اشتهر جمال حسني مبارك بملف توريث رئاسة الجمهورية. لكن الوريث الفعلي هو مرشح النهج النيوليبرالي ومجتمع رجال الأعمال الجُدد الطامحين إلى احتكار السلطة السياسية من خلال استخدام آليات النظام القائم باتجاه التوريث. قبل انتفاضة 25 يناير التي أطاحت النخبة المباركية، كان «الحرس القديم» وقادة الجيش، يناوئون خيار التوريث، ليس من موقع الرفض المبدئي لهذا الخيار الملكي، ولكن من موقع السعي إلى الحفاظ على امتيازاتهم التقليدية في مواجهة رئيس محتمل ارتبط تكوينه وفكره بمجتمع رجال الأعمال بالذات.
جدل التوريث داخل النظام المصري كان يدور حول هذا السؤال: ما الذي يبقى للجيش في دولة البزنس؟
السؤال ظلّ قائماً ومحورياً رغم «الثورة» التي لم تزحزح سيطرة فريقي النَّظْمة الحاكمة، قادة الجيش وأساطين المال والأعمال، بحيث إننا نستطيع تجاهل ركام التفاصيل والهوامش المصرية خلال الفترة «الثورية»، بكونها مفاوضات ساخنة _ والآن، منافسة انتخابية حادة على موقع الرئيس _ بين «المجلس الأعلى للقوات المسلحة» المتحرر من هيمنة مبارك، وبين مجتمع رجال الأعمال المتحرر من خيار التوريث، وتمثّله، طبقياً، قيادات الإخوان المسلمين. لقد كان مدير الاستخبارات المصرية الأسبق، عمر سليمان، مرشح العسكر الضمني ضد جمال مبارك، وها هو اليوم مرشحهم العلني ضد خيرت الشاطر. فما الذي تغيّر بعد 25 يناير، سوى أن «الإخوان» الناجين، مع مصر، من مذلة التوريث البيولوجي، حسموا قرارهم وراء التوريث الطبقي، أي وراء مشروع جمال مبارك نفسه، ولكن بلحية واسم حركي.
ما هي الفوارق الطبقية بين جمال وخيرت؟
كلاهما رجل مال وأعمال من الطراز الجديد النيوليبرالي الذي لم يعد يوجد سواه في الأنظمة الاقتصادية المسيطرة القائمة على ما يسميه سمير أمين بـ«الأمولة»، وترجمتها، في عالم الأعمال، الشركات القابضة التي توظف رأسمالاً مالياً في نشاطات واستثمارات متعددة، بالشراكة أو عبر السوق المالية.
وكلاهما، جمال وخيرت، كوّنا إمبراطوريتهما المالية عبر شبكة دعم سياسية؛ الأول مستخدماً نفوذ النظام وعلاقاته الإقليمية والدولية، والثاني مستخدماً نفوذ «الإخوان» وعلاقاتهم وشبكاتهم المتعدية للقُطرية.
خيرت، كإسلامي ملتزم، له أيادٍ بيض من الأعمال الخيرية وكفالة الأسر إلخ، وجمال مثله، لكنه _ كنيوليبرالي صريح _ يسميها «المسؤولية الاجتماعية للشركات» التي ظهرت، كمفهوم وممارسة، لمعالجة نتائج النيوليبرالية الحتمية من انتشار البطالة والفقر المدقع والتهميش.
كان جمال وشركاؤه، بالطبع، يحتكرون، بقوّة السلطة، الأعمال الكبيرة أو يفرضون حصصهم على شركاتها. ولا ريب أن هذه الممارسة السلطوية أضرّت بتوسع وفعالية الطبقة البورجوازية الكمبرادورية (كمبرادورية لأن نشاطاتها وثرواتها مرهونة بوكالة الرأسمال المعولَم من موقع التبعية). وقد تؤدي القيادة الإخوانية للكمبرادور، هنا، دوراً في تفكيك الاحتكارية المباركية، وتسمح بقدر من المنافسة بين رجال الأعمال، وخصوصاً من المستويات الأدنى. وسيكون، لذلك، كما يمكننا أن نتوقع نظرياً، نتائج إيجابية على النمو الكليّ للاقتصاد المصري، وتوزيع أكثر تنافسية داخل مجتمع الأعمال الذي سيتوسع ليشمل عناصر متزايدة من البورجوازية المتوسطة والصغيرة.
غير أن هذا الاتجاه التنافسيّ والتوسعي ليس مضموناً مع هيمنة إخوانية شاملة على مفاصل السلطات، تشغّل آليات احتكار حزبية وبالكثير... إسلاموية. والأرجح أن نمط الاحتكارية والتواطؤ والزبائنية سيستمر، وإنْ لدى فئات جديدة، بحيث نكون أمام آليات أسلمة النخب الاقتصادية، وليس آليات إطلاقها من القيود التي تعرقل توسعها.
أربعة عوامل أساسية تتحكم بمسار الانتقال من كمبرادورية احتكارية سلطوية إلى كمبرادورية تنافسية وموسّعة على النموذج التركي، وهي: التعددية السياسية والحريات، والحد من سلطة وامتيازات المؤسسة العسكرية، والاستقلالية، والدولة المدنية. ونلاحظ، بصدد النموذج المصري الممكن، ما يأتي: أولاً، إن التعددية السياسية _ بمعناها الفعلي _ مهددة بسيطرة انتخابية محكمة للإخوان والسلفيين والجماعات الإسلامية، وهو ما يخلق مناخاً شاملاً لا يعوق التعددية السياسية فقط، بل، أيضاً، التعددية الاجتماعية والثقافية، ويعطّل الحريات، ويدفع فئات ناشطة إلى السكون أو الهجرة، ويقيّد المبادرات الاقتصادية للعناصر المستبعدة، سياسياً أو ثقافياً أو طائفياً. ثانياً، إن سلطة الجيش في مصر مضمونة من قبل الولايات المتحدة التي لا تزال لاعباً رئيسياً في مصر والمنطقة، بما هي _ تلك السلطة _ ضمانة للسلام مع إسرائيل ومنع الثورة الاجتماعية في الداخل. ولدى حسبان هذا العامل الاستراتيجي بالعلاقة مع الثقل الداخلي التقليدي للجيش المصري، نرى أن موازين القوى بين البورجوازية الكمبرادورية _ حتى في ثوبها الإخواني المدعوم حزبياً وانتخابياً _ وبين المؤسسة العسكرية، لا تسمح بلجم قيادات الجيش وامتيازاته المؤسسية أو تقليص حصته من الكعكة الاقتصادية، وهو ما سيظل يفرض أشكالاً من التشوّه الاقتصادي والاحتكار والضغوط على مجتمع الأعمال. ثالثاً، أظهر السلوك السياسي للإخوان المسلمين _ كما السلفيون _ ولاءهم الامتثالي لثوابت النظامين، الدولي والإقليمي المسيطرين، وذلك من خلال تأكيد العلاقات الاستراتيجية مع الولايات المتحدة والغرب، وعلى معاهدة السلام مع إسرائيل، ولكن الأهم من خلال العلاقات المتشابكة _ والدونية _ مع السعودية وقطر. بل إن خيرت الشاطر، رائد الاتصال والحوار مع الغرب وصاحب المقال الشهير منذ 2005 بعنوان «لا تخافونا»، لم يعلن ترشّحه إلا بعد أن ضمن له وفد إخواني إلى واشنطن، قبول اليمين الأميركي (الجمهوري جون ماكين) بمرشح إخواني للرئاسة المصرية، وبعد أن ضمن، شخصياً، مباركة قطر التي زارها للشأن نفسه. وهو ما يسمح بالقول إن الإخوان المسلمين لا يضمرون نزعة لسياسات استقلالية أو أو لنهج يستعيد مكانة مصر الإقليمية، ويسمح بالاستنتاج أيضاً أن الإسلام المصري يتجه لكي يتحول إلى وهابية صلدة. إن الاستقلالية النسبية _ واسترداد مكانة مصر _ شرطان لازمان للنمو السريع المتسع، غير الممكن من دون قدر من التنافسية الخارجية غير المقيّدة بالولاء الكامل للقوى الدولية والإقليمية، رابعاً، إن الدولة المدنية مهددة في مصر. فعلى خلفيّة تصاعد السيطرة الوهابية، يأتي إعلان الشاطر، مدوياً وقاطعاً، بتلخيص برنامجه في نقطة جوهرية هي تطبيق الشريعة في مصر. وهو ما يعني تقويض الدولة المدنية. وسيكون لذلك التوجه آثار اقتصادية مباشرة تتعلق بجملة من النشاطات مثل السياحة الدولية والإنتاج الفني والثقافي إلخ، لكن آثاره البعيدة المدى هي الأهمّ من حيث إنها تهدد وحدة المجتمع المصري وتهدد الأقباط بالتحول إلى مواطنين من الدرجة الثانية، وتضغط على الفئات المدنية وتلجمها، وتؤدي، في النهاية، إلى منع الاستقرار في البلاد، إلا بوسائل استبدادية، ما يعيد مصر إلى المربع الأول.
نلاحظ أن وضع تركيا، في كل من العوامل الأربعة الفائتة، مختلف نوعياً عن الوضع المصري. فالتعددية السياسية والحريات والاستقلالية النسبية والدولة المدنية، مصونة، دستورياً وواقعياً، في تركيا، ما سمح للإسلاميين بأداء دور قيادي في إطلاق التنافسية وتوسّع البرجوازية وتمكينها من لجم المؤسسة العسكرية. سنلاحظ، هنا، أن نزعة العثمنة لا تتناقض مع المصالح القومية التركية، بل تخدمها داخلياً (في مساعي الدمج الاجتماعي والإتني) وخارجياً (في مساعي التوسع السياسي والاقتصادي)، في حين أن النزعة الإسلاموية في مصر _ والعالم العربي _ تمثّل حساسية مناقضة للتوجه العروبي، ومن شأن نزعاتها الطائفية والمذهبية والوهابية، تفجير الاندماج الاجتماعي الوطني، كذلك فإنها لا تستطيع أن تتمثّل المصالح القومية والوطنية، بسبب تذيّلها التقليدي للرجعية الخليجية.
مع ذلك كله، فإننا لا نستبعد زيادة متوسطة في النمو وتوزيعاً أكثر تنافسية في صفوف البورجوازية الكمبرادورية المصرية بقيادة «الإخوان». لكن الجوهري يبقى، هنا، متعلقاً بالدور الاجتماعي للإسلام السياسي. وسيغدو احتمال تحقيق قدر، ولو محدوداً، من النجاح الاقتصادي المترافق مع إدارة خيرية للبطالة والفقر، علاجاً مؤقتاً للأزمة المصرية، يكفل تجديد هيمنة الإسلام السياسي لفترة قد تطول، ما لم تتجدد الموجة الثورية ضد النيوليبرالية.
لكن في الشروط المصرية الراهنة، حيث تسيطر الليبرالية السياسية على وعي النخب المصرية، بما فيها اليسارية، فإن المعركة الاجتماعية مع النيوليبرالية لا تبدو ممكنة على المدى القريب. وبذلك، يكون «الإسلام هو الحل» فعلاً للتوسع الكمبرادوري والتعايش الجماهيري البائس مع وحشية النيوليبرالية في مصر. فالكتلة السكانية المصرية الضخمة من المهمّشين، ستظلّ تشكّل خطراً على النظام المحلي وربما النظام الإقليمي، وما دام لا يمكن استيعاب القوى العاملة المصرية في وظائف وشروط عمل تكفل لهم الكرامة الإنسانية، إلا في ظل إطاحة النيوليبرالية لمصلحة مثلث الاستقلالية والتنمية الوطنية والديموقراطية الاجتماعية، فإن الإخوان المسلمين والسلفيين هم أكفأ مَن يدير المجتمعات المفقَرة المهمّشة من خلال تنظيم الأعمال الخيرية والتكافل على نطاق مقونن، بما يسمح بلجم الفئات الشعبية وضبطها سياسياً وأيديولوجياً. الثغرة في هذا الحل الإسلامي للتكيّف مع النيوليبرالية، هي أن الطبقة البورجوازية لن تستطيع تمويل هذا الحل من خلال مواردها الذاتية. هنا، تأتي فوائض الخليج المالية لتسدّ الثغرة، وتسهم في نجاح النموذج الخيري. وسيكون الثمن هو منع مصر من النهوض بدورها القومي وإلحاقها بالمركز الخليجي.
جماهير المفقرين المصريين اقترعوا للحل الخيري الإسلامي، وسيقترعون له لفترة قد تطول، ذلك أنهم على درجة من البؤس واليأس لا تسمح لهم بالانتظار لحصد ثمار برنامج تنموي وطني، ويفضّلون، واقعياً، المساعدة «الكريمة» العاجلة وربما مضاعفة فرص العمل في الخليج. وهكذا، فلا عزاء في مصر لليسار إلا إذا استعاد مجدداً البرنامج الوطني الاجتماعي كأولوية.



الإخوان والليبراليون: نتفق اقتصادياً ونختلف ثقافياً

درج المصريون على تقسيم القوى السياسية إلى معسكرين: الإسلام السياسي (من إخوان وسلفية وجماعات) والقوى الليبرالية (وهي خليط من العناصر المدنية والعلمانية واليسارية). وهو تقسيم مضلّل، ذلك أنه يرتكز، فقط، على البعد الثقافي.
الليبرالية الاقتصادية هي حرية السوق والتجارة وحركة رأس المال، حرية الربح وتكديس الثروات. وهي تحولت، منذ مطلع الثمانينيات مع مارغريت تاتشر ورونالد ريغان، إلى نيوليبرالية تتمثل في حرية السوق المطلقة التي لا تقيّد نفسها بمصالح وطنية أو تنموية أو اجتماعية، وتقوم على مركزة رأس المال المالي وسيولة الملكية والنشاطات والاستثمارات من خلال البورصة والمشتقات المالية.
ارتبطت النيوليبرالية في العالم الثالث بتشجيع عمليات الخصخصة وخفض دور الدولة الاقتصادي والاجتماعي، ولكن مع تضخيم دورها السلطوي والإداري بما يمكّن من توجيه الموارد لخدمة قيام وتوسّع البورجوازية الكمبرادورية. لكن، هنا، تؤدي السلطوية دوراً يعرقل النمو ويفاقم الفساد ويقلّص التنافسية بين رجال الأعمال.
قوى الإسلام السياسي نيوليبرالية بالكامل؛ فهي تشجع الخصخصة وحرية السوق والتجارة والملكية الخاصة ومعيارية الربح _ المضبوط شكلياً بالشرع _ وقد نظمت في صفوفها نموذجها النيوليبرالي الخاص من خلال حركة تضم أساطين المال والشركات القابضة والبورصة والوكالات التجارية إلخ، وأصحاب المؤسسات المتوسطة والصغيرة من تلك المتمركزة في القطاع الخدمي تحديداً، وجمهوراً من الفقراء المتعطلين والمتعيّشين الذين يستفيدون من الأعمال الخيرية. وهي شبكة منتظمة على مفصل الخليج من حيث الشراكات أو الوظائف أو الدعم المالي للأنشطة الخيرية.
الليبرالية السياسية هي حرية الممارسة السياسية غير الاجتماعية، حرية لا تتقيد إلا بمصالح الزعيم أو الحزب السياسي في الفوز في الانتخابات التي تتحكم فيها الدعاية والمال وتشابك المصالح مع الشركات ورجال الأعمال. وتستقر الليبرالية السياسية من خلال أغلبيات انتخابية وبرلمانية مؤيدة للرأسمالية. وبالنسبة إلى بلدان العالم الثالث هنالك أيضاً عامل مهم جداً هو عامل التدخل الدولي الذي يضبط اللبرلة السياسية في حدود آمنة. وإذا كانت الليبرالية السياسية تسمح للقوى الشعبية والكادحين بتشكيل أحزابهم، فإن افتقار هذه الأحزاب إلى الموارد يُضعف فرصها في نظام انتخابي يقوم على اقتران النفوذ بالمال.
الليبرالية الثقافية هي حرية الأفكار والفن والمعتقدات والسلوك الفردي، حرية غير مقيّدة إلا بإرادة الفرد الحرة ونظرته الأخلاقية والتزاماته الشخصية.
يمنع الخليج، كلياً، الليبراليتين الثقافية (ما عدا دبي) والسياسية (ما عدا الكويت) ولكنه يطبق النيوليبرالية في اقتصاداته، في حين أن الأنظمة القومية (الناصرية والبعثية) قامت على رفض الليبراليتين الاقتصادية والسياسية، لكنها تبنت قدراً موسعاً من الليبرالية الثقافية.
الحركات الإسلامية العربية تعادي الليبرالية الثقافية، لكنها تتمسك _ كالخليج _ بالليبرالية الاقتصادية. وقد طورت مواقفها من رفض الليبرالية السياسية إلى تبني أنموذجها. فالإسلاميون اليوم ليبراليون اقتصادياً وسياسياً، لكنهم، بسبب أصولهم الفلاحية وتكوينهم الثقافي المحافظ وارتباطاتهم العضوية بالسعودية والميول الوهابية، معادون لليبرالية الثقافية، بلا حدود.
يعد معظم قادة الإخوان المسلمين في مصر من رجال الأعمال الذين عانوا من تضييق نظام حسني مبارك عليهم، سياسياً واستثمارياً. ومن اللافت أن خيرت الشاطر كان من بين 40 قيادياً إخوانياً قدمهم مبارك إلى المحكمة العسكرية، عام 2006، معظمهم من رجال الأعمال، أبرزهم حسن مالك الذي خرج من السجن في آذار 2011، ليؤسس «جمعية رجال الأعمال الشرفاء».
يقول مالك الذي يعد المنظّر الاقتصادي الإخواني الرئيسي، «إن السياسات الاقتصادية التي اتبعت في عهد مبارك، كانت تسير في الطريق الصحيح، لكن شابها تفشي الفساد والمحسوبية»، وكذلك مطاردة رجال الأعمال من الإخوان «تحت دعوى تجفيف المنابع المالية» للتنظيم. وفي هذا السياق كانت تجربة مالك «مريرة»، ويقول: «منذ أكثر من 20 عاماً أصرّ النظام على ملاحقة مشروعاتي. وبدأت السلسلة بإغلاق شركة «سلسبيل» أشهر وأكبر شركات الكمبيوتر في مصر في ذلك الوقت، وكنت شريكاً رئيسياً فيها. المشكلة أن النظام السابق لم يكن يعمل إلا لحساب نفسه فقط ودائرة المنتفعين من حوله؛ ما أضر بمصر ضرراً بالغاً، كان النظام يتعمد ضرب مشاريعنا».
ويرى مالك أن أبرز الأخطار التي تهدد الاقتصاد المصري هي «عدم الاستقرار السياسي. فالاستثمارات الخارجية لن تأتي إلى مصر، ولن تكون هناك تنمية حقيقية وإنتاج إلا بالاستقرار الأمني. وكانت الإضرابات العمالية، التي هدأت الآن، تشكل أحد عوامل التهديد أيضاً. بعد استقرار الأوضاع في مصر سنطرق كل الأبواب لجذب كافة أنواع الاستثمارات إلى مصر. الاقتصاد يمكن أن يقود السياسة بشكل صحيح ولدينا تصورات كرجال أعمال إسلاميين لكيفية إدارة أموال البنوك بطريقة سليمة، توجهه إلى الاستثمار والإنتاج بدلاً من كنزه وادخاره، وسنقدم للحكومة الحالية والقادمة مشاريع عملية في هذا الاتجاه».



الحراك الأردني .. أجرأ لأنه بلا «محرّضين»



في خطوة غير مسبوقة منذ انطلاق الحراك الشعبي الأردني في أواسط عام 2010، أقدمت السلطات على تنفيذ اعتقالات وأعمال تعذيب في صفوف لجنة أحرار الطفيلة _ وهي مدينة ريفية مهمّشة في جنوب البلاد، لكنها تتواصل مع مهاجريها في العاصمة الذين يقطنون فيها حياً مكتظاً خاصاً بهم هو حي الطفايلة _ وسواء في المدينة الأصلية أو في عمان، يبدو «الطفايلة» جسماً سياسياً واحداً، تميّز بالجرأة في كسر السقوف المقبولة أو المتواضع عليها في شعارات الحراك والمعارضة. وكان أحرار الطفيلة أوّل مَن وجه انتقادات حادة صريحة إلى الملك المُستثنى، عادة، من الهجمات اللفظية التي تطال كافة المسؤولين في هتافات المظاهرات والاعتصامات والبيانات.

استذكر أحرار الطفيلة، تقليد الأهزوجة الأردنية المعتمدة على الإيقاع المنغّم السريع والأداء الجماعي والحيوية في إبداء المشاعر الساخنة المتصاعدة المترافقة مع الدبكة، لينسجوا على منوالها أهازيج الهجاء السياسي العنيف، وأشهرها المعروفة بـ«دبكة الفساد» التي تناولت التعريض بملفات الفساد والمسؤولين عنها والمتهمين فيها من أعمدة النظام السياسي.
تبدو الاعتقالات في صفوف أحرار الطفيلة والمتضامنين معهم، وكأنها محاولة للجم الهجمات اللفظية المتصاعدة على الملك. وهو ما يؤكده توجيه تهمة «إطالة اللسان» للمعتقلين. لكن هناك مَن يرى في تلك الاعتقالات خطوة أولى في استراتيجية تقوم على الحل الأمني، توصّل النظام إلى اعتمادها بصورة متدرجة في سياق التحضير لانتخابات برلمانية بنظام انتخابي يسمح بتمثيل أعلى للأردنيين من أصل فلسطيني والإخوان المسلمين، تنبثق منه حكومة نيابية تمثّل، كما يأمل النظام، نهاية المطاف للحراك الشعبي.
يستند الحل الأمني إلى فكرة سطحية خرجت بها تقارير «خبراء» تقول إن الحراك الأردني هو نتيجة تحريض منظم يقوم به أشخاص لا يزيدون على مئة. ويمكن، بالتالي، إرضاؤهم أو اعتقالهم، على هامش صفقة مع «الإخوان المسلمين»، وينتهي الأمر كله. لكن جمعة «الفداء للوطن»، في 6 نيسان الحالي، أظهرت أن الاعتقالات تضاعف أعداد المحتجين وتزيد عدد المحافظات المشاركة، بينما تبيّن أن الصفقة مع «الإخوان» _ المصممين على نظام انتخابي يمنحهم الأغلبية النيابية _ قد تعثّرت.
طوال أكثر من سنة من الفعاليات الشعبية المثابرة والسلمية، أظهر نشطاء الحراك الشعبي، ميلاً إلى تلافي الصدام مع السلطات التي قليلاً ما استعملت العنف من جهتها. وهو ما طبع الاحتجاجات الأردنية بالطابع السلمي، وأخرجها، بالتالي، من نشرات الأخبار. وبعكس النشطاء السوريين، تحلى نظراؤهم الأردنيون بالحكمة والحس بالمسؤولية إزاء الوضع الجيوسياسي المعقّد للدولة الأردنية، من دون أن يكلّ إصرارهم على تصفية الحساب مع الفساد الكبير وإطاحة الموديل الاقتصادي النيوليبرالي والتشديد على حسم جملة الملفات الخاصة بالمسألة الوطنية، سواء لجهة التجنيس والتوطين و الدور الأردني في فلسطين أو لجهة إلغاء معاهدة وادي عربة وتظهير الموقف من إسرائيل كعدوّ.
يتميز حراك الطفيلة فعلاً بعلوّ سقف شعاراته. وقد لا نكون، فعلاً، أمام حل أمني، وإنما أمام إجراء لمعاقبة شباب الطفيلة على جرأتهم غير المسبوقة أردنياً. والطفيلة أجرأ ليس فقط لأنها أكثر تهميشاً، بل لأنها أيضاً تتحرك من دون مؤثرات القوى السياسية القديمة والجديدة. الطفيلة نسيج وحدها. وهي تعبّر، بلا فذلكة سياسية، عن ضمير الأردنيين، في شعارات وأهازيج يتلقفها مئات الآلاف ويعجبون بها ويرددونها. وباختصار؛ إنها أجرأ لأنها بلا «محرّضين».
من الواضح أن الأردنيين يتجهون، أسرع فأسرع، إلى الانخراط في موجة متسعة من الراديكالية الوطنية والاجتماعية، بينما تتبدد فرص التفاهم على المرحلة الجديدة من حياة البلد.
ثمّة، بالطبع، دوافع موضوعية معروفة وراء تلك الراديكالية. لكن، هنالك، أيضاً، دوافع نفسية جماعية. وهذا النوع من الدوافع لا يمكن تفسيره بعامل أو سواه، ولا يمكن «استيعابه» بالوسائل التقليدية وبالخطاب التقليدي.
بالتطرّف، تنتقم الجماعة الوطنية الأردنية لنفسها من تاريخ طويل من الامتثالية السياسية، ومن التعامل الحكومي _ والعربي والدولي _ معها كملحق غير محسوب للنظام السياسي. الآن، تريد هذه الجماعة أن تؤكّد ذاتها وهويتها وحضورها. وتأكيد الذات راديكاليٌ دائماً، سواء على مستوى الأفراد أو على مستوى الجماعات، وهو لا يتجه صوب الاعتدال إلا حين يتحقق.
الجماعة الوطنية الأردنية، اليوم، مهجوسة بمكانة ودور واعتراف، أكثر مما هي مهجوسة بمطالب. المطالب لها وظيفة تأمين مواد الاشتعال. وكلما جرى تجاهلها تصبح أكثر اشتعالاً. الخطاب السياسي والإعلامي الأردني، بشقيه الرسمي والمعارض التقليدي، لم يعد يعبّر عن وجدان الأردنيين ولا يقنعهم ولا يرضيهم، ولا هم مستعدون للتعايش معه: مَن يناقش الخصخصة من منظور فني لن يجد آذاناً صاغية عند الأردني الذي يريد استعادة القطاع العام كجزء من عملية وطنية شاملة. ومَن يفكّر بالمساس _ مثلاً _ بالمكتسبات المحلية في التمثيل النيابي، سيفاجَأ بردة فعل عنيفة غير متوقعة، لن تجعل الانتخابات ممكنة. ومَن يعتقد بإمكانية الحل الأمني إزاء الحراك الأردني، سيجد نفسه أمام خيارين: التراجع أو التصعيد إلى المجهول. ومَن يناقش العلاقات مع إسرائيل بمنطق براغماتي سيجد نفسه معزولاً...
في رئاسة الوزراء، يتطلع الأردنيون إلى زعيم لا إلى موظف كبير. وفي وزارة الخارجية، لم يعد ذلك الدبلوماسي «المهني» الذي يقول أشياء غامضة أو متهاودة، مقبولاً. وفكرة المساعدات لقاء اشتراطات سياسية أو دونها، أصبحت ممقوتة. الكرامة هي الآن قطب الجاذبية السياسية للأردنيين. ولذلك، يتكرر الحديث الساخن عن «الحقوق الاجتماعية» إزاء «المكرمات الملَكية».
سيتطوّع الكثيرون لإعطائي أمثلة مضادة منسولة من التقليد الأردني الامتثالي الفائت. ولدي أنا أيضاً أمثلة. ولكنني أتحدث عن تيار صاعد يعبّر عن نفسه بقوة وحيوية ويحفر طريقه بأظفاره.
رغم كل المصاعب الاقتصادية، ووسط كل المطالب الاجتماعية والسياسية، علينا أن نلاحظ أن كلمة واحدة أطلقها الأمير حسن _ عمّ الملك والناطق باسم العائلة المالكة _ فاضل فيها بين «آباء الهاشميين وآباء الأردنيين»، كانت أشدّ، في استفزاز الأخيرين ورفع سقف خطابهم السياسي، من عشرات ملفات الفساد ومن الظل الثقيل للفقر والبطالة. وأنا لا أعني أن الدوافع الاجتماعية والسياسية لا تؤدي الدور الرئيسي في الحراك الأردني، لكنني أؤكّد مركزية الشعور الوطني بوحدة الجماعة وتاريخها ودورها وكرامتها في تحريك الأردنيين.
الشعوب _ كالأفراد _ تتكوّن لديها أمزجة لا يمكن التعاطي معها بالحسابات. ومزاج الشعب الأردني، اليوم، هو مزاج راديكالي لا يمكن كسره، ولا يمكن استيعابه بحلول ترقيعية. لذلك، أصبح التغيير الشامل والجذري متطلباً وجودياً للجماعة الوطنية الأردنية التي تريد قيادة لا تتفهم فقط احتياجاتها المادية، وإنما، أيضاً، احتياجاتها النفسية والمعنوية. وهو ما يفشل كل من النظام ومعارضته الإخوانية معاً في فهمه، بينما لم تتبلور، بعد، قوة ثالثة منظمة تحقق الانتقال المطابق للاحتياجات الأردنية.

(ن. ح.)