قد لا يكون مفاجئاً موقف «دولة فلسطين» من تأييد قرار مجلس التعاون الخليجي بتصنيف حزب الله منظمة إرهابية، ومن ثم التصويت على ذلك في اجتماعَي وزراء الداخلية والخارجية العرب. فالرئيس محمود عباس يتشابه كثيراً مع النظام العربي الرسمي، بالرغم من أنه ليس رئيس دولة قائمة، وبكل الحالات لا يمكن لمتسول الخروج عن الإجماع المالي.
إنما قد تكون المفارقة تخاذل حركة «حماس» وصمتها، والتأييد الضمني لقرار مجلس التعاون الخليجي، وقراري وزراء الداخلية والخارجية العرب. وهنا تكمن الإشكالية في كيفية تحديد السياسات العامة للحركات الإسلامية، وأسباب التغيرات التي تطرأ على مواقفها فجأة. فالتقلبات السياسية التي حدثت لدى بعض التيارات السياسية والشخصيات النضالية والفصائل الجهادية عقب تظاهرات «الربيع العربي»، وخاصة حركة «حماس» التي تأرجحت بين داخل محور المقاومة وخارجه، تطرح تساؤلات حول تحديد ماهية هذه الحركة بغية توضيح هذا الالتباس، ودورها في الأحداث، والتورط المضطرب منذ اندلاع «الربيع العربي».
«حماس» حركة فلسطينية الطابع، لكنها امتداد لحركة «الإخوان المسلمين». من هنا، يمكن القول إن التدخل بأحداث الساحة العربية هو جزء من استراتيجية «الإخوان» للوصول إلى السلطة. الإشكالية ليست طارئة، لكن ارتباط اسم «حماس» بالقضية الفلسطينية يطرح التساؤل عن المكاسب التي يفترض أن تنعكس على القضية الفلسطينية جراء الزج بالنفس في الانقسامات السياسية الإقليمية والعربية. لم يكن متوقعاً من الحركة هذا التورط لأهمية دورها في فلسطين، بعيداً عن تخبطات الساحة العربية، والتفاف الجميع حولها كان من هذا المنطلق.
لقد برز دورها في محور المقاومة، وفي خوضها حربين ضد الكيان الصهيوني في 2008 و2012، وقد ساهمت مشاركتها في إعادة الريادة للقوى الإسلامية بعدما تناوبت عليها التيارات اليسارية والقومية، وهذا رفع من رصيد الحالة الإسلامية بشكل عام، وعزز شعور المسلمين بتحرير بيت المقدس. تلك كانت أهمية «حماس» في كسر هذا الاحتكار بتصويب بوصلة الجهاديين نحو فلسطين بعدما كانت الحركات الإسلامية الراديكالية تغوص في الصراعات الداخلية.
جاءت انطلاقة حماس مع اندلاع شرارة الانتفاضة الأولى عام 1987 استكمالاً لمسيرة الشعب الفلسطيني في مناهضة الاحتلال، ومع دخول منظمة التحرير في مفاوضات التسوية.
كانت حماس في انطلاقتها تعبّر عن تطلعات الشعب الفلسطيني في مواصلة الكفاح المسلح لتحرير كامل التراب. عقدت الآمال عليها، وتبنّى محور المقاومة الحركة لتكون بديلاً شرعياً للمنظمة. هذا أيضاً، شكّل رافعة معنوية لكل التيارات الإسلامية، وخاصة الجهادية، بعدما تفرد حزب الله في صنع الانتصارات، وكان من شأن استفادة التيارات الإسلامية من تجربة حزب الله، أو التنسيق معه، أن يؤسس لعمل مشترك قادر على تحقيق متطلبات العمل الوطني الفلسطيني، وتحرير فلسطين.
اعتقد «الإخوان» أن الحراك الجماهيري هو نتيجة عملهم وتأثيرهم

وليس من غرابة أن يقول قائل إن الحركات الجهادية والسلفية لم تعط لتحرير فلسطين الأهمية التي أعطتها إياها الحركات القومية والوطنية التحررية، وحزب الله، والسبب يكمن في نشأة تلك الحركات، والأهداف الكامنة وراء إنشائها.
صحيح أن الرئيس الراحل ياسر عرفات تورّط، ودخل في اقتتال دامٍ في الأردن عام 1970 وفي لبنان عام 1975، ولكن ضمن أجندة فلسطينية من جهة، ولانتزاع حق المقاومة في التسلح ولإعطاء الفلسطينيين شرعية في استعمال الحدود ليكونوا على تماس مع فلسطين المحتلة، من جهة ثانية. كان شعار فتح «كل البنادق نحو العدو»، غير أنّ أبو عمار سعى جاهداً لعدم التورط في شؤون الدول العربية وأنظمتها، وفي الحروب التي شنت عليها. فعندما حشد المجتمع الدولي جيوشه ضد العراق، لم ينجرف مع الآخرين ولم يلتحق بالموجة، وعوقب على ذلك، فطرد من دول الخليج. وتم وقف المساعدات المالية، وتعرضت المنظمة لظروف عصيبة، ولم ينحنِ «الختيار»، ولم تدجّن المنظمة.
سأله أحد الصحافيين: أخ أبو عمار، إلى أين؟ فجاوب مبتسماً كعادته: إلى فلسطين.
أما الصراع مع النظام السوري، مباشرة أو غير مباشرة، فكان من موقع الدفاع عن النفس حيث حاولت دمشق مصادرة قرار «منظمة التحرير»، فانفجر الصراع بينهما، وأُخرج من طرابلس عام 1983 بعد قتال دام. وكل ذلك كان من أجل رفض الوصاية، ولم يكن من باب التدخل في الشؤون السورية.
ذهب إلى مفاوضات التسوية بعدما أدى دوراً كبيراً في تثبيت شرعية المقاومة وحق العودة، والاعتراف بـ«منظمة التحرير الفلسطينية»، بالرغم من أن الشرط التاريخي كان ضده، ولم يكن الوضع العربي المتردي والمحبط، مناسباً، ويسمح بأكثر من ذلك. وافق على التسوية كونها تعطيه موطئ قدم في الداخل، كمرحلة أولى، وقد تنقله إلى الحديقة الداخلية.
بعد بزوغ نجم «حماس»، وتفردها في الساحة وتهميش بقية الفصائل، بالرغم من الحضور القوي والفاعل لحركة «الجهاد الإسلامي»، والتي تحملت الكثير من أعباء المواجهات (وخاصة معركة 2012)، بقي الاهتمام متركزاً على «حماس» لإصرار محور المقاومة على إعطاء الرمزية لها.
وجاء «الربيع العربي» ليكشف أجندة الحركة ودورها في الأحداث. ولم يكن ما فعلته إلا من أجل إعلاء دورها، وانتقل الاهتمام من الداخل الفلسطيني إلى الداخل العربي. مفارقة غريبة كيف غامرت «حماس» وقفزت في المجهول! حركة مقاتلة جهادية ضمن حدود جغرافية صغيرة لا تتجاوز مساحة غزة تعتقد أنها قادرة على قلب أنظمة بكاملها! إن ما حظيت به لم يكن بفعل قوة تنظيمها وبرنامجها العسكري فقط، وإنما بفعل كفاحها ضد الصهاينة، ما جعل محوراً كبيراً يحتضنها، وسمح لها برفع كل القوى الإسلامية، بمن فيهم «الإخوان» الذين كانوا في حالة ركود وترهل. إن ما أحيا تلك القوى هو ثبات «حماس» في قتال الكيان الإسرائيلي، وابتعادها عن لعبة المحاور.
ولتأكيد ذلك، فإن ما ارتكبه الرئيس المصري السابق محمد مرسي من أخطاء ينبع من الذهنية ذاتها، أي تغليب الهوية الدينية على الهوية الوطنية، فهو لم يكن يحتاج إلى أكثر من شعار فلسطيني ليحكم. كان يفترض فك الحصار، وفتح المعابر، وإلغاء الاتفاقات مع إسرائيل لكي يتحول إلى بطل قومي، إنما كان الإخوان يفكرون في مسارات أخرى للوصول إلى السلطة، ولم يكن همهم فلسطين.

حلم الخلافة الخامسة

اعتقد «الإخوان»، ومن ضمنهم «حماس»، أن الحراك الجماهيري هو نتيجة عملهم، وتحريضهم، وتأثيرهم. ومع سقوط مبارك واندلاع الأحداث في سوريا، سارعت الحركة إلى استكمال دور «إخوان» مصر وتركيا، وانخرطت في اللعبة. قذفت بالقضية المركزية إلى الوراء، وأضحت جزءاً من محاولات الاستيلاء على مصر وسوريا، على أن تبدأ المرحلة الثانية نحو الخليج، حيث الثروة النفطية، ليتم بعد ذلك قيام الخلافة الخامسة، فهل كان ذلك ممكناً؟ هذا الحلم الوحدوي يحتاج إلى مشروع كبير، وبداياته تحتاج إلى عباءة فلسطين في المفهوم المعاصر للقضايا العربية.
لقد كانت القوة الأساسية لجمال عبد الناصر الرد على نكبة 1948 بعد عودته من فالوغا، حيث أصيب: أراد إطاحة المتآمرين على سقوط فلسطين. وكانت محاولات حركة «الضباط الأحرار» منطقية في ظل تقاعس الملك فاروق، ما جعل الجماهير العربية تلتف حول عبد الناصر، كمُلهمٍ وقائد لقضية العرب والمسلمين المركزية فلسطين.
تلا ذلك نصر 1956، وهزيمة العدوان الثلاثي، ممر عزز من حضور عبد الناصر، وبذلك استطاع إيصال فكرة الوحدة من دون الحاجة إلى تنظيم، فمواقفه حولت الجماهير إلى تيار جارف عفوي يبحث عن سبل الرد على الهزائم، فكانت الناصرية ضالّته المنشودة.
أما الحراك الجماهيري الغاضب، فكان أجوفَ وفارغاً... تلك الجماهير كانت ترفض فقط، ولا تعرف ماذا تريد. «الإخوان المسلمون» كانوا يحتاجون إلى شعارات توحّد الأمة والجماهير، والشعار الأساس هو فلسطين كونها العنوان الوحيد المتاح والجامع، وفي ظل غياب مشروع نهضوي ــ تحديثي يواكب حركة العصرنة، ويقدم حلولاً لشعوب المنطقة.
الحلم الذي راود «الإخوان» لم تكن شروطه قد نضجت، وربيعهم يشوبه الكثير من الشكوك، والجماهير التي اندفعت في الساحات ليست بالضرورة إخوانية، أو من لون سياسي وانتماء فكري وعقائدي محدد، فالاحتجاجات كانت حالات عامة، ومزيجاً من كل القوى والشرائح، فلم تكن حركة ثورية لها برنامج وقيادة.
جاء انتخاب مرسي للتخلص من تركة مبارك، وبمشاركة من كل الأطراف ضد أحمد شفيق المحسوب على بقايا النظام. وبالرغم من ذلك، كان فوزاً ضعيفاً نسبته 52%، وهي نسبة لا تخوّل «الإخوان» التفرّد بالسلطة، والادعاء بتمثيل الجماهير المنتفضة.
لقد استعجلت «حماس» في طريقة تقويمها، وانجرفت إلى حدود توظيف فلسطين في ربيع تحوّل إلى صراع دموي.
لم تنتقل رمزية فلسطين من «فتح» إلى «حماس» بعد رحيل أبو عمار. غابت الرمزية، وإن لم تغب القضية. واليوم، وبعدما قطعت التطورات أشواطاً واسعة بالاتجاه المعاكس لما راهنت عليه حماس، عادت الحركة خطوات إلى الوراء.
رغم ذلك، لا يزال محور المقاومة مصراً على إعادة استضافة الحركة ودعمها. هي تراجعت قليلاً، لكنها احتفظت بالكثير في المكان الآخر. حتى عندما وصفت دول الخليج حزب الله بالإرهابي، لم تظهر «حماس» موقفاً مناهضاً، لتؤكد من جديد أنها سعيدة بالتأرجح بين تيارين متعارضين، كسعادة الأطفال بـ«أرجوحتهم الصغيرة».
ربما سيساهم ذلك في المزيد من الشرذمة على حساب القضية الفلسطينية، ولن يكون بمقدور الحركة إعادة الاستقطاب لكونها تمثل حالة مقاومة، وخصوصاً في ظلّ الإصرار لدى بعض قادتها على أنهم جزء من مشروع في المنطقة، وليسوا فصيلاً مقاوماً.

* كاتب لبناني