تنقسم مداخلتي إلى قسمين: يتناول الأوّلُ «الانتفاضاتِ العربيّةَ وفلسطين في المخيال اللبنانيّ»، ويتناول القسمُ الثاني «الانتفاضات العربيّة وفلسطين في المخيال السوريّ». ولا حاجة إلى القول إنّ المخيال هنا (أو الوعي) ليس واحداً في الحالين، على ما ستُظهر هذه المداخلة، بل مخيالاتٌ متعدّدةٌ في كلّ بلد، وقد تتقاطع أيضاً بين البلدين المجاورين. وفي الخاتمة أسعى إلى تقديم رؤيةٍ عامّةٍ، قد تكون متشائمةً، إلى مآل فلسطين في المخيال العربيّ بعد هذه الانتفاضات.
1 ــ القسم الأول: لبنان ــ الانتفاضات العربيّة وفلسطين.
1 ــ أ ــ الانتفاضات العربيّة في المخيال اللبنانيّ.
حين اندلعت انتفاضتا تونس ومصر، هلّل لهما معظمُ اليساريين والقوميّين العرب والسوريين الاجتماعيين في لبنان، المناصرين لفريق 8 آذار، وذلك وفقاً لاعتبارين: 1) أنّهما ثورتان على نظاميْن عميليْن للغرب والاستعمار. 2) أنّهما ثورتان على نظامين فاسدين ومستبدّين. لكنْ ما إن اندلعت الانتفاضة السوريّة تحديداً، حتى تبيّن أنّ الاعتبارَ الأول هو وحده ما دفع أولئك اللبنانيين إلى تأييد الانتفاضتين (1). فعلى الرغم من أنّ حكم بشّار الأسد لا يقلّ تسلّطاً وعنفاً وفساداً عن حكميْ بن علي ومبارك، فقد شجب أولئك اللبنانيون الانتفاضةَ السوريّة؛ لا بل ارتدّوا فجأةً إلى انتفاضتيْ تونس ومصر ليشجبوهما، هما أيضاً، بعد أن محضاهما في السابق كلّ التأييد، وليعتبروهما الآن محضَ «مؤامرةٍ غربيّةٍ» تهدف إلى التخلّي عن نظاميْن شائخيْن عاجزيْن عن حماية المصالح الإسرائيليّة والأميركيّة لمصلحة «إسلامٍ معتدلٍ» يَضْمن تلك المصالحَ بسبب شعبيّته الكاسحة.
أما لبنانيو 14 آذار فانقسموا إزاء انتفاضتيْ تونس ومصر بين صامتٍ لا يخفي امتعاضَه منهما، وشاجبٍ لهما مؤيّدٍ علناً للنظاميْن البوليسييْن. وهم لم يتوانوْا في التحذير من أنّ الانتفاضتين لن تأتيا إلّا بظلاميّةٍ مقيتةٍ للأقليّات الدينيّة والنساءِ وحريّةِ التعبير. لكنْ ما إن اندلعت الانتفاضة السوريّة حتى رأيناهم يهلّلون لها بشدّة. بل ذهبوا إلى اعتبار ثورتهم، «ثورةِ الأرز التي أخرجتْ جيشَ الاحتلال السوريّ من لبنان»، بشيراً بـ«الربيع العربيّ» ضدّ الاستبداد (2). وفي الذكرى السابعة لاغتيال رفيق الحريري في شباط الماضي، رفعوا شعاراً لافتاً: «لولا شباط ما في آذار ولولا آذار ما في ربيع». والمقصود أنّه لولا اغتيالُ الحريري في شباط 2005، لما اندلعتْ «ثورةُ الأرز» في آذار 2005، ولولا هذه الثورةُ لما اندلعت الانتفاضاتُ العربيّة. والحق أنّ المفارقة اللاذعة في هذا الشعار ينبغي ألا تفوتَ القارئَ اللبيبَ: ففريق 14 آذار الذي هلّل للانتفاضة السوريّة، ولا يزال، لم يهلّلْ للانتفاضاتِ العربيّة الأخرى، لا في تونس ولا في مصر ولا في البحرين ولا في اليمن... تماماً مثلما أنّ فريق 8 آذار، كما قلنا، أيّد الانتفاضاتِ العربيّةَ في كلّ مكان إلاّ في سوريا.
وفي ما يتعدّى فريقيْ 8 و14 آذار، لفتت الأنظارَ بعضُ المبادرات الصغيرة في لبنان تجاه الحدث السوريّ. الأولى قامت بها مجموعةٌ صغيرةٌ من الكتّاب اليساريين المستقلّين (بينهم أسعد أبو خليل ورائد شرف ورامي زريق وكاتبُ هذه السطور)، وتمثّلتْ في بيانٍ صدر في نيسان 2011، أيْ بعد شهرٍ من اندلاع الانتفاضة السوريّة، ويعلن التضامنَ مع الشعب السوريّ «كما سبق أن تضامنّا...مع جميع العرب الثائرين على الأنظمة... من السعوديّة والبحرين، مروراً بليبيا والمغرب والجزائر وغيرها». وقد غمز الموقِّعون من قناة بعض المثقّفين «الذين هبط عليهم الوحيُ النفطيُّ فجأةً، فندّدوا بالقمع في سوريا بعدما صمتوا صمتَ القبور عن القمعين السعوديّ والبحرينيّ...»(3). أما المبادرة الثانية خارج اصطفافيْ 8 و14 آذار فتمثّلتْ في حركاتٍ سلميّةٍ احتجاجيّة، إحداها ليساريين وُوجِهوا بقمع أنصار النظام السوريّ أمام السفارة السوريّة في منطقة الحمرا في بيروت. المبادرة الثالثة كانت عبارةً عن بيانٍ صدر في أوائل آب من الصيف الماضي، وهو من توقيع 25 من الكتّاب والفنّانين والناشطين المستقلّين أو اليساريين أو القريبين من فريق 14 آذار (من بينهم إلياس خوري وبيار أبي صعب ومارسيل خليفة وروجيه عسّاف وحازم صاغيّة ويوسف بزّي وسهى بشارة وشوقي بزيع وصقر أبو فخر وفوّاز طرابلسي وكريم مروّة وكاتبُ هذه السطور)، ويعلن تضامنَه مع الشعب السوريّ «الشجاع والباسل» وشجبَه «للعنف الذي يمارَس ضدّه»(4). وأعقب البيانَ اعتصامٌ في ساحة الشهداء ضمّ مئاتٍ قليلة. غير أنّ تطوّر الأحداث، ومن بينها (بلا أدنى ريب) حديثُ رئيس المجلس الوطنيّ السوريّ إلى «وول ستريت جورنال» في 2/12/2011 عن وقف الدعم في «سوريا الجديدة» لحزب الله وحماس(5)، وعن تأييد المجلس المذكور للتدخّل العسكريّ الخارجيّ ولتسليح الانتفاضة، دَفع هذا التشكيلَ (الهشّ الذي لم يجتمعْ يوماً أصلاً) إلى الانفراط.
على أنّ أوضحَ تجلٍّ مباشرٍ لأثر الانتفاضات العربيّة في المخيال اللبنانيّ كان تشكيلَ «حملة إسقاط النظام الطائفيّ». ففي يوم ماطرٍ وعاصف (27/2/2011)، تظاهر ألفا علمانيّ في بيروت، معظمُهم من الناشطين الذين هزّتهم انتصاراتُ الشعبين التونسيّ والمصريّ. وما لبثتْ «تظاهرةُ الشماسي» أن ازدادت زخماً: فبعد أسابيع، تظاهر ما يفوقُ العشرين ألفاً، في ما اعتُبر أضخمَ تظاهرةٍ في لبنان خارج الاصطفافيْن الطائفييْن الكبيريْن. هكذا بدت اللحظةُ سانحةً أمام العلمانيين اللبنانيين لبدء ربيعهم الخاصّ... أو ذلك ما توهّمناه.
والحال أنّه لا يمكن التقليلُ أبداً من أثر الانتفاضات العربيّة في مخيال الحملة المذكورة. فالشعار نفسُه، على ما بيّنتُ في مقالٍ سابق، لبننةٌ (غيرُ موفّقة) للشعار التونسيّ/المصريّ الشهير، إذ اكتفى الناشطون العلمانيون اللبنانيون بإضافة نعت «الطائفيّ» إلى آخره، ليغدو: «الشعب يريد إسقاطَ النظام الطائفيّ»، ثم أضافوا: «...ورموزِه»، نأياً بأنفسهم، كما ظنّوا، عن طائفيين تسلّلوا إلى حملتهم بهدف تقويض جذريّتها وحصْرِ مطالبها في «إلغاء الطائفيّة السياسيّة» لا غير (6). وفي كلّ الأحوال، فقد آمنوا إيماناً عميقاً بأنّ الطائفيّة هي سببُ غالبيّة الشرور في بلدهم، بما في ذلك الحروبُ الداخليّة والظلمُ الاجتماعيّ والفقر، تماماً كما كان الاستبدادُ هو سببَ غالبيّة الشرور في تونس ومصر واليمن. ولقد أشعرهم سقوطُ بن عليّ ومبارك، وترنّحُ صالح، بأنّهم ليسوا أقلّ اقتداراً على إسقاط نظامهم الطائفيّ من ناشطي تلك البلدان، وأنّ التظاهرات (شبه العفويّة) المفْضية إلى شكلٍ من أشكالِ العصيان المدنيّ (المنظّم) هي السبيلُ الأمثلُ للوصول إلى ذلك الهدف ــ لا العنفُ الثوريّ، ولا التنظيمُ اللينينيُّ الحديديّ، ولا السياساتُ الإصلاحيّةُ من قبيل المشاركة في الانتخابات النيابيّة لتغيير النظام «من داخله». وإلى أيقونة غيفارا، اصطفّت أيقوناتُ التغيير الجديد لدى كثرةٍ من ناشطي الحملة اللبنانيّة، أمثال محمد البوعزيزي ونوّارة نجم وأحمد ماهر ووائل غنيْم. وغدا الفايسبوك أداةً رئيسيةً لحشد الناس، ونقاشِ التكتيكاتِ الثوريّة، ورسمِ الاستراتيجيّات، قبل الانطلاق في أيّ تظاهرةٍ أو نشاطٍ جديدين.
إلا أنّ حملة إسقاط النظام الطائفيّ في لبنان واجهتْ عوائقَ داخليّةً كثيرةً أدّت إلى ما يشبه الشللَ (الموقّت؟). ويمكن إيجازُها في العناصر الآتية:
أ ــ «الاكتشاف» المفاجئ أنّ النظام اللبنانيّ ليس هشّاً، وإنما قد يكون أقوى الأنظمة العربيّة وأشدَّها عناداً. إذ بدلاً من أن يقوده طاغيةٌ فاسدٌ مكروهٌ كبن عليّ ومبارك، فإنّه يقوده منذ سنواتٍ ستةُ زعماء على الأقلّ، جميعُهم محبوبون لدى قسمٍ كبيرٍ من طوائفهم: اثنان للشيعة، واثنان للموارنة، وواحدٌ للسنّة، وواحدٌ للدروز (7). بل إنّ ثلاثة من هؤلاء الزعماء (نصر الله وعون والحريري) يحظوْن بمحبّة قسمٍ من الطوائف الأخرى، وبشكلٍ خاصٍّ بسبب دعمهم المقاومةَ المسلّحةَ ضدّ «إسرائيل» أو رفضِهم إيّاها. وزاد من تعقيد عمليّة إسقاط النظام أنّ هؤلاء الزعماء يَخْدمون «رعاياهم» عبر شبكةٍ متطوّرةٍ من المؤسّسات التعليميّة والطبّية والاجتماعيّة؛ فضلاً عن أنّهم يُعتبرون «حُماةً» لهم من تعدّياتِ الطوائف الأخرى. ولذلك كلّه، فإنّ إسقاط النظام الطائفيّ عنى للناشطين العلمانيين أمراً يكاد يكون من سابع المستحيلات في هذه اللحظة، ألا وهو: إسقاطُ المجتمع اللبنانيّ أو الذهنيّة «اللبنانيّة» أيضاً.
ب ــ «اكتشاف» الناشطين العلمانيين صعوبةَ تحييد مسألة سلاح المقاومة في نقاشهم الداخليّ.
ج ــ الجدال الدائم (والمتواصل) في صفوفهم حول مطلب «الدولة العَلمانيّة». فعلى الرغم من أنّ جميع ناشطي الحملة يؤمنون بالعَلمانيّة هدفًا نهائيّاً، فإنّ بعضهم يصرّ في اللحظات الراهنة على استخدام مصطلح «الدولة المدنيّة» الذي لا ينفّر (في رأيه) مَن يرغب في الانضمام إلى الحملة لأنّه يعتقد أنّ العَلمانيّة والإلحاد سواء (8).
د ــ كانت الانتفاضة السوريّة هي القشّة التي قَصمتْ ظهرَ البعير العلمانيّ اللبنانيّ (في المرحلة الراهنة على أقلّ تقدير). فقد بذل أنصارُ النظام السوريّ داخل حملة إسقاط النظام الطائفيّ جهداً ملحوظاً لاستبعاد أيّة إشارةٍ إلى تلك الانتفاضة، فيما صمّم «خصومُهم» («رفاقهم») على اعتبار الحملة جزءاً لا يتجزّأ من المسعى الشعبيّ العربيّ لنيل الحريّة والكرامة.

ا ــ ب ــ فلسطين في المخيال اللبنانيّ في ضوء الانتفاضات العربيّة
لم تكن القضيّة الفلسطينيّة، شأنها في ذلك شأن قضيّة سلاح المقاومة والمحكمة الدوليّة الخاصّة باغتيال رفيق الحريري، جزءاً من أيّ نقاشٍ جدّيٍّ ضمن أُطًر حملة إسقاط النظام الطائفيّ في لبنان. ولعلّنا نتذكّر، بالمناسبة، أنّ الانتفاضات العربيّة في 2011 لم تولِ أيّ مسألةٍ تتعدّى إسقاطَ الحكم الطغيانيّ المحلّيّ كبيرَ اهتمام. بل إنّها، رغم استثناءاتٍ وأعلامٍ وشعاراتٍ قليلةٍ (تثْبت القاعدة)، كانت تصرّ على أنّ تحرير فلسطين لا يكون إلّا بعد «تحرير البلدان العربيّة من الطغيان» وأنّ «فلسطين لا يحرّرها إلا العربُ الأحرار».
بيْد أنّ الناشطين العلمانيين اللبنانيين حرصوا على أن يتحدّثوا، صراحةً أو مواربةً، عن الفلسطينيين داخل لبنان تحديداً، الذين يعانون ما سمّاه جلبير الأشقر «أبارتهايداً لبنانيّاً». والمعروف أنّ فلسطينيي لبنان، خلافًا للعمّال الأجانبِ الآخرين فيه، مُنعوا، حتى بموجب القانون المعدّل في صيف 2010، من ممارسة عشراتِ المهن (كالطبّ والهندسة)، ومن امتلاك العقارات أو توريثها (9). وقد اتُّخذتْ هذه الإجراءاتُ التمييزيّةُ بذريعة الخوف من «التوطين»، الذي زُعم أنّه يُخِلّ بالتوازن الطائفيّ الهشّ لمصلحة المسلمين (السُّنّة)، مع أنّ أحداً لم يطالبْ بتجنيسِ فلسطينيي لبنان! وفيما جرى التلميحُ إلى هؤلاء في «إعلان المبادئ» (وهو تعميم داخليّ صادرٌ عن حملة إسقاط النظام الطائفيّ في 23/4/2011) عبر الحديث عن «دولة حقوق الإنسان والمساواة...لجميع سكّانها» وعن «دولةٍ تقوم على العدالة الاجتماعيّة... لجميع مواطنيها والمقيمين فيها»، فقد كانت وثيقةُ الجناح المنشقِّ الأكثرِ جذريّةً (والصفتان لا تحملان أيّ حكم قيمة) أشدَّ وضوحاً في تسميتهم بالاسم.
كذلك إنّ المزاج الثوريّ الذي أشاعته الانتفاضاتُ العربيّة شجّع آلافَ اللبنانيين على مشاركة عشراتِ آلاف فلسطينيي لبنان «مسيرةَ العودة» (الرمزيّة) إلى فلسطين المحتلّة في الربيع الماضي، حيث تصدّى لهم جنودُ الاحتلال الإسرائيليّ عند الحدود مع لبنان، فقَتل وجَرح العشراتِ بدمٍ باردٍ. معارضو النظام السوريّ اعتبروا تلك المسيرةَ، التي ترافقتْ مع مسيرةٍ أخرى عبر الحدود السوريّة مع الكيان الصهيونيّ وسبّب الردُّ الوحشيُّ الإسرائيليّ هناك سقوط متظاهرين آخرين بين شهيدٍ وجريح، محاولةً من طرف ذلك النظام لحَرْف الأنظار عن أعمال القمع التي يمارسها في الداخل السوريّ.

■ ■ ■


2ــ القسم الثاني: سوريا ــ الانتفاضات العربيّة وفلسطين
2ــ أ ــ الانتفاضات العربيّة في المخيال السوريّ
حين اندلعت انتفاضتا تونس ومصر، شعر آلافُ السوريين أنّ دورَهم قد حان لإسقاط نظامهم. «إجاك الدور يا دكتور» كان أحدَ شعارات الغرافيتي المشهورة على جدران سوريا. في البدء (آذار ــ نيسان 2011) اكتفى أكثرُ المتظاهرين السلميين بالمطالبة بإصلاحاتٍ فوريّةٍ تَرْفع الذلّ اليوميّ عن كاهلهم. لكنْ، بعد أن تعامل النظامُ معهم بوحشيّةٍ فائقةٍ، أخذوا تدريجاً ينادون بإسقاطه، أسوةً بما فعله المنتفضون التوانسة والمصريون من قبل. إلا أنّ أحدَ الاتّهامات التي وُجّهتْ إليهم هو أنّ إسقاط النظام سيُضْعف المقاومتيْن في لبنان وفلسطين ــ وهو اتهامٌ لم يسبقْ أن واجهه المنتفضون في أيٍّ من البلدان المنتفضة الأخرى بسبب مواقف رؤسائها المؤيّدة للسياسة الأميركيّة.
في البدء كان دحضُ هذه التهمة أمراً يسيراً؛ فلم يُعرفْ عن المتظاهرين السوريين أنّهم دَعموا الهيمنة الإسرائيليّة أو الأميركيّة في أيّ وقتٍ من الأوقات وبأيّ شكلٍ من الأشكال، بل كانت الانتفاضة السوريّة تُعتبر لدى غالبيّة الناس هبّةً أصيلةً على نظامٍ مارَسَ عقوداً من الاضطهاد باسم الشعارات القوميّة والثوريّة. إلّا أنّ دعمَ حزب الله وإيران لنظام الأسد، إعلاميّاً وسياسيّاً، دَفَعَ بعض المتظاهرين السوريين (ضمن «المجلس الوطنيّ» لا ضمن إطار «هيئة التنسيق الوطنيّة» مثلاً) إلى إدانة الحزب وإيران. وقد أجّجتْ غضبَهم شائعاتٌ تفيد بضلوع الحزب وإيران في أعمال القنص والتعذيب، وهو ما نفاه الحزبُ بشدّةٍ على لسان أمينه العامّ.
في المقابل، رأى أنصارُ النظام، السوريون واللبنانيون، أنّ الانتفاضات العربيّة (أو «الربيع العربيّ بين مزدوجين» كما يسمُّونه استهزاءً) دليلٌ قاطعٌ على المؤامرة على نظام الأسد «المعادي للسياسات الإمبرياليّة». ففي النهاية، كما يصرّحون أو يلمّحون، ألم يكن النظامُ «الإسلاميّ المعتدلُ» في تونس الجديدة هو الذي استضاف مؤتمرَ «أصدقاء سوريا» (الأوّل) ضدّ النظام «العلمانيّ» في سوريا؟ أوليس «ثوارُ الناتو المسلمون المعتدلون» في ليبيا الجديدة هم الذين «يدرّبون» أصوليّي تنظيم القاعدة و»العصابات الإرهابيّة المسلّحة» في سوريا؟ أوليس نبيل العربي، الأمينُ العامّ للجامعة العربيّة وخصمُ حسني مبارك في مصر الجديدة، هو الذي يقود الدبلوماسيّة العربيّة ضدّ النظام «الممانع»؟
ولكي تزداد الصورةُ تعقيداً، أمعن قسمٌ من المعارضة السوريّة، وتحديداً المجلس الوطنيّ السوريّ (م. و. س)، في تنسيق سياساته مع تركيا وقطر وفرنسا والسعوديّة والولايات المتحدة. واتخذ كذلك مواقفَ أضعفتْ من صورة المعارضة في أعين من أيّدها أولَ اندلاعِ الانتفاضة، من قبيل:
ـ الدعوة إلى تدخّلٍ عسكريٍّ أجنبيٍّ مباشر. صحيح أنّ ردّ النظام على الانتفاضة أدّى، خلال عامٍ واحد، إلى سقوط أكثر من 8000 قتيل، وإلى آلاف المعوّقين، وعشرات آلاف المهجّرين. وصحيح أنّ الحبل على الجرّار، كما يبدو. لكنّ كثيراً من السوريين لا يزالون يرفضون التدخّلَ الأجنبيّ، كذلك فإنّهم يخشوْن من تكرار السيناريو الليبيّ في بلادهم (ما بين 40 إلى 50 ألف قتيل خلال مدةٍ وجيزةٍ جرّاء قصف الناتو)، كي لا نقول السيناريو العراقيّ الأقرب إلى الجحيم! هذا فضلاً عما سيجرّه التدخّلُ العسكريّ الأجنبيّ من ويلاتٍ على العمران (وبخاصةٍ داخل المدن)، ومن تعريض البلاد لنهب الشركات الأجنبيّة بعد «التحرير».
ــ المطالبة بتسليح الانتفاضة (بدلاً، مثلاً، من تصعيد النضال الشعبيّ اللاعنفيّ على طريق العصيان المدنيّ)، ومن دون حسابِ ما قد يجرّه ذلك من خسائرَ بشريّةٍ إضافيّةٍ لكون النظام أقوى تسلّحاً من المعارضة بما لا يقاس.
ــ بروز حالات مذهبيّة بشعة داخل هذه المعارضة، إما عبر التصريحات (كما فعل النائب السابق مأمون الحمصي حين هدّد بجعل سوريا «مقبرة للعلويين» إنْ لم يوقفوا دعمَهم للنظام) (10)، وإما بأعمال خطفٍ وقتلٍ مذهبيّةٍ نُسبتْ إلى المعارضة.
طبعاً، الغائب الأكبر عن هذه الصورة هو قسم آخر من المعارضة للنظام، كـ«هيئة التنسيق الوطنيّة» التي ترفض التدخّل الخارجيّ وتسليحَ الانتفاضة والحربَ الأهليّة الطائفيّة، وتصرّ على تغيير النظام بالضغط الشعبيّ الداخليّ، وعلى عدم الانتقال بسوريا من محور إلى آخر (11).


■ ■ ■


2ــ ب ــ فلسطين في المخيال السوريّ على ضوء الانتفاضات العربيّة
لا ريْب في أنّ كلّ الانتفاضات العربيّة كان هاجسَها الأول الخلاصُ من الاستبداد الداخليّ. وفي سوريا تحديداً، رأى كثيرٌ من المعارضين والناشطين السوريين أنّ «فلسطين» كانت محضَ شعارٍ يختبئ خلفه النظامُ السوريُّ ليبرِّر المزيدَ من ذلك الاستبداد. وهم لا ينفكّون يذكّرون بدوره في قتال الفلسطينيين، وشقِّ صفوفهم، واحتوائهم، منذ نشوء الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة. ولطالما قالوا إنّ فلسطين ارتبطتْ في أذهانهم بفرع الأمن الدمويّ المعروف باسم «فرع فلسطين»، المسؤولِ الأولِ عن تاريخٍ طويلٍ ومتواصلٍ من الاستجواب والتعذيب. معارضون آخرون، أكثرُ هدوءاً، يقرّون بدور النظام في دعم المقاومة الفلسطينيّة (واللبنانيّة)، لكنّهم لا يروْن أنّ هذا الدعم يبرّر، مثلاً، معسَ السوريين والتعفيسَ عليهم وقلعَ أظافرهم. وهم لا يفهمون ما تعنيه كلمةُ «الممانعة» بالضبط حين لا يكون ثمة قتالٌ مباشرٌ، مثلاً، على جبهة الجولان منذ أربعة عقود؛ وحين تعترف الحكومةُ السوريّةُ بالقدس الشرقيّة عاصمةً لفلسطين، بما يعنيه ذلك من اعترافها أيضاً بالقدس الغربيّة عاصمةً لإسرائيل؛ وحين يعلن أحدُ رموز النظام (رامي مخلوف) في مقابلةٍ مع الصحافيّ القدير المرحوم أنطوني شديد أنّ أمن إسرائيل مرتبط بأمن سوريا (12).
في المقابل، يصرّ أنصارُ النظام على أنّ «عيوب» النظام في طريقها إلى التلاشي بفضل إصلاحات بشّار «الجدّيّة»، وأنّها في كلّ الأحوال لا تطمس تاريخَه (وتاريخَ أبيه وحزبِ البعث) في دعم الفصائل الفلسطينيّة «المعادية للتسوية». وهم يردّون على المجلس الوطنيّ السوريّ المعارض بالقول إنّ قادتَه لم يُظْهروا أيّ تفوّقٍ على النظام في مواقفهم من إسرائيل ومواجهتها. فنائبة المجلس الوطنيّ، بسمة قضماني، جهرتْ في 2008، في الذكرى الستّين لنشوء الكيان الإسرائيليّ الغاصب، وفي حديث (غير مفبرك) إلى التلفزيون الفرنسيّ، بضرورة وجود «إسرائيل» بشكل مطلق (أبسولومان) (13). ورئيس المجلس، برهان غليون، أعلن أنّ «سوريا الجديدة» ستسترجع الجولانَ بالمفاوضات (أيْ بأسلوب الأسديْن، الأبِ والابن، لا غير)، وأنّها ستوقف دعمَها لحماس (وحزب الله) (14). ومُلهم الدروبي، من الإخوان المسلمين، وهم فصيل أساسيّ في المجلس المذكور، شارك في ندوةٍ في باريس، الصيفَ الماضي، نظّمها برنار هنري ــ ليفي، «مخلّصُ ليبيا» الذي سبق أن أيّد قصف المدنيين في غزّة بين نهاية عام 2008 وبداية عام 2009 (15). والمتظاهرون السوريون أنفسُهم، كما يبدو، وعلى الرغم من بعض الإشارات القليلة إلى فلسطين، لم يُطْلقوا حتى اللحظة اسمَ «جمعة فلسطين» أو «جمعة التضامن مع أسرى فلسطين» على أيٍّ من الجُمَع الانتفاضيّة التي يقدّر عددُها اليومَ بالعشرات ــ وهو ما يمكن تأويلُه بأنّ قيادة المجلس الوطنيّ لا تريد أن تبعث «رسالة خاطئة» إلى المجتمع الدوليّ.
مع تفاقم الأوضاع في سوريا، تراجع الحديثُ في الشارع السوريّ عن فلسطين، وهو أمرٌ متوقّع بالطبع. ويُستثنى من ذلك بعضُ الحالات القليلة من قبيل: 1) تخطيط مقرّبين إلى النظام «مسيرة عودةٍ» ثانيةً عبر الجولان المحتلّ في ذكرى يوم الأرض. نذكّر بأنّ مسيرة العودة في العام الماضي قد اعتبرها كثيرون «خطّة مبيّتةً» من النظام السوريّ لحرف الأنظار عمّا يرتكبه داخل سوريا، وذلك عبر إعادة «توجيه البوصلة نحو العدوّ القوميّ، إسرائيل.» 2) سقوط ضحايا فلسطينيين في الأحداث السوريّة نتيجةً للقصف. 3) اتضاح مشاركة فلسطينيين في هذه الأحداث، إمّا إلى جانب النظام، كما في أحداث مخيّم اليرموك العامَ الماضي عقب تشييع شهداء مسيرة العودة، وإمّا إلى جانب الانتفاضة السوريّة، تظاهراً وإيواءً للفارّين وعلاجاً للجرحى. 4) دفع قيامُ إسرائيل قبل أسابيع بمجازرَ جديدةٍ في غزّة ناشطين سوريين إلى نشر صورٍ عن مجازر حمص وغزّة، مذيّلةً بشعارات مثل «دم حمص وغزّة واحد» و«اعذرينا يا غزّة يللي فينا مكفّينا»، أو من خلال نداءاتٍ إسرائيليّةٍ «متضامنةٍ» مع السوريين كالتي أطلقها (باللغة العربيّة) قبل أيّام رئيسُ الشاباك وعضوُ الكنيست، آفي دختر (16)؛ أو من خلال تفكير بعض الفنّانين الإسرائيليين (أركادي دوخين) في إقامة نشاطاتٍ غنائيّة يعود ريعُها للمعارضة السوريّة (17).

خاتمة

من الطبيعيّ أن يَستلهم اللبنانيون والسوريون النموذجيْن التونسيّ والمصريّ للقيام بانتفاضاتهم ــ المتعثّرةِ في لبنان، والمتصاعدةِ الداميةِ المفتوحةِ على كلّ الاحتمالات في سوريا. ومن الطبيعيّ أن يفكّر المنتفضون، هنا وهناك، في التركيز على أولويّاتهم المحليّة واليوميّة المستديمة، ولا سيّما إذا كان الموقفُ القوميّ (والفلسطينيّ تحديداً) غطاءً لممارسة الاستبداد الداخليّ. لكنّ ما ليس مضموناً هو أن يكون تحريرُ فلسطين موجوداً على أجندة الثورات بعد نجاحها في الاستيلاء على الحكم. أحدُ أسباب ذلك يعود إلى أنّ القوى الإسلاميّة التي تتصدّر المشهدَ السياسيّ في معظم الحركات المنتفضة اليوم ليست كلّها ذاتَ تاريخٍ عريقٍ في دعم فلسطين. وفي هذا الصدد يَذْكر صقر أبو فخر أنّ مجملَ ما أرسله الإخوانُ المسلمون إلى فلسطين في 1948، من أقطارٍ عربيّةٍ عديدةٍ، كان نحو 400 عنصر فقط من مجموع مليون إخوانيّ في تلك الفترة (18)! وأما اليوم فها هو أبو المنعم أبو الفتوح، زعيمُ الإخوان في مصر، وأحدُ المرشّحين الأساسيين لرئاسة مصر العتيدة، يقرّ، في حديث إلى القناة الثانية في التلفزيون الإسرائيليّ، بوجود إسرائيل، ويطالب الفلسطينيين بالاعتراف بها، ويتعهّد احترام اتفاقيّات كامب ديفيد (19). أما راشد الغنوشي، زعيمُ حزب النهضة الإسلاميّ في تونس، فينفي أن ينصّ الدستورُ التونسيّ على ما يمنع تونس من إقامة علاقات مع إسرائيل (20). وفي ليبيا ما بعد القذّافي، يتعهّد مصطفى عبد الجليل، رئيسُ المجلس الوطنيّ الانتقاليّ، بعلاقاتٍ وطيدةٍ بين ليبيا وإسرائيل. وتكاد كلمة «فلسطين»، كما يقول أبو فخر، «لا ترِدُ في مواقف معظم قادة هذه الانتفاضات إلا لماماً، وبصورةٍ خجولة، أو في سياق الإجابة عن أسئلة الصحافيين» (21).
كلّ ذلك يحتّم على القوى المؤيّدة لتحرير فلسطين، وبخاصّةٍ في دول «الطوق» العربيّ، وبالأخصّ في لبنان وسوريا ومصر، ألّا «تؤجّل» النضالَ من أجل القضيّة الفلسطينيّة، ولو في الحدودِ الدنيا التي تفرضها ظروفُ كلّ انتفاضة، بحيث لا يتمادى «البراغماتيون» و«الواقعيون» في تجاهل فلسطين إلى أبد الآبدين. نعم، ثمة معارضون اليوم يبتزّون المنتفضين العرب بـ«الحريّة» و«الديموقراطيّة» مثلما كانت بعضُ الأنظمة (ولا تزال) تبتزّ المنتفضين باسم فلسطين!
هوامش
(1) سماح إدريس، مجلة الآداب، 7-9، 2011، ص 1.
(2) لـ«الربيع العربيّ» أكثرُ من أب، على ما يبدو: فإذا كان فريق 14 آذار ينسبه إلى ثورة الأرز اللبنانيّة، فإنّ السيد حسن نصر الله ينسبه إلى المقاومة الإسلاميّة للعدوان الإسرائيليّ صيف 2006. وثمة آخرون يعيدونه إلى انتفاضة الحجارة في فلسطين نهاية عام 1987.
(3) الأخبار، ١٨ نيسان ٢٠١١
(4) http://www.alraynews.com/News.aspx?id=444848
(5)الجدير ذكره أنّ مواقف المجلس الوطنيّ من حركة حماس تغيّرتْ (إيجاباً) بعد اقتراب الحركة من مواقف قطر وتركيا، وابتعادِها عن النظام السوريّ.
(6) سماح إدريس، الآداب، عدد 4-6، 2011.
(7) نصري الصايغ، الآداب، عدد 4-6، 2011.
(8) هذا الجدال يدور أيضاً بين الناشطين في غير انتفاضةٍ عربيّة اليوم، ولا سيّما في مصر وتونس وسوريا. راجع مثلاً استفتاءً قام به محمد ديبو لمثقفين وناشطين سوريين، بعنوان «العلمانيّة المغدورة في سوريا»، الآداب، 10-12، 2011.
(9) ساري حنفي، الحياة، 7 آذار 2012.
(10) http://www.firstpost.com/topic/organization/youtube--video-41HfejYACIw-33665-1.html
(11) راجع المقابلة التي أجراها يوسف فخر الدين وناريمان عامر مع عبد العزيز الخيّر، العضو القياديّ في «هيئة التنسيق»، مجلة الآداب، شتاء 2012، ص 4 ـ 8.
(12) “If there is no stability here, there’s no way there will be stability in Israel,” NYT, May 10, 2011.
(13) http://www.youtube.com/watch?v=gDALKgkPBYI&fb_source=message
(14) ونعيد التأكيد أنّ علاقات المجلس بحركة حماس تغيّرتْ بعد ابتعاد الحركة عن بشّار الأسد، واقترابها من قطر وتركيا، ربما بإيعاز من الإخوان المسلمين في مصر خصوصاً.
(15) http://syria.alsafahat.net/?p=6836
(16) http://pktube.onepakistan.com/video/OWgcDKDLykk/رئيس الشاباك الإسرائيلي في رسالة وقحة للعرب بالعربي html.
(17) http://www.haaretz.com/print-edition/news/israel-mulls-charity-concert-for-syrian-insurgents-1.417721
(18) http://www.assafir.com/Article.aspx?EditionId=2040&ChannelId=48445&ArticleId=3166
(19) http://www.youtube.com/watch?v=EE0H9lfhX6M
(20) السفير، 3/12/2011
(21) مصدر سبق ذكره.
* رئيسُ تحرير مجلة «الآداب»، والمقال هو النصّ الكامل للمداخلة التي قدّمها في مؤتمر «فلسطين والانتفاضات العربيّة» الذي نظّمته «جمعيّة فلسطين» في معهد الدراسات الشرقيّة والأفريقيّة (سوواس) في جامعة لندن في 17/3/2012.