هم، في قرارة أنفسهم، يرون أنّ الأمر يتطلب أكثر من ذلك الموقف البسيط. لكن لا يكاد يجادل أحد في مسألة تأييد «الثورة السورية». حتى أولئك الذين يتخذون من «مقاومة الإمبريالية والكولونيالية» أولوية مطلقة، لا يكلفون أنفسهم عناء البحث في خصوصيات هذه الأزمة أو تلك. أما «لجان التضامن العربية»، وهي لجان شكلية تمثّل امتداداً بائساً لصيغة حوّلتها المتغيّرات العاصفة منذ عقود إلى أثر بعد عين، فلم تتوقف، في كلمة رئاستها الافتتاحية، عند مسألة غياب لجنتي سوريا وليبيا عن الاجتماع الراهن. فهاتان اللجنتان هما عضوان في «لجان التضامن العربية»، وكانتا قد استضافتا، تباعاً، آخر اجتماعين للجان التضامن المذكورة، التي هي جميعها جزء من «لجنة التضامن الأفرو _ آسيوية» التي كانت، بدورها، قد أُنشئت أواخر الخمسينيات في امتداد «مؤتمر باندونغ» وحركة «دول عدم الانحياز»!ليس الموضوع هنا صحة أو عدم صحة الموقف المتمثل في «دعم الثورة السورية والليبية...». الموضوع هو التعامل مع هاتين الثورتين وكأنّ شيئاً لم يكن قائماً في العلاقة مع النظامين السوري والليبي: في الاجتماعين السابقين، خلال السنتين الماضيتين، في كل من دمشق وطرابلس، لم يفعل معظم المشاركين سوى التسابق على الإشادة بمنجزات النظامين وقيادتيهما، وعلى تقديم اسمى آيات الشكر والامتنان لحسن الضيافة وطيب الإقامة...
في العودة إلى موضوعنا، ينظر المصريون عموماً إلى «الثورات العربية» بوصفها حلقات متشابهة في سلسلة واحدة، تبدأ من تونس وتنتهي في سوريا. يستقر، حتى إشعار آخر، في موقفهم، أنّ أنظمة الاستبداد متماثلة، ويجب أن ترحل جميعاً من دون استثناء. يساعدهم في ذلك إغفالهم، إلى درجة مقلقة، لمسألة العلاقة مع العدو الصهيوني وموقعها في لوحة الصراع الذي تحصل في كنفه الثورات والذي تنخرط فيه قوى دولية يتوسع تأثيرها ويزداد عددها باستمرار. بالكاد تسمع من بعض المصريين حديثاً مباشراً عن ضرورة إعادة النظر باتفاقية الغاز مع إسرائيل لتخفيف ما هي عليه من إجحاف. لا كلام تقريباً على كامب دايفيد، والعلاقة مع واشنطن، ومع مجلس التعاون الخليجي. لا كلام إطلاقاً تقريباً على التدخل السعودي والقطري والأميركي لدعم «الإصلاح» في مكان، وتناسي ذلك في مكان آخر هو أحوج إليه من سواه، كالسعودية مثلاً. هو الهمّ بالنسبة إلى المصريين في أولويته السياسية والاجتماعية، حتى إشعار آخر.
أما بالنسبة إلى آخرين، فقد نسمع الكثير من الأعاجيب، لعل أخطرها ما يردده «رفاق» عراقيون من أنّ «الربيع العربي» بدأ في بغداد وليس في تونس ومصر... بدأ مع الحاكم الأميركي بريمر، لا مع الشهيد محمد بوعزيزي!
إنّ ما نقع عليه في القاهرة، عموماً، إنما هو الاكتفاء بجزء من الصورة لا النظر إلى الصورة كلها. لقد نجح حسني مبارك ونظامه الذي لم يسقط بعد، في فرض أولويات على المصريين يحتاج تعديلها إلى وقت، وإلى جهد، وإلى معاناة، وإلى صحة استنتاج. لا يشكل ذلك، حكماً، دفاعاً عن نظام من الأنظمة. إنّه يعبّر عن عدد من الهواجس بشأن صحة مقاربة الأوضاع العربية، وبشأن تعدد المخاطر، وبشأن تكامل مسائل الحرية والتحرر والتحرير.
ذلك يعني ببساطة، أن لا نشارك بعض العراقيين «التقدميين» ارتياحهم إلى استبدال ديكتاتور بمحتل، وأن لا نشارك بعض المصريين الاكتفاء بإسقاط التوريث والاحتفاظ بالارتهان وبالتبعية، ولا نشارك أحد الإخوان الليبيين الذي حضر الاجتماع عدم تخوّفه على وحدة الأراضي الليبية...
لا تطرح الأولويات دفعة واحدة إلّا في الحالات الاستثنائية، وعندما يتوافر العنصر الذاتي الملائم للنهوض بعدة مهمات دفعة واحدة. لكن في حقل الحوار والنقاش وبلورة الأفكار والمشاريع، يصبح الاجتزاء والاكتفاء مخلاً، بل وقاتلاً أحياناً. هذا ينطبق مثلاً، على تلك النظرة الرسمية السورية التي تضع قضية الصراع الجزئي أو الشامل مع العدو الصهيوني وحماته، في تعارض مطلق ومخيف مع حقوق المواطن وكرامته في أبسط صيغهما وتعبيراتهما. هذا كان في السابق مصدر نشوء الأزمة السورية الراهنة، وهو يشكل اليوم أحد الأسباب الرئيسية في تفاقمها.
إنّ قضايا الحرية السياسية والتحرر الاجتماعي والتحرير، هي قضايا مترابطة. وهي، في بلداننا أوجه متنوعة من قضية واحدة: هي قضية حرية الإنسان في تفكيره، وفي استقلال وطنه، وفي نيل حقوقه الاجتماعية...
لقد استقرت في الأذهان وفي الممارسة أشكال من الاجتزاءات لا يزال ضررها قائماً حتى اليوم: فصل الحقوق السياسية عن الحقوق الاجتماعية، ما أدى إلى إفراغ الأولى من مضمونها، وإلى مفاقمة التفاوت الاجتماعي والطبقي وإلى الفقر والجوع والتشرد... فصل الحقوق الاجتماعية عن الحقوق السياسية، ما أدى إلى القمع والمنع والإكراه والاستئثار وإلى ضياع الحقوق جميعاً... فصل حرية المواطن عن حرية الوطن وسيادته، ما أدى إلى الوقوع في شرك الاحتلال والارتهان والحمايات... فصل الحقوق الخاصة الفئوية عن الحقوق العامة، ما أدى إلى تفتيت الأوطان من الداخل قبل السيطرة عليها من الخارج.
الأولويات عموماً ضرورية، والاجتزاء أعمى أو مغرض. أما الحقيقة، أي الحقيقة الموضوعية، فهي دائماً ثورية، كما كتب لينين مراراً.
* كاتب وسياسي لبناني