ليست «التعيينات» (وعقدتها التي كثر الحديث عنها في الآونة الأخيرة) مشكلة مستجدَّة حدثت فقط بسبب التنافس بين ميشال سليمان وميشال عون على بضعة مناصب في القطاع العام، بل إنّ المشكلة الدائمة والمستعصية هي في أساس الطريقة المعتَمَدة في إجراء التعيينات في الوظائف الحكومية منذ الاستقلال. فالوظائف الحكومية، من أدنى المناصب الى أعلاها، اقتُسمت كحصص بين زعماء الطوائف منذ الاستقلال، واستُعملت لتوطيد النفوذ بواسطة توزيعها على «الرعايا» داخل طوائف هؤلاء الزعماء، مقابل الاستزلام والاستتباع. ولكي تكتمل حلقة الاستزلام تلك، امتدت سلطة زعماء الطوائف لتشمل ليس فقط عملية التوظيف، بل أيضاً حماية الموظفين التابعين الذين ينخرطون في الفساد. وقد ذاع صيت «موظفي الدولة» في لبنان، منذ ما قبل اندلاع الحرب الأهلية، بأنّهم تابعون لزعماء طوائفهم، وأنّ سوادهم الأعظم فاسدون، لكن ليس لأحد أيّ قدرة على محاسبتهم لأنّهم محميّون من هؤلاء الزعماء. ولا نزال نذكر حتى اليوم كيف كان الناس يتناقلون سيرة أي «موظف دولة آدمي» لا يختلس من المال العام و لا يرتشي، كسيَر الأولياء الصالحين. كان هذا قبل اندلاع الحرب الأهلية، وحتى أثناء هذه الحرب. أما بعد انتهاء الحرب في 1990، وبعد تسلّم زعماء الميليشيات للدولة، فقد انتقلت هذه المشكلة المزمنة الى مستوى أعلى بما لا يقاس أو يقارن مع مستواها السابق. هذه العملية حوّلت التعيينات في الدوائر الحكومية بالنسبة إلى زعماء الطوائف (الذين أصبحوا زعماء طوائف وزعماء ميليشيات في الوقت ذاته)، من طريقة لتوطيد النفوذ وتأمين استزلام الرعايا داخل طوائفهم فقط، الى طريقة للإثراء الشخصي ايضاً. وقد تمأسس هذا الأمر ووصل إلى حدود غير مسبوقة مع وصول رفيق الحريري إلى السلطة في 1992. فقد ابتدع الحريري طريقة مستحدثة للحكم كي يضمن عدم عرقلة مشروعه، بواسطة اقتطاع دائرة من دوائر الدولة لكلّ ميليشيا من ميليشيات التحالف الحاكم يومها، تحت رعاية السوريين، لتفتح فيها هذه الميليشيا دكاناً خاصاً بها، وتسرق بواسطتها بقدر ما تسمح به الميزانية المخصصة لهذه الدائرة. فاقتُطعت وزارة المهجرين لوليد جنبلاط، وذهب مجلس الجنوب (ووزارة الصّحة والضّمان الاجتماعي فيما بعد) لنبيه بري، وأُعطيت وزارة الطاقة والمياه للمرحوم إيلي حبيقة، وأُعطي سليمان فرنجية حصصاً مختلفة. أما وزارة العمل، فتناوب عليها كلّ من الحزب القومي السوري وحزب البعث. ولم ينس الحريري طبعاً حصته الذّاتية، فأبقى بعض الدّوائر المهمّة جداً، مثل وزارة الاتّصالات وأوجيرو ومجلس الإنماء والإعمار من ضمن هذه الحصّة. وقد حشا زعماء الميليشيات دكاكينهم هذه بالأزلام والمحاسيب، وخاصّة أبطال الحرب الأهلية الميامين، وبدأت عملية نهب منهجي للبلد عبر هذه الدكاكين، أتت على عشرات المليارات من الدولارات التي أُطلِق عليها اسم «الدّين العام».
هكذا، تكدست المليارات لدى هذه الزعامات، وتحوّلت مقارّ إقاماتهم الى «قصور جمهورية» تديرها «أجهزة الأمن» الخاصّة بكلّ منهم، التي تحوّلت بدورها الى «وزارات خارجية» لا يجري أيّ اتّصال بين هؤلاء الزّعماء والعالم الخارجي إلّا عبرها. وقد حوّلت العملية برمّتها التوظيف في القطاع العام الى حاجة ماسّة لجميع الزعامات الطائفية، لا يمكن لهذه الزعامات العيش بدونها.
ولم نرَ الكثير من حروب التعيينات أيام الوجود السوري في لبنان، لأنّ الاستخبارات السورية قسّمت الأرزاق حسب الأحجام المرسومة مسبقاً، لكن المشكلة الواقعة الآن حول التعيينات هي أنّ جميع المتنافسين على الزعامة المسيحية حالياً توصّلوا الى المشاركة في الحكم بعد اغتيال رفيق الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، أي بمعنى آخر وصلوا الى الحفل بعد انفضاضه. فمن جهة، لم تعد الأحجام مُقرّرة على نحو مسبق من قِبل سلطة عليا فوق الجميع، ومن جهة ثانية لم تعد الأموال متوافرة بالمستوى ذاته الذي كانت عليه في السابق. هنا استعرت الحرب بين الزعامات المسيحية على التعيينات، وهي حرب بقاء بالنسبة إليهم جميعاً، وليس فقط بالنسبة إلى ميشال عون وميشال سليمان. فالانتخابات النيابية وأحجام الزعامات برمتها تعتمد على نتيجة هذه
الحرب.
والحقيقة أنّ أكثر ما يدعو إلى الإحباط في الحرب الدائرة حالياً هو أنّها تخاض ممّن يتخذ «التغيير والإصلاح» شعاراً يتشدّق به صبحاً ومساءً، بعدما ضحّى بوزيره الذي حاول إصلاح ما يمكن إصلاحه اقتصادياً في القطاعين العام والخاص، على حدٍّ سواء. فمن يرِد الإصلاح فعلاً لا يحارب من اجل حصّة في التعيينات، بل يحارب لتغيير الطريقة المعتَمدة في التوظيف الحكومي من أساسها. فالإصلاح لا يمكن أن يجري الّا إذا أصبحت جميع الوظائف الحكومية في البلد مفتوحة للجميع، على أُسس علمية فقط، لا على أُسس طائفية. أي أن تُوضع توصيفات وظيفية علمية لجميع الوظائف الحكومية، وأن يُنتقى الموظفون الحكوميون بناءً على السِيَر الذاتية والمقابلات الشفهية والفحوص الخطية، مثلما يجري التوظيف في جميع بلدان العالم المحترمة، لا بناءً على توصيات زعماء الطوائف. أما النضال في سبيل زيادة الحصّة الذّاتية من وظائف وأموال داخل كعكة الدولة، فهو عبارة عن اصطناع بطولات طائفية وهمية، ومحاولة إنهاء عهود زعامة في «بيوت سياسية» من اجل تأسيس «بيوت سياسية» أُخرى، وافتتاح عهود زعامة جديدة داخل طوائف هؤلاء «المناضلين».
* كاتب لبناني
6 تعليق
التعليقات
-
التعيينات الإدارية في لبنان: أيّ زعامة تنتصر في حرب البقاء؟عندما يصبح بان كي مون منتخبا لا معينا يمكن للشعوب ان تختار,
-
ليبدء كل فرد من عند نفسه 3من ضمن المقومات، أن أبحث عن طرق أخرى غير حكومية، لأن نتظيم أمور حياتي من اختصاصي وليست من اختصاص الآخرين، ما يعني أنه من الخطأ الركون إلى ما هو سائد والإتكالية ورمي المسؤولية على الغير بعنوان الدولة...وإلخ. إذا علي أن أعيد النظر في كل ما هو متعارف عليه ومتوارث وأن لا أقلد الآخرين وأسير خلفهم وأنا أعمى.لست مضطرا لأن أترك مصيري بيد أي كان ومن يعتبر نفسه أنه وصي علي كما لو أني قاصرا عمليا(مع أني نظريا أريد أن أحكم الدنيا ومن عليها وثلاث أرباع الآخرة، ولا أنتبه إلى عجزي عن نفسي، وأن من عجز هن نفسه فهو عن غيره أعجز). إذا، لست ملزما التقيد ببعض أو كل الأعراف والقوانين والدساتير الباطلة، والتي تجيز لهدا وذاك أن يتولى تقرير مصيري ويحدد القضاء والقدر. من الخطأ الرهان على من يحاول الإصلاح في المكان الخطأ، لأن هكذا شخص ليس مؤهل لمهمة الإصلاح.فأنا أولى بإصلاح ما فسد من أموري، وبالتالي علي أن أكون صالحا، لأن شربل نحاس وغيره لا يستطيعون إصلاحي إن لم أبادر إلى إصلاح نفسي.فعلي إذا أن أبدأ بنقسي وأن أحسابها وأتهمها وأن لا أنشغل عنها وأنساها بالتلهي بالحديث عن أخطاء هنا وحسنات هناك. والسؤال هو ماذا أنا فاعل! وليس ماذا يفعل سعد الحريري ونجيب ميقاتي...وإلخ.فمصيري مرهون بعملي وليس بعمل الآخرين، والرهانات الخاطئة لا تجدي.
-
ليبدء كل فرد من عند نفسه 2عند وجود فتنة ما، فإن الأضرار لا تقتصر على بقاء المشكلة وتعذر حلها، بل يضاف إلى ذلك التسبب بأحتقان وأحقاد وشحن من دون مبرر، ما يدفع بالأمور إلى ما لا تحمد عقباه.وعندما أريد النأي بنفسي عن المهالك، هذا يعني أنه يجب علي أن لا أهرف بما لا أعرف، لأن تداعيات الكلام الخاطيء أشد من تداعيات أفعال اليد، وكما في الحديث(فتنة اللسان أشد من ضرب السيف). علينا تجنب السقوط في فخ الفتنة، بكافة أشكالها أشكالها، مثل اتخاذ رفيق الحريري وآخرين مع الطائفية وسوء الإدارة والزعامة والإستبداد ومصادرة القرار والتهميش...وإلخ، شماعة يعلق عليها التقصير والجهل والفشل والغفلة والإهمال واللامبالاة...وإلخ. إذا كان السبب في غياب الكفائات، فإن المتعين البحث عن سبب غياب الكفائات، ولا يوجد سبب لذلك غير انعدام السعي والعمل، والذي بكل بساطة يرجع إلى غياب الدافع والحافز والرغبة إليه. ما يدعو إلى الإستغراب، أن كل صاحب أزمة يشتم ويذم ويلعن كل من يعتقد أنه سبب أزمته ومعاناته، ومن دون الإلتفاة إلى حقيقة أن لا فائدة من ذلك لأنه يعني الإنشغال عن البحث عن خيارات قد تكون مفيدة في الإهتداء والوصول إلى الحلول الناجعة المناسبة.إذا علي أن ألتفت إلى ما يجب علي فعله وإذا ما كنت في المكان المناسب، ولا أنشغل كل الوقت وأنظر وأنتظر من يحدد لي دوري وما يجب علي فعله وأين ومع من يجب أن أكون. فعندما أدرك أن الإصلاح لا يمكن أن يجري إلا إذا أصبحت جميع الوظائف الحكومية في البلد مفتوحة للجميع، على أُسس علمية...وإلخ، ولكن ذلك مفقود وغير متاح، فإن واجبي(وعلى أساس الوجوب الكفائي) السعي إلى توفير المقومات لذلك.
-
ليبدء كل فرد من عند نفسه 2عند وجود فتنة ما، فإن الأضرار لا تقتصر على بقاء المشكلة وتعذر حلها، بل يضاف إلى ذلك التسبب بأحتقان وأحقاد وشحن من دون مبرر، ما يدفع بالأمور إلى ما لا تحمد عقباه.وعندما أريد النأي بنفسي عن المهالك، ما يعني أنه يجب علي أن لا أهرف بما لا أعرف، لأن تداعيات الكلام الخاطيء أشد من تداعيات أفعال اليد، وكما في الحديث(فتنة اللسان أشد من ضرب السيف). علينا تجنب السقوط في فخ الفتنة، ومن أشكالها اتخاذ رفيق الحريري وآخرين مع الطائفية وسوء الإدارة والزعامة والإستبداد ومصادرة القرار والتهميش...وإلخ، شماعة يعلق عليها التقصير والجهل والفشل والغفلة والإهمال واللامبالاة...وإلخ. إذا كانت السبب هو في غياب الكفائات، فإن المتعين البحث عن سبب غياب الكفائات.ولا يوجد سبب لذلك غير انعدام السعي والعمل، فإنه بكل بساطة يرجع إلى غياب الدافع والحافز والرغبة إليه. ما يدعو إلى الإستغراب، أن كل صاحب أزمة يشم وينتقد ويذم ويلعن كل من يعتقد أنه سبب أزمته ومعاناته، ومن دون الإلتفاة إلى حقيقة أن لا فائدة من ذلك وبالتالي الإنشغال عن البحث عن خيارات أخرى قد تكون مفيدة في الإهتداء والوصول إلى الحلول الناجعة المناسبة.إذا علي أن ألتفت إلى ما يجب علي فعله وإذا ما كنت في المكان المناسب، ولا أنشغل كل الوقت وأنظر وأنتظر من يحدد لي دوري وما يجب علي فعله وأين ومع من يجب أن أكون. فعندما أدرك أن الإصلاح لا يمكن أن يجري إلا إذا أصبحت جميع الوظائف الحكومية في البلد مفتوحة للجميع، على أُسس علمية...وإلخ، ولكن ذلك مفقود وغير متاح، فإن واجبي(وعلى أساس الوجوب الكفائي) السعي إلى توفير المقومات لذلك.
-
ليبدء كل فرد من عند نفسه 1بسم الله الرحمان الرحيم فعند الحديث عن أمور الإدارة، لا بد من السؤال والبحث عن ما يتطلب إدارته.ولما أن العلم يوجد حيث يكون العمل فإن انتفائه أو انعدامه أو غيابه، يكون حيث ينعدم العمل.بهذا فإن أي عالم في أي مجال لا بد أنه سبادر إلى إبراز علمه عمليا ومن دون انتظار الإذن والتكليف من هنا وهناك، كون أن الأمر يتعلق بمصيره(أعني أي عالم) الذي لا يمكن رهنه(المصير) لمشيئة فلان وعلان. فلو أن ثمة كفائات الإدارية كانت موجودت أو موجودة، لظهرت من فورها وترجمت نفسها عمليا وعلى أرض الواقع ولما انتظر أصحابها هذا وذاك هنا وهناك، ما يعني أن المشكلة تكمن في غياب الكفائات وليس في التعيينات.فلو وجدت الكفائات، لما استطاع رفيق الحريري وغيره من عرقلة أو منع إبرازها واستثمارها وتوظيفها. من أسباب غياب الكفائات غفلة أصحابها عنها وكيفية توظيفها وسوء تدبيرهم.وهنا سؤال يفرض نفسه عن الكفائات الإدارية، أين هي ولماذا لم يطرح أصحابها أنفسهم من خلال مبادرات ترشيد وتوعية والبحث عن طاقات يمكن تفعيلها يفترض أن أصحابها غافلون عنها؟ مع أني لا أجد حرجا من أن أدافع عن رفيق الحريري وآخرين عندما أجد أن ثمة ظلما في التصويب على أداء هنا وسوء تصرف هناك، ولا ينظر إلى الأمور على أساس قول تعالى"وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ"(الشورى 40)فإني لست مستعد لتحمل تبعات سوء النشخيص وصرف الإنتباه عن السبب الحقيقي للمشاكل، وبالتالي أتسبب بفتنة خطيرة.