وضع الحراك الشعبي السوري كلاً من السلطة والمعارضة في زاوية ضيقة: السلطة التي ظنَت أنّ صمت المجتمع السوري عن السياسة، البادئ إثر انتصارها في أحداث حزيران 1979ــ شباط1982، سيدوم إلى الأبد، والمعارضة التي كان ناشطوها في العمل السري لثلاثة عقود، وهم لا يتجاوزون بضعة آلاف، يعيشون مع صمت المجتمع عن السياسة وضعية السمك خارج الماء. أدى هذا إلى وضع السلطة أمام قوام حراك معارض هو في وضعية عفوية يدخل أفراده لأول مرة إلى السياسة. كان ذلك بالنسبة إليها مثل فيضان مفاجئ لسيل لا يعرف محتواه ولا مساره، بخلاف المعارضين السابقين الذين حفظت الأجهزة الأمنية كلّ شاردة وواردة عنهم، وإلى وضع المعارضين أمام حراك اجتماعي، بالنسبة إليهم وإلى السلطة، هو جديد ومجهول المعالم.
كان هذا متوقعاً بالنسبة إلى أغلب المعارضين الذين تعَوّدوا عملاً سرياً تحوّلت فيه السياسة إلى شيء أقرب فيه إلى «نظرية الفن للفن»، يشتغلون فيه لأنفسهم أو بعضهم ضد بعض، وغالباً كان ما يجري في المحيط الاجتماعي هو بمرتبة ثانوية عندهم. في الوقت نفسه، كان أغلب المعارضين، من ماركسيين وعروبيين، هم متخرّجو مدارس حزبية كانت تؤمن، في فترات «المد الثوري» في الخمسينيات والستينيات، وقبل أن تأخذ القوى الاجتماعية لأحزابهم في التراجع والانفضاض عن القوى المنظِّمة، بنظرية الطليعة الثورية التي تقول بأنّ مهمة الأحزاب هي تصدير الوعي السياسي إلى المجتمع الذي «لا يستطيع أفراده تجاوز حدود الوعي العفوي من دون الحزبيين الذين هم بمثابة الطليعة المنظمة لأولئك الأفراد». وعندما دخلت تلك الأحزاب في مرحلة الجزر السياسي منذ السبعينيات، بدأت تطفو على السطح نظريات جديدة لم تتبلور إلا مع انهيار الاتحاد السوفياتي في نهاية 1991، وأصبح بعدها الكثير من الماركسيين السابقين (والمتحوّلين إلى الليبرالية وإلى تيميم وجوههم نحو قبلة جديدة في واشنطن بدلاً من الكرملين السوفياتي) يقولون بـ«تنوير الجماهير»، مفترضين، في إضمار فكري، أنّها في «الظلام» وأنّها «أغنام» تحتاج إلى «راع». وكان ذلك يترافق على الأغلب، في الأحاديث الشفوية وقليلاً في المكتوب، مع عبارات تطلق على أفراد المجتمع مثل «الرعاع» و«الدهماء» و«أسرى الظلاميين»، فيما، بالتوازي مع هذا، كانت كلمات «الثورة» و«الجماهير» و«الشارع» و«الشعب» تقابل بالسخرية والاستهزاء من قبل أغلب المشتغلين في العمل السياسي المعارض أو من طرف المثقفين والكتّاب والصحافيين المعارضين المستقلين. انقلبت الآية في مرحلة ما بعد 18 آذار 2011 في سوريا: أصبحت أيقونات مقدسة عند هؤلاء مقولات مثل «الثورة» و«الشعب يريد» و«الشارع المتحرك»، من دون شرح أو تسويغ لها ولا لتخليهم عن مقولاتهم السابقة. مقولات يتعاملون معها، وبالتأكيد مع مقولاتهم الجديدة، تماماً مثل القميص الذي يلبس ويخلع. وقد بات الأمر عند هؤلاء بحيث أصبحت السياسة والسياسيون والأحزاب تقاس بتلك المقولات، كأنّها مساطر لتحديد من هو «مع الحراك» ومن «ضده». زاد الطين بلَةً انضمام فئات واسعة إلى العمل السياسي، ممن لا يملكون من حرفة السياسة شيئاً، وبعضهم، بالقياس إلى المعارضين القدماء، أصبحوا أقوى في الشارع المتحرك من القادة، ومعظم هؤلاء أصبحوا يقودون التنسيقيات منذ حزيران الماضي. بالنسبة إلى هؤلاء، السياسة ليست «فن الممكن وإدارة للممكنات لتحقيق ما تريد من برامج وأهداف»، بل تسيطر عليهم نزعة إرادوية يظنون من خلالها أنّك تستطيع في السياسة أن تضع في الشعارات والأجندات السياسية كل ما تريد، بمعزل ورغماً عن التوازنات والممكنات. من هنا بدأوا بين نيسان وحزيران 2011 يتحدثون عن برامج إصلاحية. وعندما واجههم النظام بالعنف استداروا نحو شعار «إسقاط النظام». ولمّا شعروا بالعجز عن تحقيق هذا الهدف، اتجهوا منذ آب، واقتداءً بالنموذج الليبي، نحو طلب «التدخل الخارجي»، وما تفرّع عنه من شعارات ومطالب مثل «حماية المدنيين»، و«الحظر الجوي»، و«المناطق الآمنة»، و«التدخل العسكري الفوري». وكأن القوى الدولية والإقليمية التي يطلبون منها ذلك هي مثل العامل في المقهى الذي تحدد له طلبك من قهوة أو شاي. ولما اكتشفوا أنّ الموضوع أبعد من ذلك وأكثر تعقيداً، ويتعلق بحسابات تجعل الموضوع السوري مختلفاً عن الليبي، رأينا شعارات «ليس لنا غيرك يا الله».
معظم هؤلاء أصبحوا في 2 تشرين الأول في مجلس إسطنبول الذي تألّف يومذاك. هذا المجلس يضم هؤلاء، مع معارضين قدماء منظّمين في «جماعة الإخوان المسلمين» و«حزب الشعب»، زائداً مستقلين من رجال أعمال وأكاديميين انضموا إلى السياسة حديثاً، وبدون خبرة سياسية سابقة. تلك العقلية الموجودة عند المنضمّين الجدد للسياسة هي المسيطرة على ذلك المجلس، كما يظهر من خلال نصف سنة من عمره. ويبدو أنّ النزعة الثأرية، الموجودة عند الإخوان المسلمين وعند الأستاذ رياض الترك، هي التي تتيح المجال للشعارات القصوى. وفي الوقت نفسه، يرى هؤلاء في طرح شعارات، يعرفون من خلال خبراتهم السياسية عدم إمكان تحقيقها، فرصة لكسب الشارع واستمالته و«ملاقاته»، ولكن من دون أن يضعوا أي حسابات. وظهر ذلك خلال الأشهر الستة الماضية، إذ قاد المجلس في إسطنبول الشارع المتحرك (من دون الشارع المعارض الصامت، وذاك المتردد)، وجعله يرتطم بالحائط. حائط التوازنات الداخلية والإقليمية والدولية، وهو ما ازداد سوءاً مع طرح العسكرة للحراك من دون أي اعتبار أو تعلم من تجربة 1979ـــ 1982التي كان فيها العنف المعارض عند الإخوان المسلمين هو الطريق السالك إلى انتصار السلطة الأمني ــ العسكري. في منتصف تشرين الثاني الماضي، وفي شقة في القاهرة، كان ينزل فيها وفد «هيئة التنسيق الوطنية»، طُرح سؤال وُجّه إلى السيدة بسمة قضماني، لما أتت لتعتذر من وفد «الهيئة» الذي تعرّض له بالضرب أنصار مجلس إسطنبول أمام مقر الجامعة العربية، وهو: «لماذا تطرحون شعارات تعرفون عدم إمكان تحقيقها؟». فأجابت: «لأنّنا نريد كسب الشارع». فعلاً، استطاع مجلس إسطنبول من خلال ذلك كسب الشارع، ولكن بعد ستة أشهر قاد الحراك الشعبي السوري إلى الطريق المسدود، وإلى انقلاب التوازنات ضده منذ أحداث بابا عمرو أواخر شباط الماضي، وهو ما ترجم في البيان الرئاسي لمجلس الأمن وخطة كوفي أنان التي فيها عودة إلى مبادرة الجامعة العربية التي أقرّت في 2 تشرين الثاني الماضي، وليس نسخة يوم 22 كانون الثاني الماضي، التي فيها «السيناريو اليمني».
قبل أشهر، وفي حديث لكاتب هذه السطور مع عضو (أو عضوة في مكتب تنفيذي لتكتل معارض سوري)، قال الأخير (أو الأخيرة) العبارة الآتية: «في الثورات ما في سياسة». ماذا كان محل لينين من الإعراب في ثورة «أكتوبر 1917»، أو اليعاقبة في الثورة الفرنسية، أو البيوريتان في ثورة البرلمان الإنكليزي ضد الملك بين عامي 1642 ــ 1649 إذاً؟
* كاتب سوري