هل تحرر الشعب التونسي من مخاوفه ليواجه مخاوف جديدة؟ إنّه خوف مستمر وشديد على مصيره الآني، وعلى الحفاظ على أسلوب حياة يجعله مميّزاً. هذا الخوف هو الذي يدفع قادة البلاد الجدد إلى محاولة طمأنته. إنّها لمفارقة في الحياة السياسية أن يشعر الفائزون في الانتخابات بأنّهم مُلزمون بتقديم ضمانات على نواياهم. وإذا كانت الحال كذلك، فلأنّ طبيعة تلك النوايا لا تهدّئ مخاوف التونسيين، فهل يقدر خطاب يتضمن تصريحات عامة وغير محددة على طمأنتهم؟ هل يُعقل إذاً أنّ خطاباً مضاداً صريحاً أحياناً، ومبطناً غالباً إنما لا لبس فيه، قد يزرع الشك في نفوسهم؟
قد يبعث المبشرون على القلق عندما يستحضرون الإشارات الإلهية التي تعلن بداية عهد خليفة سادس. من الواضح أنّ هذه الاشارت هي التي تقود ممثلي الله، لا الشعب، إلى السلطة. والانتخابات بحد ذاتها ليست إلا واحدة من هذه الإشارات. كيف لا نخاف على الحريات والسلامة الجسدية للمواطنين، عندما يتحدّث فرد في الجمعية التأسيسية، مديناً العاطلين من العمل والمحرومين والعمال المحتجين، واعداً بعقوبات جسدية سيتعرض لها هؤلاء كالصلب وبتر اليدين أو الرجلين؟ ويتابع لاحقاً، صحيح أنّ هؤلاء الذين يحتلون الجامعة، بدون أي صفة، ليفرضوا وضع النقاب لا يخضعون لعقوبات قاسية كهذه.
هؤلاء في الواقع لا يحاربون من أجل الله، بل يسعون إلى تحقيق أهدافه، أو بالأحرى الأهداف التي نسبها إليه أناس، هم أقلية بين المتعصبين. وبذلك تم غض الطرف عن القانون التونسي الذي حظر منذ وقت طويل عقوبات مماثلة. لكن هنا أيضاً، هؤلاء المبشرون هم الذين يتحدثون عن نظام قديم، إنما بحلّة جديدة. ثمة كلمات باتت منتشرة على نطاق واسع: يدور الحديث عن صندوق «زكاة»، بدون أن نعرف إذا كان الأمر يتعلق بضريبة إلزامية أو مساهمة تضامنية طوعية. تُذكر أيضاً كلمة «وقف» (أو الحبوس أملاك الأوقاف) بدون أن نعرف ما إذا كان المقصود بذلك «الوقف» العام الذي تُسنَد إليه صيانة مشروع خيري معيّن يخدم المصلحة العامة (جامع، مدرسة، مستشفى)، بغض النظر عن «الوقف» الخاص الذي يستفيد منه عموماً الورثة الذكور وحسب.
ليس لذلك كلّه أهمية، كذلك لا تؤخذ في الحسبان العواقب الاقتصادية لمؤسسة شيّدها الفقهاء، تمثّل تأثيرها في التدهور المادي وتراجع القيمة الاقتصادية لسلعةٍ ما، مستثناة من مبادلات التجار ومجمّدة مدى الحياة. المهم هو ملء الأفق الفكري للتونسيين بأفكارٍ قديمة وجعلهم يعتادون عليها. بالتالي لا بدّ من إيقاظ الحنين إلى الماضي في خيالهم ولاوعيهم الجماعي. المغزى هو إعادة إحياء الماضي لأنّ «الحبوس» قد حُلَّت في تونس في 1957. كيف يمكننا الاطمئنان إذاً في حين أنّه بمباركة أولئك الذين يحكموننا، سيأتي دعاة إلى أرضنا، ويسعون إلى إدخال ممارسة بربرية تتمثل بختان الفتيات الصغيرة إلى بلدٍ يجهلها، يقسّمون الشعب إلى مؤمنين وغير مؤمنين، يرمون لعنتهم على الديموقراطية ويطردون الديموقراطيين، يدعون إلى العنف ويعتدون بوقاحة على الدولة من خلال علَمِها؟
منذ أكثر من خمسين عاماً، أكّد محجوب بن ميلاد أنّ تونس أمّة فريدة: ليست في الشرق ولا في الغرب، أو بشكلٍ أدق هي تنتمي إلى الاثنين في آن. بدون أن تتنازل، تكيّفت مع مقتضيات العصر؛ رافضة أن تبقى أسيرة الماضي الذي ولّى، دخلت عصر الحداثة. في ظل غياب النظام الديموقراطي، لم تتمكن يوماً من تحقيق عدد من الشروط الأساسية. فالديموقراطية ليست مجرّد نظامٍ سياسي، طريقة لاختيار القادة، بل هي أيضاً حالة اجتماعية. بالتالي، ينبغي أن تفضي الثورة بطبيعة الحال إلى إرساء نظامٍ سياسي ديموقراطي وإلى الحفاظ في الوقت عينه على ما يُسمى «مكتسبات تونس الحديثة»، وهي مكتسبات حقيقية، وتعزيزها. فالخوف عاطفة قد توقظ أيضاً غريزة البقاء.
تحرّر المجتمع التونسي من خلال القانون، وبشكلٍ خاص قانون الأحوال الشخصية. واليوم مستقبله السياسي رهن بهذا القانون. لو كان القانون مُحرِّراً، ألا يُخشى أن يقضي على الحريات؟ الاستشهاد بالقانون أشبه بدعوة الدولة وصلاحياتها القانونية والتشريعية بشكلٍ خاص إلى التدخل. يعني ذلك أيضاً إثارة موضوع السياسة وسيادة الشعب. لكن يبدو أنّ الاسلاميين يستغلون الأمور السياسية لقتل السياسة من خلال تحميلها معاني دينية. يستغلون الدولة للحؤول دون بناء دولة القانون من خلال إخضاعها لقانون موضوع مسبقاً وجعله في خدمتها. بهذه الطريقة يفرغون سيادة الشعب من جوهرها ويحرمون المواطنين من صلاحية سن قانونهم الخاص.
عندما ترى وزيرة شؤون المرأة أنّ الزواج العرفي الذي لا يستدعي تدخّل أي مسؤول «يدخل في خانة الحريات الشخصية»، تتلقى الدولة صفعة ويُنتهَك القانون ويُحرَّف مفهوم الحرية. ليس سجل الأحوال الشخصية انتقالاً إلى الدولة المعاصرة، بل هو إحدى ضروراتها ولا غنى عنه لتنظيم شؤون هذه الدولة. لا بدّ من مشاركة مسؤول عام في حفل الزفاف، وذلك بهدف الحفاظ على النظام وحماية الزوجين. تجهل السيدة الوزيرة أنّ اللجوء إلى الشكل التقليدي للزواج قد اعتُمِدَ للالتفاف على منع تعدد الزوجات، لذلك حُظِّر هذا الزواج وجُرِّم. ومن خلال تصريحها المتسرّع تدعو السيدة الوزيرة إلى انتهاك قانون جنائي. حتى خلال محاولاتها المتعددة تصويب الأمور، يبدو بوضوح أنّها غير آبهة بذلك، فهي تتخذ موقفاً من هذه المسألة بالإشارة إلى الشرع والدين. من خلال التحدث عن الحريات الشخصية، تكشف عن التباس كبير لأنّها تعتبر الحرية كترخيص وإذن للقيام بأي شيء. لربما نجحت في نقطة معينة، فهي تدعي أنّها كانت تريد اختبار ردود فعل الرأي العام. إن حققت مُرادها، فهذا يكشف الكثير عن حسّها بالمسؤولية.
لإنجاز مشروعهم، على الاسلاميين التونسيين القيام بمهمة صعبة، تتمثل أولاً في ضرورة القضاء على ما حققته الدولة الحديثة وقوانينها. على الرغم من الوعود، لا يمكنهم إلا أن يربطوا الديانة بمفهوم شرعي. فهي بنظرهم «العقيدة» و«الشريعة» في آن، أي الايمان والقانون، لا تسير الواحدة من دون الأخرى، حتى إنّ إحداهما تمتزج بالأخرى. كيف ندّعي إذاً أنّ الأمر لا يتعلّق بالدين؟ أفقهم هو الماضي بطبيعة الحال. عندما يعلنون تراجعهم عن فكرة التبني ليحظروها، فذلك مراعاة لمعيار مُحددٍ مسبقاً من دون التفكير بفاعليته الاجتماعية، ومن دون النظر إلى المزايا النسبية التي تصب في مصلحة التبني: تأمين كنف دافئ ووالدين محبّين لولدٍ تم التخلي عنه، وبدون أهل. وبذلك يستبقون فحوى الدستور المستقبلي أي إرادة الشعب. لقد بدأوا بتطبيق الشريعة في منهجيتهم. والأهم من ذلك أنّهم لا يحفظون عهودهم. فإن كان القانون الذي ينظم التبني غير مُدرَج في قانون الأحوال الشخصية، هم يعرفون تمام المعرفة أنّه سُنَّ تماشياً مع هذا المنطق. ويعرفون أيضاً أنّه لا ينفصل عن هذا القانون، لأنّه منبثق عن فلسفته.
لا يزالون ينكثون بوعودهم، وقد دقّت ساعة صياغة الدستور الجديد. النص الأساسي، الدستور هو أساس الحياة المشتركة وتنظيم السلطات العامة. إذا كان الدستور ديموقراطياً فلن يعترف بأي سيادة إلا سيادة الأمة وسيحافظ على كافة الحريات التي ينبغي إقرارها لمواطنين سواسية. في هذه الحال، هو يوحّد الشعب من دون أن يتجاهل تعدديته. أما عندما يكون الدستور في خدمة إيديولوجيا معينة، فهو يكون حكراً على مجموعة معينة؛ فيقسّم الشعب ويحرمه من سيادته. هذه المسألة شرعية بقدر إدراج بندٍ على جدول الأعمال تعتبر بموجبه الشريعة أحد أبرز مصادر التشريع في الدستور الجديد (الشريعة مصدرٌ أساسيٌ من مصادر التشريع). لو تم التمسك بهذا الاقتراح لمثّل ذلك سابقة في التاريخ التشريعي لتونس، الأقدم في العالم العربي. سيجعل هذا الدستور تونس شبيهة بالبلدان العربية الشرق أوسطية، كالبحرين ومصر بشكلٍ خاص. وفي الوقت عينه، سيبعدها عن الجزائر والمغرب اللذين يملكان دستورين مختلفين تماماً. في شتى الأحوال، سيمثّل ذلك تراجعاً بالنسبة إلى دولة، كانت حتى الآن، في طليعة حركة الاصلاح والحداثة السياسية والاجتماعية. رغم ذلك، ليس توجّه الدولة بدون معنى. لكنّه لا يُفهم إلا في ضوء إظهاره أنّ مجرّد القول إنّ الاسلام هو دين الدولة لا يعني بتاتاً أنّ التشريع ينبغي أن يتقيّد بأحكام الإسلام. بالعودة إلى الوراء، تمّ رسمياً تكذيب بعض التفسيرات التي كانت تلقى تأييداً خلال سنوات طوال في ظل البند الأول القديم من دستور 1959، الذي يدعي أنّه يُخضِع الشريعة (الفقه). بالتالي فإنّ تحديد ديانة رسمية للدولة لا يؤثّر على نطاق حريتها التشريعية. ثمة فرق بين الدين والقانون، وبين الايمان والقانون.
لا بد من الاستفسار حول طريقة تطبيق الاقتراح لمعرفة تأثيراته الحقيقية. قد يُضاف الغموض إلى الشك. ما الذي يمكننا استنتاجه من خلال كلمة شريعة؟ ما هي المكانة التي ستحتلها في نظرية المصادر، وما سيكون تأثيرها على الوظيفة التشريعية في الدولة؟
يُذكر أنّ كلمة شريعة لم تُعرَّف عن قصد. غير أنّ معناها ليس جلياً. فَهِمَ المؤلفون التقليديون معنى كلمة شريعة بشكلٍ مختلف، فقد عنت القانون بالنسبة إلى البعض، والدين بالنسبة إلى البعض الآخر، وبذلك تخطّى هؤلاء المعنى الايتيمولوجي لهذه الكلمة: السبيل أو الطريق. وبما أنّنا لا نستطيع إعادة كتابة التاريخ، اكتسبت الشريعة على مرّ العصور معنى المعيار. نظام شامل أوسع من القانون، لا شيء يفلت من سيطرته. نقرّ أنّه بالاستناد إلى مصادر التشريع، تحدّ الصيغة التي لقيت القبول نطاق الشريعة بالمسائل القانونية، إلا إذا أصبحت من الآن وصاعداً المسائل الأخلاقية وتلك المرتبطة بالتقاليد خاضعة للتنظيم.
لكنّ نطاقاً محدوداً كهذا لا يكشف عن قواعد الشريعة ولا عن فحواها أو أسلوب الاعتراف بها. قد يكون الجواب ضمنياً رغم أنّه واضحٌ في أعين البعض. لا بدّ إذاً من الرجوع إلى النظام كما أُقرَّ في مطلع القرن الحادي عشر، عندما أُقفل الباب أمام الاجتهاد. تحت عنوان الوفاء للأجداد، مُدّد عهد التقليد. في هذا الاطار، عُدّ تفسير الآيات القرآنية الذي قدّمه علماء الدين وفقهاء القرون الماضية التفسير الوحيد الصالح بما أنّ (الاجتهاد) حكرٌ على هؤلاء وحسب.
من هذا المنطلق، يُعدّ مثلاً تبرير الزواج الأحادي المنبثق من القرآن بحد ذاته، والذي ينص على استحالة أن يعدل الزوج في التعامل مع زوجاته، غير مقبولٍ لأنّه خاطئ. ولن تؤخذ بعين الاعتبار المحاولات التي يبذلها اصلاحيو القرنين التاسع عشر والعشرين للتدقيق في مجموعة القوانين المطبقة. كذلك، سيحظر المعاصرون من ابتكار قوانين جديدة. يمكن الاستنتاج من خلال ذلك كلّه أنّ الشريعة لا تخضع لمبدأ الحداثة. بالتالي، لن يكون من الممكن إعادة النظر في نظرية المصادر التي تستند إليها. بالتالي، لن يكون من الممكن إعادة تفعيل التمييز التقليدي بين الحديث المتواتر والحديث الواحد. إذا أخذنا عبرة من الماضي، ينبغي أن نعتبر كافة الأحاديث النبوية إلزامية بغض النظر عن طريقة انتقالها، فقد تلقّاها المجتمع، من الأساس، كما هي.
وبذلك تدخل ضمن الشريعة مجموعة القوانين المنبثقة عن أهم مصادرها أي الإجماع. وبما أنّ هذا الأخير عمل إنساني بحت، فهل تبقى القواعد التي وضعها سائدة حتى يومنا هذا، وتستمر في إعاقة التطوّر؟ يجدر التذكير بأنّ القواعد المترتبة عن إجماع أجدادنا تُلزم كلّ الأجيال التي تَلَتْهُم إلى الأبد. وهذه القواعد وحدها لا تتأثر بمرور الزمن، ولا يمكن إلغاؤها. إذا كان دور العقيدة أساسياً في وضع النظام، كيف يمكن تسوية التباينات الكثيرة التي تحيط بها. هل ينبغي إذاً، على غرار المحكمة الدستورية العليا في مصر، التفريق بين القواعد الثابتة التي لا تتأثر بمرور الزمن، وتلك التي يمكن، من خلال تفسيرات الفقهاء، أن تكون موضع تباين؟ هل تسوية هذه المسائل كلّها من ضمن صلاحيات علماء الدين التقليديين، أم أنّها ضمن صلاحيات سلطات الدولة العلمانية؟ في الحالة الأولى، ستُقوَّض سيادة الشعب إلى حد كبير، بما أنّ الكلمة الفصل لن تكون له. أما في الحالة الثانية، فسيُفرّغ النص القانوني من معناه.
بعيداً عن هذه التساؤلات عن المعنى المحدد للشريعة، قد يكون الاقتراح غير مجدٍ. ليست الشريعة، التي تمثّل مصدراً مادياً أي مصدر إلهام بالنسبة إلى المشرّع، مُعدَّة لتطبّق مباشرة. لذا فإنّ وساطة القانون ضرورية. لكن، إذا كان المشرّع مستقلاً، تعود إليه مسؤولية أن يحدد بحرية مصادر التأثير. لكنّ الإلهام لا يعني الامتثال ولا تترتب عنه أي موجبات بالخضوع. والواقع أنّ الالهام يحرّر الابداع. في فن سن القوانين، يتعلّم المشرّع من التجارب السابقة ويطّلع على الحلول الاستثنائية. في شتى الأحوال، لا تنحصر عملية التشريع بفعل النسخ. إذا كانت الشريعة مصدر إلهام أساسياً بالنسبة إلى المشرّع، فهي ليست المصدر الوحيد. يحقّ لنا أن نتساءل إذاً عن غياب أي إشارة إلى مصادر أخرى تُلهِم المشرِّع. لِمَ لَم ترد إشارة إلى الأدوات الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان، أو باحترام السلامة الجسدية للفرد، أو المساواة بين الجنسين، أو عدم التمييز بسبب الانتماء الطائفي، أو حرية الفكر والعقيدة؟ هل يعني عدم ذكر هذه الأدوات إطلاقاً أنّه في ذهن هؤلاء المشرّعين، ليست الشريعة، ضمن النصوص القانونية، أحد أبرز مصادر التشريع، إنما هي المصدر الوحيد؟ من دون التأكد من أنّها قادرة على توفير كافة حاجات الحياة المعاصرة والتماشي مع كل التطلعات، ينبغي فهمها على الأرجح من هذا المنطلق. إذا كان على الشريعة أن تتواجد إلى جانب مصادر أخرى ستُطرَح عندئذٍ مشكلة التنسيق والتجانس في ما بين هذه المصادر والشريعة. ماذا سنفعل إذاً بالتعاليم التي تعتدي على السلامة الجسدية أو التي تتعارض مع مبدأ المساواة والحرية؟ هل ينبغي أن يفضي الأفق الايديولوجي للاقتراح بطبيعة الحال إلى هيمنة الشريعة؟
في الواقع، لا يعمل المشرّعون بهذه الطريقة. تستند دولة القانون إلى القانون لتلبية حاجاتٍ اجتماعية والدعوة إلى التطوّر. ليس القانون صدفة فارغة قد تملأها حالات اجتماعية أو اقتصادية أو أيديولوجية، لكل منها منطق خاص وهي تستجيب لأغراضٍ محددة. القانون هو تحديداً حالة تحكيم قضائي تحتاج إلى الاستقلالية لتُنجَز. لهذا السبب، في إطار نظامٍ ديموقراطي حديث، تجسّد إرادة الشعب المستقل المصدر الأول والأخير للقانون. إذا كنا سنعطي بعض المفاعيل للنص المُقترح، لا بدّ من الحرص على أن يتماشى القانون مع الشريعة. من هذا المنطلق جرى فهم المادة 2 من الدستور المصري التي تجعل من الشريعة المصدر الأساسي للتشريع.
استناداً إلى فرضية كهذه، تفقد الأمّة سيادتها. ويكفّ القانون عن التعبير عن الإرادة العامة إذا حُدِّدَ مضمونه مسبقاً من خلال نظامٍ غريبٍ عنه، أقدم منه ويفوقه مرتبة.
من ناحية المبدأ، الشخص المستقل هو شخصٌ غير خاضعٍ لإرادة عليا. بيد أنّ ضرورة التقيّد بتعاليم الشريعة تحدّ من الاستقلالية التي تُفرَّغ بهذه الطريقة من مضمونها، لأنّ صلاحيّاتها محدودة. لم يُسَن القانون ليتناسب مع حاجات المجتمع، بما أنّ صلاحيته تعتمد على امتثاله للنظام السائد. بالتالي، لم تعد الشريعة مصدر وحي مادياً وحسب، بل أصبحت معياراً أساسياً تُقدّر بالنسبة إليه دستورية القانون وبالتالي صلاحيته. يوشك الامتثال إذاً على تجسيد هويّة، مما سيستثني تبنّي حلولٍ مختلفة. تتمثّل القضية في معرفة ما إذا كان هذا التحقق ينطبق على المستقبل وحسب، أو ما إذا كان يُطبّق على القوانين السابقة. لقد تفادت المحكمة الدستورية العليا في مصر الأسوأ، إنما بشكلٍ غير مقنع من خلال الاستشهاد بمبدأ عدم الرجعية.
لا يمكن الاعتراض على القوانين القديمة بموجب المادة رقم 2، ويُعزى ذلك إلى الأمان الضروري لنشوء كل نظامٍ قانوني واستقراره. ليس الحل مؤكّداً، لكنّه يستأهل الحفاظ على المكتسبات. وإذا تم القبول بالحل المصري، فسيُحظر أي احتمال للتقدم. لن يستطيع المشرّع حتى أن يحاول تحسين القواعد القديمة، لأنّه سيكون مقيداً بواجب الامتثال. بالمقابل، إذا لم يُسلَك هذا السبيل، على الرغم من ضعفه، يصبح الاعتراض على البنود المستحدثة في القانون التونسي ممكناً. يعني ذلك أنّ الطريق سيكون مفتوحاً أمام التخلي عن مكتسبات تونس الحديثة. في شتى الأحوال، لا يتلاءم الحل مع دولة بحاجة إلى دخول عصر الحداثة.
والواقع أنّ ذلك سيؤدي حتماً إلى الطعن في ما حققه القضاة بعد قانون الأحوال الشخصية. من خلال تحرير قانون الدولة من المعايير الدينية، أعطى هؤلاء معنى للمساواة بين الرجل والمرأة، وألغوا التمييز على أساس الانتماء الطائفي. بهذه الطريقة، لم يعمّقوا ويعززوا مساهمات قانون الأحوال الشخصية وحسب، إنما من خلال تطبيقها على نطاق العلاقات العائلية، جعلوا الحقوق الأساسية أكثر فاعلية. بالكاد أبصر هذا الإنجاز النور حتى أصبح مهدداً!
تفرغ الإرادة العامة من جوهرها وتصبح غير موجودة إن لم تكن لقانون الدولة أي وظيفة أخرى سوى لعب دور الوسيط، للانتقال إلى معيار موضوع مسبقاً، وهو يعتبر مثالياً أكثر فأكثر، لا بسبب مضمونه وحسب إنما بسبب مصدره أيضاً. بدقة أكبر، مصدره هو ضمانة مثاليته الكبيرة. رغم ذلك، ليس هذا المعيار إلا ثمرة التفسيرات والصياغات البشرية والظرفية البحتة.
في شتى الأحوال، تبقى هذه التوصيات غير منسجمة مع جوهر الديموقراطية، لأنّ الأهلية المُعتَرَف بها للمواطنين الأحرار والسواسية والتي تؤهلهم لصنع القانون وإبطاله، تفترض أن يكون محتوى هذا القانون غير محدّد. في النظام الديموقراطي، من المستحيل التوصل إلى قانون مثالي، فبما أنّ هذا العمل بشري، يبقى دائماً غير كامل. لذلك، فإنّ هؤلاء الذين وضعوا القانون وحدهم الذين يبطلونه. لا معنى ولا جدوى من استفتاء رأي الشعب إذا كان القانون، الذي ينبغي أن يصوغه هذا الأخير، ليس نتيجة لاختياره المتجدد دائماً، ولا تعبيراً عن قراراته المُحدّثة باستمرار. إنّ هذا التشكيك المستمر هو الذي يفتقر إليه معيار غير قابلٍ للتغيير، لأنّه يتخطى حدود الزمن. في نهاية المطاف، الديموقراطية وحدها هي محط الجدال.
لا يبقى إلا أن نقدّم قانوناً سيتوجّه هذه المرة إلى القاضي، ويُلزمه العودة إلى حلول الفقه، بغية سدّ الثغر في قانون الدولة، وفي تفسيره. بالتالي، فإنّ كل الأعمال القانونية التي ابتدأت منذ القرن التاسع عشر، وأنجزتها الدولة المعاصرة، ستُدفن في غياهب التاريخ. والحال كذلك، يمكن القول إنّ عملية عودة إلى الماضي هي قيد التنفيذ اليوم. عودة إلى ماضٍ سابق ظننا، أقله في تونس، أنّه ولّى.
كيف لا نشعر بالحزن عندما تجد تونس نفسها مُلزمة بالعودة إلى نقاش من العهد الماضي؟ الظلام هو نقيض النور. لا تنكشف عتمته التي تحجب الرؤية على أي أفق مستقبلي. لذا هو يقف في وجه التقدّم. منشغلين بجدالات عقيمة عفا عليها الزمن، هل نحن محكومون من جديد، بعدما فوتنا علينا الثورة الكوبرنيكية، ثم الثورة الصناعية، ولاحقاً ثورة المعلوماتية، بعدم المشاركة في ثورة علوم وتكنولوجيا النانو التي يحضّرها العالم ويستعد لها؟ هل قدرنا أن نبقى دائماً مستهلكين ومتلقين سلبيين؟ إذا أرد الشعب أن يتحرر، عليه أن يصبح سيّد تاريخه. سيتضح إذاً أنّ التقنيات، والتقدم الاقتصادي والثقافي والاجتماعي، والديموقراطية بحد ذاتها، جزء لا يتجزأ من قيم الحداثة ومبادئها. بصراحة، تستحق تونس قدراً أفضل!
* أستاذ القانون في جامعة «سوربون ــ باريس 1»
(المقال نشر في شهرية Le Courrier de l'Atlas المغاربية التي تصدر في فرنسا،
ترجمة باسكال شلهوب)