خلال حديث هاتفي بين الرئيس الروسي ديمتري ميدفيديف والملك السعودي عبد الله، أكّد هذا الأخير لمحادِثِه أنّ أي حوار بشأن سوريا بات «عقيماً الآن» (وكالة الأنباء السعودية، 22 شباط/ فبراير 2012). ما المقصود بذلك؟ أنّ السبيل الوحيد المُتاح هو التدخّل العسكري؟ أنّه ينبغي تسليح المعارضة؟ يبدو أنّ مؤتمر «أصدقاء سوريا» سار في هذا الاتجاه.تطرح الانتفاضة في سوريا، التي ستدخل قريباً عامها الثاني، أسئلة بارزة، ما من أجوبة مبسّطة عنها، ما لم تُنتهَج سياسة الأسوأ. في هذا الإطار، لا بدّ من التذكير بالثمن الذي دفعه العراقيون، وما يزالون يدفعونه، وسيستمرون بدفعه خلال العقود المقبلة، لقاء إطاحة الولايات المتحدة الأميركية صدّام.


أسباب الثورة

نشبت الثورة في سوريا للأسباب الثلاثة نفسها التي أشعلت فتيل الاحتجاجات من المغرب إلى العراق:
ــ رفض نظامٍ استبدادي، وتعسّف الدولة المطلق وأجهزتها القمعية، وامتهان التعذيب؛
- تفشي الفساد على نطاق واسع ـــــ أدى الانفتاح الاقتصادي (الذي شجّعه الغرب إلى حد كبير) إلى استيلاء المافيات المحيطة برئيس الدولة على الثروات الوطنية ـــــ ثراء فاحش لطبقة صغيرة يتناقض مع فقر يترافق مع الانفصال عن الدولة (وهو أيضاً ما أراده المستشارون الغربيون)؛ - تأثير الشباب. الفئة العمرية الأكثر عدداً في التاريخ التي تصل إلى سن الرشد في البلدان العربية والتي على الرغم من أنّها مثقفة، لا تملك وسائل الاندماج الاجتماعي أو العمل أو حتى ممارسة مسؤولياتها، بما يتلاءم مع مستوى طموحاتها.
سمحت هذه العوامل الثلاثة بتحقيق فوزٍ سريع للتحركات الاحتجاجية في تونس ومصر، لكنّ الوضع كان أصعب في اليمن. كذلك، اضطرت القوات العسكرية التابعة لمنظمة حلف شمالي الأطلسي (الناتو) إلى التدخل، منتهكة إلى حد كبير التفويض الممنوح لها بموجب القرار رقم 1973 الصادر عن مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، وذلك لهزيمة العقيد معمّر القذافي. في البحرين، تم احتواء هذه التحركات عبر تدخّل الدبابات السعودية، لكنّها لا تزال تعبّر عن نفسها بقوة. أما في أماكن أخرى، فقد ساهم مزيج من التنازلات السياسية (في المغرب) والهبات المالية (الجزائر والمملكة العربية السعودية) في احتواء هذه الاحتجاجات، لكن لكم من الوقت؟
ماذا عن سوريا؟ ظنّ الرئيس بشّار الأسد، الذي كان ينعم في البداية برصيد من الشعبية، أنّ السياسة الإقليمية التي تنتهجها دولته (معارضة إسرائيل وسياسات الولايات المتحدة) ستجعله بمأمن. لكنّه أخطأ تماماً، وعلى مرّ الأشهر، سعى إلى تصوير الاحتجاجات السلمية باعتبارها مُسلّحة، بتحريض من الخارج، وهدفها الوحيد التخلص من نظامٍ يقف في وجه الأطماع الإسرائيلية والأميركية. من خلال رفضه القيام بإصلاحات جدية وإقامة حوار مع المعارضة، وعبر لجوئه الاعتباطي إلى العنف في مواجهة التظاهرات التي كانت أساساً سلمية، وتعميم اللجوء إلى التعذيب، ساهم في تصاعد وتيرة العنف وتحوّل شريحة من المعارضة إلى القتال المسلّح. وقد شجّع في الوقت عينه التدخلات التي كان يدّعي محاربتها (راجع «Jours de tourmente en Syrie»، صحيفة لو موند ديبلوماتيك، آب/ اغسطس 2011).
وبهذه الطريقة أيضاً، سهّل أهداف أولئك الذين لا يسعون إلى الإصلاح (ولا إلى إرساء نظام ديموقراطي)، بل يحضّرون لهجوم على إيران، آملين أن يُسقطوا أولاً حليفها العربي الأساسي.
من يستطيع أن يصدّق، ولو لثانية، أنّ النظام السعودي يسعى إلى إرساء الديموقراطية في دمشق، وهو الذي لا يعترف بأي مجلس مُنتخَب؟ هذا النظام الذي أعلن وزير الداخلية فيه للتو أنّ التظاهرات في شرق البلاد ما هي إلا «شكل جديد من أشكال الإرهاب»؟
من يستطيع أن يصدّق أنّ الحريات هي الدافع وراء تصريحات الولايات المتحدة التي لم تكن تتردد في إرسال «إرهابيين» اعتقلتهم هي ليخضعوا للاستجواب في سوريا (في إطار ممارسة تُعرَف بـ«عمليات التسليم»)، لأنّ هذه الأخيرة تعتمد التعذيب؟
من يستطيع أن يصدّق أنّ الديموقراطية هي همّ نيكولا ساركوزي، هو الذي كان يستقبل بشّار الأسد في باريس في تموز/ يوليو 2008، ويرد له الزيارة في أيلول/ سبتمبر، ويدعم حاكمَي تونس ومصر المستبدّين، ولم يقل كلمة عن المجزرة التي وقعت في غزّة خلال الاجتياح الإسرائيلي في كانون الأول/ ديسمبر 2008؟ والمثير للسخرية أنّه في هذا الوقت، تلقّى الصحافيون في صحيفة «لو فيغارو» تعليمات من إدارة الصحيفة تنص على عدم الإتيان على ذكر السجناء السياسيين في سوريا في مقالاتهم.
هدف هذه البلدان جميعها، وهدف إسرائيل، إطاحة نظام حليف لإيران، وذلك في إطار الاستعداد لهجوم ضد هذه الأخيرة.
من الواضح أنّ قوى متعددة، بما في ذلك قوى من داخل المجلس الوطني السوري، تحضّ على التدخّل العسكري الذي يستند إلى حملة إعلامية ضخمة.
المعركة في سوريا إعلامية أيضاً. خسر النظام هذه المعركة منذ وقت طويل، فتصريحاته غالباً ما تكون مثيرة للسخرية، وأكاذيبه فاضحة وممارساته وحشية. رغم ذلك، هل المعلومات التي تُنشَر على مدار الساعة على القنوات الإذاعية والتلفزيونية، والمنقولة غالباً عن مصدر واحد، أي المعارضة خارج البلاد، صحيحة؟ نفت وسائل الإعلام لوقت طويل المعلومات التي تتحدث عن وفاة ضباط ورجال شرطة، وقد ثبتت صحة هذه المعلومات اليوم. ومنذ عام، تعلن وسائل الإعلام بانتظام أنّ الاحتجاجات وصلت إلى دمشق. لا يمكننا إلا أن نأسف على وفاة صحافيَّين في حمص ونذكّر بأنّ النظام، من خلال منعه الصحافيين في معظم الأحيان من المجيء أو التنقل في سوريا، يشارك في ما يدعي إدانته.
سنجد على هذا الرابط تقريراً يمكن طبعاً الاعتراض على نقطة أو نقاط معينة فيه، لكنه يعرض تحقيقاً ميدانياً كان يُفترض أن يلقى اهتماماً أكبر:Syrie, une libanisation fabriquée، CIRET-AVT et CF2R، في 11 شباط/ فبراير 2012.


العسكرة

في حمص، يُعتبَر تصرّف القوات التابعة للنظام غير مقبول؛ فهي لا تسعى إلى تدمير المدينة بكاملها، بل الأحياء السنيّة التي تمرّدت فحسب. ذلك لأنّ الجيش يواجه مقاتلين هم في معظم الأحيان مخلصون ومستعدون للقتال حتى النهاية، بدعمٍ من شريحة من الناس. قد يفسّر ذلك عنف القتال، لكنّ الوضع لا يبرر أبداً ممارسات النظام الوحشية. والجدير بالذكر في هذا الإطار أنّ الذرائع التي استُعمِلت ضد حماس في كانون الأول/ ديسمبر 2008 ـــــ كانون الثاني/ يناير 2009 («أنّ أفرادها يتخذون من المدنيين رهائن ويختبئون في ما بينهم») لم تتكرر في حالة سوريا؛ فلنأمل أن يتم التخلي عنها خلال الهجوم الاسرائيلي المقبل ...
أما البُعد الأخطر في هذا النزاع فيرتبط بتحوّله إلى مواجهات «طائفية». من الخطأ القول إنّ الوضع في سوريا ينحصر بانتماء ديني أو طائفي: فهناك علويون يؤيدون المعارضة، وسنّة يفضّلون النظام على المتمردين. لكن مما لا شكّ فيه أنّ السلطة التي تستند إلى القاعدة العلويّة أشعلت التوترات. من جهتها، ليست المعارضة أو بعض شرائحها، وبخاصة المجلس الوطني السوري، أفضل حالاً وهي تبدو عاجزة عن تقديم أي ضمانات جادة للمستقبل. يبدو أنّ أحداً لم يلاحظ مثلاً كيف أنّ الأكراد، الذين كانوا في طليعة المتظاهرين (وذلك بشكلٍ خاص للاستحصال على الجنسية) باتوا يقفون الآن على الحياد، مذهولين برفض المجلس الوطني السوري الاعتراف بحقوقهم (دوغو ارغيل، «أكراد سوريا Syrian Kurds»، صحيفة زمان، 21 شباط/ فبراير). من جهته، يبدو أنّ النظام يريد إعادة إطلاق نشاطات حزب العمال الكردستاني، وهو حزب استعان به خلال مواجهاته مع تركيا في التسعينيات، ولا يزال يتمتع بالشعبية في صفوف أكراد سوريا.
من ناحية أخرى، يرفض عدد من المعارضين المجلس الوطني السوري، الذي يتهمونه بأنّه تحت سيطرة الإسلاميين والذي يضم بضع شخصيات موالية للغرب لتتحدث أمام وسائل الإعلام. وبذلك، تشكّلت للتو مجموعة جديدة، «الحركة الوطنية للتغيير»، برئاسة الرئيس السابق للمنظمة السورية للدفاع عن حقوق الإنسان الدكتور عمار القربي (ايبك يزداني، «معارضون سوريون يؤلفون تحالفاً جديداً Syrian dissidents establish new bloc»، صحيفة دايلي نيوز، 21 شباط/ فبراير). هم يلومون المجلس الوطني السوري لرفضه ناشطين علويين أو تركمان.
في السياق نفسه، لا تزال طوائف أخرى، وبخاصة الطوائف المسيحيّة والدرزية مترددة (اقرأ فيل ساندز، «دروز سوريا: أقلية صامتة غير مستعجلة للانحياز إلى أحدSyria’s Druze community : A silent minority in no rush to take sides»، صحيفة «ذا ناشونال»، 22 شباط/ فبراير)، لا حباً بالنظام، بل خوفاً من الفوضى التي قد تترتّب عن سقوطه من دون مفاوضات.
ذلك أنّ عسكرة النزاع قيد التنفيذ وتحمل معها جذور حرب أهلية (ربما تكون المخرج الوحيد للنظام). يؤكّد تقرير نشرته الصحيفة اليومية اللبنانية «دايلي ستار» (23 شباط/ فبراير) بشأن الجيش السوري الحر على عنصرين غالباً ما تتستّر عليهما الصحافة: لهذا الجيش قواعد في لبنان (وفي الخارج أيضاً في تركيا)؛ هو لا يتردد في تنفيذ عمليات انتقامية طائفية، من خلال قتل العلويين بدافع الانتقام، («مقاتل في الجيش السوري الحر في لبنان يكشف آليات عمله FSA soldier in Lebanon discloses tactics»). كذلك، انضمّ مقاتلون عراقيون إلى المتمردين السوريين (تيم أرانغو ودريد عدنان، للعراقيين مساعدة ثوار سوريا يرد الدين لهم «For Iraqis, Aid to Rebels in Syria Repays a Debt »، صحيفة نيويورك تايمز، 12 شباط/ فبراير 2010)، من بينهم أعضاء في تنظيم القاعدة، وهو ما أكّدته وزارة الخارجية الأميركية.
نحن في مأزق. المعارضة، أو بالأحرى الحركات المعارضة، غير قادرة على إسقاط النظام، والنظام عاجز عن سحق المعارضة. يمكننا القول حتى إنّ مستقبل النظام مسدود ولم يعد أمامه أكثر من بضعة أشهر. أما السؤال فهو إن كانت البلاد ستغرق في الحرب الأهلية أو ستعرف شكلاً من التحوّل السياسي الذي يتطلب حواراً، شئنا ذلك أو أبينا.
في هذا الإطار، ينبغي فهم فيتو الزعيمين الروسي والصيني على قرار مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة بتاريخ 4 شباط/ فبراير. تم تعديل نص القرار مع أخذ عدد من اعتراضاتهما بعين الاعتبار، لكنّهما استمرا في المطالبة بانسحاب القوات الحكومية من المدن من دون التحدث عن المقاومة المسلّحة، وفي الإشارة إلى خطة جامعة الدول العربية، المفروضة من المملكة العربية السعودية، التي تقضي بتحييد بشّار الأسد. هل يمكن أن يُستخدَم هذا القرار كغطاء لتدخّل عسكري؟ من الواضح أنّ هذا ما تخشاه موسكو وبكين اللتان لا تزالان متأثرتين بسابقة القرار الرقم 1973 بخصوص ليبيا. نستطيع أن نتفهّم شكوكهما، فالتصريحات الفرنسية وغيرها، تلمح إلى عملية عسكرية بذريعة حماية المدنيين.

طريق التفاوض

هل ينبغي أن نبقى مكتوفي الأيدي؟ كلا. لكنّ الاحتمالات لا تنحصر بالخيار العسكري وحده. فمن جهة، الضغوط المفروضة على سوريا، وبخاصةٍ في المجال الاقتصادي، قائمة (يمكن تعزيزها شريطة استهداف القادة وليس الشعب)، وهي تدفع شريحة من الطبقة البورجوازية التي تؤيّد النظام إلى التساؤل. من جهة أخرى، ساهمت البعثات الأولى التي أرسلتها جامعة الدول العربية إلى سوريا، على الرغم من الصعوبات، في الحد من العنف؛ والمملكة العربية السعودية هي التي استحصلت على انسحاب هذه البعثات (ينبغي قراءة التقرير الصادر عن هذه البعثات؛ هو لا يمت بصلة إلى ما قيل في وسائل الإعلام، إلى حدّ أنّ هذا النص بقي مخفياً لوقت طويل). ينبغي على العكس، الاستحصال على إذن يسمح لهذه البعثات باستئناف عملها والتوسّع. في النهاية، وبخلاف ما يُكتَب، لم يعطِ الروس أو الصينيون ضوءاً أخضر للأسد، بل هم يحاولون فرض الضغوط عليه. وبحسب صحيفة لبنانية مطّلعة، امتنعت السلطات السورية، في ظلّ ضغوط من الروس، عن استعمال الطيران وغيره من الأسلحة الحربية التي في متناولها، خلال حملة القمع الحالية ـــــ من هذا المنطلق، لسنا في وضع مشابه لما حصل في حماه عام 1982 («الأخبار»، 22 شباط/ فبراير 2012).
طريق التفاوض ضيّق ويستغرق وقتاً. في الانتظار، يموت الناس ... لكنّ التدخّل العسكري سيوقع عدداً أكبر من الضحايا.
فضلاً عن ذلك، لا بد من ذكر مقال مثير للاهتمام لرئيس الموساد السابق ومستشار الأمن الوطني السابق، افرام هليفي، نُشِر في صحيفة «أنترناشونال هيرالد تريبيون» بتاريخ 7 شباط/ فبراير بعنوان «Iran’s Achilles’ Heel». يشرح هذا المقال، باختصار، أنّ إسقاط النظام في دمشق سيسمح بتفادي البديل الكارثي: قصف إيران أو تشديد العقوبات عليها، ما سيرفع سعر برميل النفط إلى مستوى لا يمكن تحمّله. بالمقابل، من خلال حرمان طهران من حليفها السوري، سيتم إضعافها إلى حد كبير.
* مدير مساعد في «لو موند ديبلوماتيك
(ترجمة باسكال شلهوب)