ككل عام دراسي جديد، يبقى التعليم الرسمي يعاني الكثير من المشكلات، دون أن يجد الاهتمام اللازم من قبل الدولة، المسؤولة المباشرة عنه. ما هي الأسباب التي أدت بالتعليم الرسمي الابتدائي منه على نحو خاص إلى هذا الوضع، وما هي الحلول الممكنة التي قد تسهم في النهوض به ؟ التعليم هو عملية اجتماعية، اعتمدتها المجتمعات، منذ تكوّنها الأول، بهدف إعداد الأجيال الفتية للعيش الاجتماعي.
فينقل الجيل البالغ إلى الجيل الناشئ كل ما ورثه وكل ما أنتجه من تراث ثقافي، للحفاظ عليه من جهة، وصونه من الضياع، ففيه هويته وتمايزه وبقاؤه، ولاستعماله من جهة ثانية بما يحويه من لغات وعلوم وقيم وأدوات ووسائل عيش، وكذلك من أجل تطويره وإغنائه من جهة ثالثة، ليظل المجتمع حياً قادراً على تلبية الحاجات والتطورات المستجدة.
إلى جانب كونه ضرورة وطنية، فالتعليم إلى ذلك ضرورة اقتصادية، وهو بالتالي شأن عام لا يمكن السلطة السياسية أن تتجاهله، أو أن تغفل عنه. وربما من الأفضل لو أنّ السلطة التربوية في لبنان تتخلى عن استعمال صفة الرسمي للتعليم الحكومي، وتستبدلها بمفهوم التعليم العام، كما تفعل كل الدول العربية والفرنسية والإنكليزية، وهو الأصح عوض التعليم الخاص. واستعمال مفهوم التعليم النظامي عوض التعليم المهني.
وإذا كنا نقول إن التعليم الرسمي ضرورة وطنية، فإن ذلك لا يعني أنّنا ندعو إلى التخلي عن التعليم الخاص، إذ بالعودة إلى الجذور التاريخية لنشأة التعليم وتطوره في لبنان، نجد أنّ التعليم الخاص أدّى دوراً مميزاً، وهو لا يزال يستقطب أكثر من ثلثي المتعلمين في لبنان (69% عام 2009 ــ 2010، راجعوا جدول تطور تلامذة التعليم الرسمي والخاص في لبنان، في نهاية المقال).
يبيّن الجدول بوضوح أنّ نسبة تلامذة التعليم الرسمي كانت تزيد بقليل عن ثلث المتعلمين في لبنان في 2001 ــ 2002، لكنّها ظلّت تتراجع سنوياً، وباطّراد، حتى وصلت إلى أقل من الثلث في 2010 – 2011، وتكاد تقارب الربع. لكن، على الرغم من إقبال الأهالي على المدرسة الخاصة، الذي يعود لأسباب تاريخية وطائفية (راجع البحث الذي نشرته في 1999: «الدولة والتعليم الرسمي في لبنان») وإلى تدني مستوى المدرسة الرسمية «المعارف» تاريخياً، فإنّنا نرى أنّ النهوض بالمدرسة الرسمية ضرورة وطنية واجتماعية لأسباب عدّة نعرضها في ما يأتي.
فالمدرسة الرسمية مدرسة لا طائفية، وهي بذلك قادرة على احتضان اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب، يتعلمون معاً ويتفاعلون ثقافياً واجتماعياً، فيتعرفون عن قرب إلى بعضهم البعض، فتزول بذلك الأوهام والمخاوف التي قد تتراكم في أذهانهم، فيما لو أنّهم ظلّوا يتعلمون ويكبرون كل على حدة، في مدرسة الطائفة التي ينتمون إليها، كما يحصل في كثير من الحالات الآن. فتتحول المدرسة الرسمية بذلك إلى مصهر للتفاعل الإيجابي بين أبناء الطوائف اللبنانية المختلفة وما أكثرها ، وما أشد الحاجة إلى التفاعل بين أبنائها.
والمدرسة الرسمية لأنّها مدرسة مجانية، فهي مدرسة لا طبقية، يلتحق بها إذا ما تحسن مستواها، أبناء اللبنانيين من كل الطبقات والفئات الاجتماعية، دون أي تمييز في فرص الالتحاق أو التعليم أو التعلُّم. فتتحول بذلك إلى مكان قادر على التخفيف ما أمكن من قساوة الفروق الطبقية بين المتعلمين، وما يلحقها من تفاوت في فرص التعلُّم.
والمدرسة الرسمية هي مدرسة لا مناطقية، فهي في كلّ المناطق اللبنانية دون استثناء، يدرس أبناؤها جميعاً في كتاب واحد، على أيدي هيئة تعليمية ذات إعداد واحد، وتخضع جميعها لتوجيه واحد وتفتيش واحد، فيضعف بذلك التفاوت التعليمي والثقافي بين المناطق اللبنانية الذي نلحظه اليوم من خلال الإحصاءات الرسمية. وباختصار المدرسة الرسمية هي مدرسة موحِّدة لكل اللبنانيين على اختلاف مذاهبهم وانتماءاتهم الاجتماعية والسياسية والمناطقية.
ونشدد على التمييز في هذا السياق بين المدرسة الرسمية الابتدائية والثانوية، فالتعليم الرسمي الثانوي هو في حالة مقبولة إلى حد كبير، أما المدارس الابتدائية، فقد أصبح وضعها كارثياً.
من المؤشرات التي تبين مدى أزمة التعليم الرسمي الابتدائي، ابتعاد الناس من كل الطوائف والمناطق عن تسجيل أبنائهم فيها. فهي تستوعب ما بين 15 و30 % من تلامذة لبنان تبعاً للمناطق. وفي دراسة إحصائية أجريتها في السنة الماضية تبيّن لي أنّ عدد التلامذة المسجلين في المدارس الابتدائية لساحل المتن الجنوبي (22 من أصل 23 مدرسة في الضاحية الجنوبية) هو بالضبط 9498 تلميذاً، لجمهور يتعدى عدده 850000 مواطن يسكنون هذه المنطقة، نسبة كبيرة منهم هم من أصحاب الدخل المحدود والمتدني.
كذلك، ترتفع نسبة الرسوب في الصف الأول من كل حلقة من حلقات التعليم الأساسي. في الرسمي بلغت نسبة الرسوب 45% في الصف السابع، و33% في الثامن و15% في التاسع. أما في الخاص غير المجاني، فقد جاءت النسب تباعاً كما يلي:10% و9% و39%.
كذلك راوحت نسبة التسرب في لبنان في 2007 ــ 2008 ما بين 7.3% في الصف الثامن، و20.5% في الصف التاسع. وسجلت النسب الأعلى من تسرب التلامذة في آخر صف من كل مرحلة من المراحل التعليمية، وبخاصة في آخر صف من المرحلة المتوسطة. في القطاع الرسمي راوحت نسبة التسرب ما بين 12 و 18%، وفي الخاص غير المجاني ما بين 4.0 و 4.1% (الإحصاءات مأخوذة من كتاب تطور المؤشرات التربوية /المركز التربوي، 2002 ـــــ 2010).
كذلك هناك انخفاض شديد في نسبة معلم/ تلميذ (8%)، الأمر الذي يعني: عدد كبير من المعلمين مقابل عدد قليل من التلاميذ، وكلفة عالية للتلميذ الواحد.
وتعاني المدرسة نسبة متدنية للنجاح في امتحان شهادة البروفيه ــ المتوسطة الرسمي، فبلغت نسبة الناجحين من مدارس الضاحية الجنوبية الرسمية في هذا الامتحان على سبيل المثال 64 ,31% في العام الدراسي الماضي.
إنّها أزمة مركبة وتتداخل فيها الأسباب الناجمة جميعها عن سبب أساسي واحد هو تخلّي الدولة عن التعليم الرسمي. عندما يتبيّن لصاحب المشروع، أي مشروع، أنّ استمرار المشروع هو لغير مصلحته، فإنّه بالضرورة وببداهة سيتخلى عنه. لا يمكن أن نتصوّر صاحب مشروع صناعي أو تجاري أو تعليمي أو سياسي أو وطني، سيستمر في مشروعه إذا ما تبيّن له أنّ مردود هذا المشروع يتناقض مع مصالحه. المدرسة الرسمية باعتبارها مشروعاً وطنياً موحِّداً للطوائف والمناطق والطبقات، لذلك هي تتناقض جوهرياً وبنيوياً مع مصالح الفئات الاجتماعية التي استفادت من النظام السياسي اللبناني تاريخياً، والتي تستمر في إعادة إنتاجه وإنتاج نفسها بواسطته. النظام السياسي في لبنان هو نظام طائفي طبقي، وبالتالي فإنّ الدور الطبيعي لأجهزة هذا النظام، وكأي نظام آخر، لا بد أن يكون إعادة إنتاج شروط استمراره. وهكذا نستطيع أن نفهم أسباب تمسك الدستور اللبناني وتعديلاته، وآخرها اتفاق الطائف بـ«حرية التعليم في لبنان» التي لا تمسّ.
إنّ أجهزة النظام السياسي لا بد أن تعمل وفق مصالح النظام ومصالح المستفيدين منه. في الفترة الذهبية للبنان، ما بين نهاية الخمسينات حتى أواسط السبعينات، كان أيضاً التعليم الرسمي يعيش فترته الذهبية، وذلك لأسباب اجتماعية واقتصادية. فقد شهدت المنطقة العربية ظروفاً انعكست إيجاباً على التعليم الرسمي في لبنان، إذ نتيجة لاكتشاف النفط في دول الخليج، وتدفق البترودولار إلى لبنان، والثورات العربية الاشتراكية في أكثر من بلد عربي وتدفق الأموال الهاربة من التأميم إلى البنوك اللبنانية، ونشوء الكيان الإسرائيلي، وانتقال التجارة العربية من الموانئ الفلسطينية إلى بيروت، برز طلب شديد على يد عاملة متعلمة بحدود متفاوتة. الأمر الذي دفع أهل النظام التعليمي إلى التوسع الكبير في التعليم الرسمي، لكن مع حروب السبعينات وما تبعها من نمو التوجهات الطائفية، ومع الأزمة الاقتصادية التي لا نزال غارقين في لجتها، تخلّت الدولة عن التعليم الرسمي، وبخاصة الابتدائي منه، حتى وصلت حالته إلى وضعية منازعة ما قبل الموت. هناك العديد من المؤشرات التي تبيِّن ذلك، ومنها أنّ إدارة المؤسسة التعليمية مهمة فنية تحتاج إلى إعداد لتزويد المدير بالمهارات اللازمة لإدارة المدرسة. وعلى الرغم من أنّ من مهمات كلية التربية منذ إنشائها في 1951 إعداد مديري المدارس، فإنّ الكلية لم تقم أبداً بهذا الدور إلا منذ سنتين فقط. والدفعة التي تخرجت، والتي لا يزيد عدد أفرادها على عشرين، توجهت إلى التعليم الخاص. بينما لا يزال المدير في المدرسة الرسمية يعيَّن دون أي إعداد. ما الذي يمنع الوزارة من الطلب إلى الكلية إعداد حاجتها من المديرين؟
كما أنّ التعليم أصبح مهنة فنية تتطلب كفايات ومهارات لا يمتلكها الإنسان بالفطرة! ويبدو أنّ هذا الأمر لم يبلغ بعد مسامع القيمين على التعليم الرسمي. أقفلت دور المعلمين الابتدائية التي كانت تزود التعليم الرسمي بحاجاته من المعلمين «المُعَدّين»، دون أن تعمد وزارة التربية إلى إيجاد البديل، على الرغم من أنّ كلية التربية بادرت إلى «التنطح» للقيام بهذه المهمة، لكن، منذ أواسط التسعينات حتى اليوم، فإنّ متخرّجي كلية التربية، الجيدي الإعداد وذوي الكلفة العالية على الدولة، لا تتعرف اليهم وزارة التربية، ولا تشعر بوجودهم، بل هي تعمل على سد حاجات المدارس الرسمية بجحافل من المتعاقدين غير المعدين، الذين ناهز عددهم الخمسة عشر ألفاً، وتدفع بمتخرّجي كلية التربية، الذين دفعت هي تكاليف إعدادهم إلى التعليم الخاص. أسال ما الذي يمنع الوزارة من الطلب إلى الكلية إعداد حاجاتها من المعلمين، ولماذا لا تعيِّن متخرّجيها.
ومن مهمات كلية التربية التي لم تباشرها أيضاً إعداد الكوادر التربوىة التي يحتاج إليها التعليم الرسمي، وبخاصة المفتشون والمرشدون والموجهون. هل يعرف اللبنانيون مثلاً أنّ المفتشين التربويين غير تابعين لوزارة التربية، وهم لم يتلقوا أيّ إعداد تربوي، وأن عددهم يراوح ما بين 60 و70 مفتشاً للتفتيش على جيش من المعلمين، يزيد على الأربعين ألفاً؟ وهل يعلمون أنّ مديرية التوجيه في الوزارة أُنشئت في 1972، ولم تباشر عملها إلا منذ بضع سنوات، وهي لا تزال حتى اللحظة لا تضم أيّ كادر متفرغ فيها، عدا مديرها؟
كذلك لم تجدد الإدارة المركزية لوزارة التربية، التي تشرف على عدد كبير جداً من الموظفين والمعلمين في التعليم الرسمي، لم تجدد هيكلتها وبنيتها منذ إنشائها بصورتها الحالية في بداية الخمسينات. صحيح أنّه استحدثت المناطق التربوية، لكنّها ظلت أدوات تنفيذية محدودة الصلاحيات.
نظراً إلى هذا التعقيد الشديد في أزمة التعليم الرسمي، من أين يفترض أن يبدأ
علاجها؟
مثلما أنّه لا يكفي لمعالجة المريض إعطاؤه بعض المسكنات، بل التوجه إلى تشخيص عميق وصحيح لأسباب العلة، وبالتالي البحث الجاد عن العلاج الشافي، لا بد في مقاربة أزمة التعليم الرسمي من الذهاب إلى الأسباب العميقة التي تقف وراء القرار التربوي فتمنع صدوره، أو تحرف توجهه. لقد تلقت وزارة التربية خلال السنوات الأخيرة مساعدات مالية كثيرة (كان آخرها 53 مليون دولار) للعمل على النهوض بالتعليم الرسمي. حتى اليوم لا نعرف ماذا فعلت وزارة التربية بهذا الخصوص ولا ماذا تنوي أن تفعل. كذّبنا أنفسنا، وقلنا لعل وزير التربية الحالي، القادم من وسط تعليمي، يشمر عن ساعديه ويبدأ في دراسة جدية لوضع التعليم الرسمي، ليبدأ بعدها وضع الخطط المناسبة للنهوض به، وإذا به يستمر في إدارة الوزارة بالذهنية السابقة نفسها، بالطاقم نفسه من المستشارين و«الأطر» التي استنبتتها العهود السابقة، لا لتطوير التعليم الرسمي، بل «لبعزقة» المساعدات المالية التي كانت ولا تزال تعطى لوزارة التربية من أجل النهوض بالتعليم الرسمي.
الطريق الوحيد الذي يمكن أن يقود إلى إنهاض التعليم الرسمي، هو بإيجاد شريك لوزارة التربية في إدارة أمور المدرسة الرسمية، هذا الشريك هو المستفيد الفعلي من التعليم الرسمي، الذي يهمه النهوض بمستوى التعليم الرسمي لأنّ له المصلحة المباشرة بذلك. هذا الشريك هو المؤسسات البلدية، التي، وإن كان اللبنانيون ينتخبون مجالسها دورياً، إلا أنّها لا تعرف (المجالس والناخبون معاً) ما مهماتها وما هي حدود صلاحياتها، وكما أنّ الكثير من اللبنانيين ينتخبون نوابهم وهم يعتقدون أنّ وظيفة النائب هي تسهيل الحصول على وظيفة أو على خدمة، فيندر أن نجد في لبنان من أعضاء المجالس البلدية أو من الناخبين من يعرف أنّ إحدى مواد قانون البلديات المعمول به حالياً (المادة الخمسين) تنص على أن تتشكل في البلدية لجنة خاصة هي لجنة المدرسة الرسمية، ومهمتها الإشراف على المدرسة ومساعدتها ودعمها وتأمين احتياجاتها ومتابعة ما يجري فيها. وتتألّف من مجموعة اللجان المحلية على المستوى الوطني، لجنة بلدية عليا، مهمتها المشاركة في التخطيط ومتابعة ومراقبة الإجراءات التنفيذية.
تقع مسؤولية نشر المعرفة حول هذا التدبير وتنظيمه وتعميمه على وزارة الداخلية ووزارة التربية والأحزاب ووسائل الإعلام. لا أنادي بأن تتخلى الدولة عن دورها في إنهاض التعليم الرسمي، فهذه مهمة وطنية، لكنني أدعو من «يملك عنزة إلى أن يشهد ولادة عنزته لكي تجلب له توأماً». تعالوا نتبصر في تجربة المجتمعات الأوروبية في هذا الشأن، ولنستفد منها.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية

جدول تطور تلامذة التعليم الرسمي والخاص في لبنان: