التذرّع بالدستور لانتهاك... الدستور!

  • 0
  • ض
  • ض

من دون أن نتناول هنا دور الأشخاص (ودورهم مهم ومؤثِّر دائماً وإن كان متفاوتاً) يمكن ملاحظة أن ما اصطُلح على تسميته الطبقة السياسية (والمقصود الحاكمة طبعاً) تواصل إعاقة كل تقدُّم في البلاد، الأمر الذي نلمس آثاره السلبية، المتفاقمة الخطورة، في تراكم الأزمات وفي استعصائها على المعالجات والحلول والتسويات. من بين الممارسات والتقاليد التي يجري تكريسها ومراكمتها تفعيل المحاصصة، ذات القناع الطائفي والمذهبي، ووضعها في مرتبة أعلى من الدستور والقانون. لم تعد النصوص الملزمة ذات أهمية مرجعية، بل هو "العرف" الذي كان في البداية استثناءً فأصبح، بمرور الوقت، قاعدة يؤخذ بها ويبنى عليها في كل المجالات والحقول. المظلة العامة لهذا الوضع الشاذ هي "الميثاقية" التي بها يجري التذرع لإخضاع العام للخاص، أي لمواصلة منع بناء دولة موحَّدة وحصينة وذات مؤسسات يحكم عملها الدستور والقانون. "والميثاقية" تلك، وقد كانت في مرحلة أولى حاجة لمراعاة مصالح الجميع في العقد الاجتماعي التأسيسي (ثمة أسباب أُخرى خارجية)، تحوَّلت، تباعاً، إلى أداة لتعزيز الفئويات على حساب المشتركات ولنشوء الدويلات المتعددة على حساب الدولة الواحدة. في مجرى ذلك، ليس فقط أن ما كان يسمى الإقطاع قد استمر وتجدّد بالوراثة والعصبيات، بل هو أيضاً أصبح النموذج الذي تحتذي به القوى الجديدة الوافدة من خارج نادي الزعامات الإقطاعية التقليدية. نشهد اليوم "فصول" محطة من هذا المسار المشوّه. كل محطة جديدة تكون أسوأ من سابقاتها بوصفها مرحلة متقدمة في الاتجاه نفسه، أي في اتجاه تعزيز تحاصص مؤسسات الدولة وإخضاعها لمصلحة فئات وأشخاص يستخدمون العصبيات لتحقيق أهدافهم ومصالحهم الخاصة. ليس مهماً الآن، على سبيل المثال، أن يجري تجاوز المهلة الدستورية لانتخاب رئيس البلاد ما دامت "الميثاقية" يجري انتهاكها من قبل "الشريك" الآخر بفعل تغيُّر موازين القوى، الذي غالباً (أو حتى دائماً) ما حصل بالأمس ويحصل اليوم بسبب الاستقواء بالخارج الإقليمي أو الدولي أو الاثنين معاً. مررنا قبل ذلك بمرحلة التمديد غير الدستوري لأكثر من رئيس للجمهورية. لكننا الآن نُخضع مجمل الاستحقاقات الدستورية للمحاصصة الفئوية بذريعة "الشراكة الميثاقية"، بما في ذلك المجلس النيابي الذي يشكل الحلقة التنفيذية والتشريعية الأهم في تكوين مجمل عمارة السلطة في لبنان. لم يكن التمديد الأخير للمجلس النيابي في مرحلتيه الأولى والثانية مبرراً. الصراع على طبيعة قانون الانتخاب هو ما أدى إلى التمديد وليس أي أمر آخر فرضته ظروف قاهرة. كذلك فإن موقع رئاسة الجمهورية شاغر الآن، لأن طرفاً سياسياً يريد أن يأخذ لنفسه ما يأخذه سواه، ولو اقتضى الأمر إلحاق ضرر شامل بالبلاد وبعمل مؤسسات السلطة وبالمواطن بالدرجة الأولى... الأسوأ أنه يجري التذرع بالدستور من أجل تبرير ذلك الانتهاك الفظ للدستور! "المناصفة" مثلاً، هي تدبير مؤقت حسب المادة 95 من الدستور. النص الدستوري لا يقبل أي اجتهاد. "الهدف الوطني" حسب الدستور هو انتخاب مجلس نيابي خارج القيد الطائفي. وحيث إن المجلس النيابي المنتخب من الشعب هو الحلقة الأساسية والتأسيسية في تكوين السلطة، فإن إضفاء طابع أزلي ودائم على "المناصفة" يصبح من قبيل الفجور والخزعبلات والإعاقة. "المناصفة" مُحالة (ضمناً، ومن دون نص دستوري صريح) إلى "مجلس الشيوخ" الذي يتشكل على أساس طائفي بصلاحيات محصورة يمكن أن تعالج الهواجس الخاصة وما يمكن أن يستجد من مظاهر الهيمنة أو التمييز أو الامتيازات غير المشروعة... وصولاً إلى مسائل علاقات البلاد الخارجية وتنظيم الأحوال الشخصية... الجموح الذي يجري الآن في نطاق السياق المذكور، أي سياق وضع "المحاصصة الميثاقية" في مواجهة الدستور والقانون، يتكامل الآن، بكلام صريح وحاد، مع التهديد بنوع من اللجوء إلى الانقسام والتقسيم إذا رفض "الشريك" القوي "العدالة" (أي المناصفة) في التقاسم والتوزيع مع الشريك المغبون (التناوب على الهيمنة!). الأمثلة العملية كثيرة: من التلويح بالفدرالية، إلى المطالبة بقانون انتخابي تنتخب فيه كل طائفة ممثليها، إلى التهديد باحتمالات وخيارات أبعد في حال عدم تطبيق "الشراكة الحقيقية" والاعتراف بـ"الحقوق" المصادرة. هذا الانحراف، في مستواه الخطير الراهن، قد بدأ، أولاً، بـ"ثلم أعوج" من قبل محاصصين قادرين (بدعم خارجي) دشّنوا عملية الاعتداء على نصوص الدستور الراهن وعطّلوا بنوده الإصلاحية. كل ذلك، طبعاً، بدعم من الخارج أو بقرار منه، ودائماً لغير مصلحة تقدم البلاد وتعزيز مؤسساتها واحترام دستورها والقوانين. المشهد السياسي الراهن في لبنان سوريالي إلى حدٍّ كبير، أو هو "كالمنام المُخربط"! الطرف الأكثر رسوخاً في المحاصصة وما بُني عليها من تميُّز ومنافع، يرفض لسواه حصة مماثلة لحصته ما دام الأمر قد يُلحق ضرراً ما بمصالحه وبحجم ما يستحوذ عليه من كعكة السلطة ومنافعها. وفريق آخر، رغم أنه طائفي عريق، يرفض أن تتحقق العدالة في "الشراكة" بجهود سواه من طائفته، لما قد يوفر له ذلك من مكاسب شعبية في منافسة ضارية توجهها، هي أيضاً، المصالح الخاصة لا العامة... السياسة تظل حاضرة بالتأكيد في خلفية المواقف هنا وهناك. وهي سياسة يتكامل فيها الداخلي بالخارجي. وفي الشروط اللبنانية الراهنة، الجهات الخارجية هي من يحدد تلك السياسة باعتبارها مرجعيات القوى الداخلية، خصوصاً بعد أن استقر الأمر على تكامل واندماج العوامل السياسية بالعوامل "الروحية"، وهذه الأخيرة عوامل تنطلق من عصبيات وتوترات قديمة ذات طابع مذهبي بشكل خاص. يصبح المشهد، أكثر مأساوية، وليس سوءاً فقط، بسبب شعور أطراف السلطة اللبنانية بأنهم في مأمن من المساءلة والمحاسبة السياسية والشعبية. تعطيل الدستور والمؤسسات يستتبع، أول ما يستتبع، تعطيل القضاء (إذا لم يجرِ تسخيره في معظم الأحيان). برز هذا الأمر في مسألة النفايات بشكل أثار سخط فئات شعبية وشبابية واسعة، أُتيحَ لها، أو لبعضها، أن تحتج وأن تكتشف الرابط الوثيق ما بين منظومة المحاصصة، من جهة، والفساد بكل أشكاله، وصولاً إلى فضيحة النفايات المستمرة، من جهة ثانية. استياء قطاعات واسعة من المواطنين كان كبيراً. لكنه، مع ذلك، لم يكن كافياً لفرض تنازلات مهمة على أطراف السلطة، نظراً إلى تمرّسهم الطويل في الدفاع عن نظامهم ضد الفئات الشعبية والديمقراطية. غياب مرجعية وطنية فاعلة ومستقلة عن المشهد السياسي، هو نقطة الضعف الأساسية التي تُغري فرقاء المحاصصة بالعبث بشؤون البلاد والعباد على النحو المهين والخطير الذي نشهده اليوم. ثمة أمر مهم يجب إدراكه، خصوصاً في ضوء مستجدات ما بعد استفحال الإرهاب وتعاظم خطره وتوسّعه: الفئوية قد تدمر بلداناً عن بكرة أبيها إذا ما جرى التهاون بالمصالح العليا لهذه البلدان لحساب المصالح الخاصة. والطائفية والمذهبية هما خطوتان تأسيسيّتان تقودان إلى "داعش" كرمز للتطرف عندما يبلغ مداه الأقصى. لقد أثبتت تجارب مريرة وباهظة التكلفة أن منظومة المحاصصة الطائفية والمذهبية هي العائق الرئيس أمام بناء دولة موحدة وسيدة ومستقرة في لبنان. الاستمرار في الفئوية والطائفية والارتهان للخارج هما مجازفة بالبلد رغم كل ادّعاء آخر: واهم أو منافق أو مأجور! * كاتب وسياسي لبناني

0 تعليق

التعليقات