنفسنا وانتظرنا، لأنّه لا بد من أن يحدث شيء وينهي تلك الحالة العبثية من الظلم المستمر الذي يعيشونه، إلا أنّ إضراب الشيخ خضر عن الطعام هو مقولة لتهشيم هذا الوهم. هو تجسيد حي للظلم المتأصّل في مسامات هذه الحياة، عليه، فما كان للشيخ خضر أن يتحرر إلا بتقديم جسده الحُر قرابين على مذبح العدل، للتذكير بأنّ الأسرى هم أسرانا جميعاً. هم أسرى قضيتنا الواحدة والموحدة ضد الاحتلال.
* كاتبة فلسطينية