على مثال البشر، وتماماً كما سلوكهم، تناقضاتهم ولحظات إبداعهم كما ضعفهم، كذلك الإعلام، بعد المراهقة يصل إلى البلوغ والنضج، لكن ذلك لا يعني ابتعادَه النهائي ـ كما سبق وقلنا ـ عن تصرفاتٍ مراهقة وعن سلوكٍ صبياني. هذا هو تماماً ما نعيشه كلّ يوم، عندما يفاجئنا الأداء الإعلامي في دولة أو في ديموقراطيّة متطورة، فنراه يَجْنَحُ عن النضج الذي وصل إليه، وفي لحظة ضعفٍ ما، تصدرعنه تصرفات في الأمس القريب زُلزلت سمعة الإعلام الغربي المدّعي للنضج التام؛ وكانت كبوة أخلاقيّة ومهنية لمجموعة إعلامية عالميّة تُمِْسك بزمام عشرات وعشرات من وسائل الإعلام المطبوعة، المسموعة والمرئية والفضائيّات وشبكات التواصل الاجتماعي، ونعني حتماً مجموعة «مردوخ» (Rupert Murdoch)، وإذا بالعرش الذي يُْصطَلح على تسميته «أمبراطورية إعلاميّة وعالميّة» يهتزّ حتى الصميم؛ ومن دون تردّد، كانت الكلفة الأوليّة لهذا التصرف الأرعن إغلاق صحيفة واسعة الانتشار، ودفنها، رغم أن عمرها أو تاريخها يرقى إلى أكثر من قرنٍ من السنين.
هكذا ومن دون مقدمات ولا مطوّلات ماتت صحيفة عريقة هي «أخبارالعالم» (News of the World)، كما يموت إنسانٌ في ذروة صحّته وعافيته، ويكون السببك «السكتة الدماغيّة أو القلبيّة»، بينما في حالة «أخبارالعالم»،فكان سبب الوفاة «السكتة الإعلاميّة أو الأخلاقيّة المهنيّة»، التي أَوْدَتْ بصحيفةٍ ناجحة لا تُعاني أيَّ خللٍ مادّي أو أيّة أزمة، بمجرد افتضاح أمرها في هَتك محرّمات الحياة الشخصيّة والتنصّت وعدم مراعاة مقاييس ومعايير العمل الإعلامي الشريف والنبيل.
لعلّ أهمّ ما في هذه الحادثة الإعلاميّة المؤسفة، والتي دخلت سجلات تاريخ الإعلام الحديث، ليس حتماً تفاصيلها وكواليس المخالفات والأبعاد الماليّة والاقتصاديّة الناجمة منها وعنها؛ رغم الأهميّة البالغة لهذه العناوين. أما المهمّ بالنسبة إلى موضوعنا وفي هذا السياق من دراستنا «لنشوء وارتقاء الإعلام»، أن نتوقّف مليّاً ونحاول الإجابة عن «أسئلةٍ مِفتاح» وأساسيّة، لسبر أعماق الإعلام في رحلة بلوغه ونضجه.
من هذه الأسئلة:
* كيف وصل الأمر في تطوّره الإنساني، أن تَتََسبَّب َفضيحةٌ إعلاميّة، محض أخلاقيّة ومهنيّة، في موت صحيفة عريقة وناجحة لا تعاني أية أزمة ماديّة أو ظروفٍ قاهرة خارجة عن إرادتها؟
* كيف يصحو الضمير الجماعي والعالمي فجأة، ويملي أو يوحي بإعدام صحيفة بهذا الحجم وبهذه العراقة؟ هذا إن لم يكن ماسببّه الرأي العام، هو بفعاليّة إصدار: «حكم الإعدام»؟
* ماذا تغيّر في بنيّة مهنة الإعلام على مدى القرون، حتى بلغت هذا الحدّ من الحضارة والتطوّر، كي تُعَاقِب عبرالرأي العام ومقاييس الصدقيّة والأخلاق المهنيّة وسيلةً إعلاميّة بهذا الحجم، من دون تردّد ومن دون تطوّع صوتٍ واحد من كل البشرية، كي يدافع أو يبرّر تهمة ومصير هذه الصحيفة، وبالتالي تَمَّ تنفيذ حكم إعدامها، من دون دفاع ومن دون حتى مجرّد منحها «الرغبة الأخيرة»، فصدرعددها الأخير مع اعتذار، وكان بمثابة ورقة النعي وإ شعارالدفن؟
* متى يصل دور الشرق والعالم العربيّ، كي يجد في حضارته المقدرة على محاكاة مثل هذه القسوة العنيفة والعادلة في آنٍ واحد، وهذه الحضارة المتطلبة من الإنسانية والتي لا تغفر مثل هذه الذنوب؟ فينعم شرقنا عندها بمظاهرالأداء الإعلامي المسؤول، ويفرض على الإعلام العربيّ أن يبرأ من أمراض الرشوة والدسّ وصناعة الفتن والعزف على الغرائز واستنهاض القمع، وترويج التبعيّة؟
* بعيداً من الإعجاب المفرط بالغرب، وبعيداً من تبرئة الغرب من الفضائح والرذائل والإجرام الإعلامي بل على العكس، مع إدانته، لأن الغرب مليءٌ مِنها وليس بريئاً قطعيّاً، إلا أنه لا يسعنا إلا أن نمنح كلَّ ذي حقٍّ حقه، فالبشرية لن تصبح يوماً معصومة عن الأخطاء وعن الجرائم، لكنّ المقدرة على عقاب ٍبهذه القسوة العادلة لتصرّف ٍمهني مجرم هوحتماً ما نتمناه أن يحدث عندنا. فالنموذج أوالقدوة أو المثال لا بدّ من أن يساهم في تقويم كل اعوجاج؛ وهذا ما نحن في سبيل رصده، كي نصل إلى فهم تطوّر الإعلام وارتقائه على مدى العصور، من شكله البدائي المُرتجل، أوالمحاكي للأدب والبلاغة، وصولاً الى النضج والبلوغ اليوم، وإلى الحزم من دون هوادة ، في فرض قواعد المهنة الأخلاقيّة، من دون تنازلات، وصولاً إلى «إصدار أحكام الإعدام».
الإجابة عن كل سؤال من هذه التساؤلات هي خطوةٌ واثقة في رصد تاريخ تطوّر الإعلام في رحلته نحو البلوغ و«سن الرشد» إذا ما صحّت المقابلة.
من مراهقة الإعلام وَنَزق البروباغندا، مروراً بـ«آلام النمو»، ثمة تغيير نوعي حدث في الفكر السياسي، وترعرع بدفء القضايا النبيلة، وما يزال يُزهر البراعم
الواعدة في تربة الإنسانيّة، وَيُبَشّر بالوجهة المثاليّة التي يرنو إليها الإنسان ويطمح للوصول إلى جنّاتها: نعني طبعاً: الحكم العادل والمتكامل، وما نَْصطَلح على تسميته: الديموقراطيّة.
تماماً كما هي علاقة الهواء والماء والنور مع نسغ الشجرة وغذائها؛ وكيف تتحول هذه العناصر عضويّاً، من مكوّنات عدّة لتولّد عنصرا ًمستقلاً واحداً يضمن حياة الشجرة ونماءها: كذلك تماماً علاقة الديموقراطيّة مع الإعلام.
الديموقراطيّة أيضاً: هواءٌ وماءٌ ونورٌ وتربة وعناية وفصول ومواسم وحصاد... والإعلام في هذه المقابلة هو العناية والحصاد في آنٍ واحد، وفي استعراضٍ لنشأة الديموقراطيّة وعلاقتها العضوية مع الإعلام، سنحدّد «جذور» الأداء ونبل الرسالة.
تقوم الديموقراطيّة وعناصرها الحتميّة للوجود والبقاء على الشروط التالية:
* الانتخاب أوالاقتراع: وهما الشرط الأساس لكل ديموقراطيّة، لأن الانتخابات تقرّر منح المسؤولية و«الأمانة» أو الوكالة للحاكم، ويتمّ ذلك عبر الاقتراع وهي العمليّة التقنيّة لإجراء الانتخاب وللتأكد من نزاهة إجرائها.
* تتعدّد قوانين أو تشريعات الانتخاب من «صوت واحد لكل إنسانٍ» واحد، إلى اعتماد الكميّة أو الإقليمية وصولاً إلى النسبيّة وتحديد الأحجام التمثيليّة للمناطق أوالولايات أو المحافظات، وصولا ًالى التطبيق على السلطتين التشريعيّة (نواباً وشيوخاً) والتنفيذيّة (رؤساء أو وزراء).
* فصل السلطات: من أكثر مبادئ الديموقراطيّة أهميّةً، لضمان أدائها السليم، أن يتمّ احترام فصل السلطات وتجنّب المزج تماماً فيما بينها، ولعلّ التاريخ يبدأ في هذا الموضوع عند الإغريق، حيث بدأت فكرة التناغم والاستقلالية في ما بين السلطات، لكيّ تكون آلة الديموقراطيّة سليمة الأداء.
* أما الفضل الأبرز لتطبيق هذا المبدأ كما هو اليوم، فهو يعود إلى إنكلترا، وولادة معاهدة» ماغناكارتا (Magna Carta) التي وُقّعت العام 1215 وأدخلت المبادئ البدائيّة لمراقبة أداء الحكومة، وضبط هذا الأداء عبر استفتاء أصحاب العلاقة أي: الشعب، قبل إصدار القوانين وفرض الضرائب على من سيتحمل نتائجها من دون المشاركة في الموافقة على تطبيقها.
* المحاسبة أو المساءلة: قلب كلّ ديموقراطيّة نابضة أن تُطَبّق مبدأ المساءلة والمحاسبة، عبر من مَنَحَ هذه الوكالة أو هذا «الصوت»، للعمليّة الانتخابيّة ككل وليس للفائز فقط. وهذا ما هو صعب التنفيذ في عالم الأنانيات البشريّة. كلّ مسؤول: مُنتَخب أو مُعيّن، يجب أن يخضع للمساءلة وللمحاسبة، من دون استثناء، وكل مُنتخب أو مُعيّن هو مسؤول أمام المواطن وبالتالي يتحمّل وزر كل تصرفاته وقراراته.
* الشفافيّة: كلمةٌ مطّاطة وباتت فاقدةً لمعناها في بعض عالمنا العربيّ ودول العالم الثالث، نظراً الى استغلالها لفظيّاً وبلاغيّاً وإهمالها معنويّاً وممارسةً.
الشفافيّة حتميّة لكل ديموقراطيّة لأنّ قرارات وقوانين وإجراءات الحكم الديموقراطي، يجب أن تكون إلزاميّة: في العلن، ومعروفة مسبقاً، قبل البدء بتطبيقها. هذا شرطٌ حتمي لحكم الشعب من الشعب وله امتياز المساءلة والمحاسبة، وإلاّ تسللّت الديكتاتوريّة والأنظمة الفرديّة الظالمة والنفعيّة.
* الإعلام وحريّة التعبير: كل ما سبق من انتخاب وفصل سلطات ومراقبة ومحاسبة ومساءلة وشفافيّة، لا يكون عمليّاً وقابلاً للتنفيذ، إلاّ عبر حريّة التعبير وعبر الإعلام من صحافة وتعليق وتحليل وتقويم وكشف وفضح لكلّ خرق أو لكلّ تصرّف خاطئ بحق الشعب والديموقراطيّة.
الإعلام عبر حريّة التعبيرهو البعد التطبيقي والعملي القادرعلى ضمان أداء الديموقراطيّة، شرط أن يكون إعلاماً منيعاً، منزّهاً ومحصّناً بالشرائع والمعايير
المهنيّة النبيلة؛ حيث لا مجال للموبقات وتضارب المصالح، لإفساد هذه «الآلة الدقيقة» الكاشفة باسم الشعب، لكلّ مخالفة تطال حقوق الشعب ومكتسباته وامتيازاته وحرياته. السلطات الثلاث، المنتخبة أو المعيّنة من المنتخبين: كلّها من دون استثناء تحت مجهر الإعلام، يعاينها، يراقبها، يسائلها، ويصدر عليها الأحكام فيقرر الشعب: مجتمعاً أو بأكثريته الفاعلة والحقيقيّة، نزاهة حكّامه أو فسادهم ويعاقبهم، فيستقيم عندها الاعوجاج أو يُخلع الفاسد ويُستبدل وفقاً لحكم الشعب.
هذه هي السلطة الرابعة: سلطة الإعلام، وقد قال فيها إدموند بورك (Edmund Burke) كما نَسب َإليه توماس كارلايل (Thomas Carlyle): «في البرلمان حيث يجتمع المنتخبون والمعيّنون والقضاة، تجلس أمامنا ثلاث سلطات. لكنّ ثمة سلطة رابعة هي الأهم من الثلاث معاً، وهي حتماً ضميرالشعب ولسانه...». وهذا يعني: الإعلام.
في الأصل الديموقراطي لولادة مصطلح «السلطة الرابعة»، لا شك في أن حتميّة قيام الحكم الديموقراطي على المعرفة المسبقة لكلّ قرارات الحكام، وتنفيذاً لمقولة «لا أحد مُعفى من معرفة كلّ القوانين وعدم جهلها»، لا شكّ في أنّ قيام «صحافة حرّة»، توصل هذه القوانين كمشاريع وتنشرها قبل إقرارها هو أمرٌ إلزاميّ، كي يكون مبدأ «الماغناكارتا» محترماً ونافذاً. وعليه ومنذ ولادة الديموقراطيّة الأولى في بريطانيا أيام كارلايل وبورك (Carlyle & Burke) كان السائد أن يحضر المراسلون والإعلاميون جلسات التشريع والمناقشات؛ لكي يمارسوا واجبهم في نشرهذه المداولات في الصحف، فيطّلع الجمهور والشعب الغائب والمستحيل حضوره كلّه مجتمعاً، هذه الجلسات، فيتحقّق عندها رمزيّاً وفعليّاً مبدأ العلانية والشفافية والمعرفة المُسبقة للقوانين وللأنظمة التي ستصبح مرعيّة الإجراء.
متى بدأت الديموقراطيّة تعترف وتتعامل مع الإعلام على أساس كونه «السلطة الرابعة»؟
النص الأوّل الذي يؤكّد هذا الاعتراف يعود إلى العام 1822 في رسالة من جايمس ماديسون (James Madison)، يقول فيها ما معناه: «الحكومة الشعبية (الديمقراطيّة) من دون إعلام شعبها وناخبيها بقراراتها ومشاريعها وأحكامها مسبقاً، هي مُقدّمة لمأساة دامية أو لمهزلة في انتقاص النزاهة والحكم الشريف أو ربما الاثنين معاً: ذلك أن المعرفة هي علاج الجهل، كما أن معرفة الشعب لِنوايا وأفعال حاكميه هي السبيل الأسلم والأَصحّ لحكم الشعب من الشعب، ولا يكتمل ذلك الهدف النبيل، إلاّ إذا مُنح الشعب قوة المعرفة التي هي بالنتيجة قوّة الشعب في مساءلة حاكميه».
من مفاصل التأريخ للإعلام الحرّ؛ أن نتذكّر ولادة الإعلام غيرالموجّه وغير المموّل من الحكومة أو من أنصار السلطة والمنتفعين، ذلك أنّ الإعلام المُرتهن
أو المشكوك في موضوعيّته، والمتّهم بازدواجيّة أهدافه وتسخير مصالحه، هوحتماً «بروباغندا» وليس إعلاماً معرفيّاً صحيحاً ومُعافى.
لا مجال للإعلام أن يؤدي دور السلطة الرابعة، إلاّ إذا كان مجرداً تماماً كما يتعامل المختبر العياديّ مع عيّنات فحص الدم والصورالسينيّة. على هذا الأساس في ما يلي العوامل التي تضمن مناعة واستقلاليّة الإعلام، بالأضافة إلى تحديد العوامل المساعدة والتي طوّرت الإعلام ليصبح «السلطة الرابعة»:
* نسبة محو الأميّة وارتفاع معدل ثقافة الشعب: عامل رئيسي في رفع فعاليّة الإعلام وتمكين المواطن.
* النضج السياسي الجماهيري ورفع المستوى النقدي والتحليلي لدى الجماهير من خلال القراءة، الاستماع، المشاهدة، ومؤخراً الكتابة، المشاركة والتفاعل عبر التواصل الاجتماعي مع السياسييّن وصنّاع القرار.
* مداخيل الإعلام وحتميّة أن تكون نظيفة (من دون ارتهان) وشفافة (معروفة المصدر).
* الإقدام والشجاعة في تحويل الشك المنهجي أو ما يُعرف بحاسة الصحافي السادسة، إلى اختراقٍ نوعي في كشف الحقائق وإزالة اللثام عن التصرّفات السياسيّة غير الأخلاقيّة، تماماً كما هي الأيقونة الشهيرة التي طبعت العصر الحديث عموماً، وفي الولايات المتحدة الأميركيّة خصوصاً، مع فضح الرئيس ريتشارد نيكسون (Richard Nixon) وإلزامه الاستقالة هروباً من المحاكمة، مع قضيّة «ووترغايت» (Watergate) وبفضل الصحافيّين بوب وودورد وسيمور هرش (Bob Woodward & Seymour Hersh)، مع شرط إلزامي لا تنازل عنه وهو: مراعاة الصحافي للأصول المهنيّة وعدم استغلال حجة تقصي الحقائق كذريعة تؤدّي إلى خرق القوانين عبر التزوير، والسقوط والجموح، والتعدّي غير الأخلاقي وغير المنضبط، ممّا يجعل البحث «الجنائي» غير قانوني، ويُفسد القضيّة النبيلة الأساسيّة.
* تعميم الإعلام بمختلف وسائله من دون استثناء، طباعةً، مشافهةً أو نقلاً مرئيّاً، بكلفة متدنّية تؤهل الجماهير، على تنوّع دخلها، أن تكون قادرة بمداخيلها الماديّة على معرفة هذه الوقائع الإعلاميّة وامتلاكها، تعميماً للفائدة وتحقيقاً لحق المعرفة. لعلّ البعد التكنولوجي الحديث اليوم، مع الإنترنت وأقنية التواصل الاجتماعي، من أكثر الإنجازات العلميّة تسهيلاً لتحقيق هذا الهدف، ولحذف تهمة «النخبة» عن المستفيدين من الإعلام، بعد أن ذاعت وانتشرت بكلفة زهيدة ولم تعد حكراً على النخب إطلاقاً.
* حتميّة عدم مزج «أنواع أو أجناس» الإعلام بعضها مع البعض الآخر؛ أي إلزاميّة ذكرالإعلام الحكومي وتمييزه عن الإعلام السياسي الملتزم، وصولاً الى الإعلام الموضوعي، فصل الإعلان والترويج للأفكار والبرامج السياسيّة عن الوقائع والمواد الموضوعية. إنّ ميول الحكومات والحكام لامتلاك وسائل الإعلام أو للسيطرة عليها هو مرٌض لا يقاوم ولا دواء له حتى اليوم.
لذلك، يتحتّم الحذر من هذه النزعة وإلزام الإعلام بشفافيّة إظهار مصادردخله وهويّة مموّليه ومالكي وسائله، ولعلّ القول المُعبّر لتوماس جيفرسون (Thomas Jefferson) يختصرهذا المرض: «لوحقّ لي أن أ ختار ما بين الحكومة في بلد من دون الصحف الصادرة فيه، أو بأن أختارالصحف الصادرة من دون أن
تكون لنا حكومة، لرضيت حتماً بالخيار الثاني من دون تردّد».
في يومنا الحاضر؛ كم نستشعر أهميّة هذا العامل وحتميّة احترامه وفر ض تنفيذه على العاملين في مهنة الإعلام! كم نُعاني اليوم، وكم تُطْعَن السلطة الرابعة في خاصرتها وقلبها ومقتلها عندما يضيع الخبر ويصبح رأياً أو عندما يُزوَّر التحليل ليبدوخبراً؛ أوعندما يُصاغ كلام المحرّر ورغبات مموّليه، على مظهر الحقائق والوقائع، أوعندما يعمّم السلوك المزري لدى جميع أو أغلب محطات التلفزة، فصارت لنشرة الأخبار «مقدمة»، يخجل بها مكتب التوجيه البروباغندي البائد.
لن ننسى العناوين المُثيرة والمانشيت النافرة، وخبرأسفل الشاشة (Ticker) المدسوس: موبقاتٌ وجرائمُ إعلاميّة من دون شك وحتى اليوم: بلا دواء ولا علاج!
الالتزام بشرعة إعلاميّة أخلاقيّة وموحّدة للمهنة، تحدّد المعايير والمقاييس احترافيّاً وتؤسّس لرزمة محدّدة من القوانين المهنيّة التي على كلّ إعلامي أن يلتزمها بدقّة وصدق، كما تُحدّد كلّ الممنوعات والمُخالفات المحظورة في سياق الأداء المهني، ويتحتّم على كل إعلامي أن يلتزمها، من دون أيّ تحريف أو تعديل:
«الشرعة الأخلاقيّة المهنيّة للإعلام» أو (Code of Ethics)، ولنا عودة بالتفصيل لمحتوى ومكوّنات هذه الشرعة ولتاريخها، في متن هذا الفصل من الكتاب.
لماذا هذا الأصرار على الربط العضوي بين أداء الديموقراطيّة على الوجه الأسلَم والأصحّ، وبين السلطة الرابعة وحتميّة نضج الإعلام، ووصوله إلى أعلى
درجات البلوغ والحكمة؟ السبب بسيط وواضح: ذلك أنّ الديموقراطيّة هدفٌ صعب المنال وإن لم يكن مستحيلاً؛ فهدفيّة الديموقراطيّة التي على أساسها يتّهمها البعض بالمثاليّة وصعوبة التحقيق، تقوم على حتميّة المساواة بين كافة أبناء الدولة وبناتها في الحقوق كما في الواجبات، وعليه: الإعلام أوالسلطة الرابعة هوالعامل الوحيد والعنصرالأكيد لتمكين المواطنين، ولتحفيز المجتمع وبناء الرافعة، تحقيقاً لهذا التعريف وتعميماً للمساواة ومنح الفرص المتكافئة لكلّ فرد في المجتمع. وعليه، طريق الديموقراطيّة الوحيدة القادرة على الوصول بالقطار إلى الوجهة المُرتجاة هي طريق الإعلام والتواصل وتطوير حريّة التعبير إلى أدوات المواطنة والانتماء والمحاسبة والمساءلة، وصولاً الى المجتمع العادل والمثالي.
كيف تنضج الديموقراطيّة؟ وكيف يمكن للإعلام كسلطة رابعة أن يُرافقها لبلوغ الوجهة المثاليّة معاً؟ تنطلق الديموقراطيّة من مبدأ ٍبسيط، لكننا غالباً ما ننسى أهميّة أهدافه ورقيَّها، فعلى عكس مجمل أنواع الحكم والأنظمة الحاكمة، تقوم الديموقراطيّة على انتفاء وجود أيّة فروقات بين جميع أفراد الشعب، فالكلّ من دون استثناء على عتبة المساءلة: لا إقطاعيّة، لا طبقات اجتماعيّة مميّزة فوق السواد الأعظم من الشعب، لا تراتبيّة في الدين، أو في العرق، أو في الألقاب المتوارثة. هذا المبدأ هو، بحدّ ذاته، ذروة النضج والتطوّر في إلغاء كافة الاعتبارات العنصريّة، الفئويّة، أوالطائفيّة: مضى زمنٌ طويل من الحروب والثورات وسفك الدم قبل أن يتمّ تكريس هذا المبدأ المُحق والبسيط؛ وهذا إثبات البلوغ الناضج للديموقراطيّة، بقدر ما هو الحلّ العادل لكل دولة، لكلّ شعب ولكلّ مجتمع، طامح أن يتطوّر في حياته الجماعيّة وفي بناء عقده الاجتماعي. ارتكازاً على هذا الإنجاز المميّز، الديموقراطيّة هي الحلّ لكلّ دولة طامحة لبلوغ هذا الرقيّ عبر المساواة في الحقوق والواجبات والفرص المتكافئة؛ ولكي نتذكّر: الإعلام والتواصل كما بيّنّا سابقاً، هم العنصر المسرّع والوحيد (Catalyst) لعمليّة النضج والبلوغ.
هكذا نُدْرك أنّ الديموقراطيّة غاية ونظام حيّ، والإعلام هو غذاء هذا النظام لينمو ويصل إلى غائيّته.
من جملة ثمار تفاعل الديموقراطيّة مع غذائها الأوّل، ونعني حتماً الإعلام: مفهومٌ مؤثّر، تطوّر كميّاً ونوعيّاً، فأصبح مستعملاً ومعتمداً اليوم في لغتنا اليوميّة في كلّ مقام وفي كل مقال، ونعني مفهوم: «الرأي العام»: هذا المُصطلح هو «مطبخ» صناعة الديموقراطيّة ، حيث تختلط الآراء، والأفكار والمشاريع والاقتراحات والانتقادات كلّها؛ لينتج عنها عبر التواصل ومن ضمير كل مواطن: جزئيّات من التماهي، الارتضاء أوالرفض لعصارتها؛ ومجموع هذه الجزئيّات موحّداً هو ما نعني به: «الرأي العام» ، وهو الذي يقبل أو يرفض ثمار الديموقراطيّة، ويتبنّاه أو يُعارضه، وهكذا تنمو الديموقراطيّة وتنضج وهكذا تُعمّم وتنتشر. كما يتوجّب على الحكومات الديموقراطيّة اعتماد الصدق والشفافيّة في مشاركة «الرأي العام» في كل خططها وقراراتها ومشاريع تشريعاتها، ذلك لأنّ الوفرة في مشاركة الرأي العام تؤكّد الديموقراطيّة وتسرّع الوصول إلى هدف الحكم المثالي، وهذا لا يتمّ إلا عبر الإعلام والتوا صل.
لماذا كلّما تحقّق للديموقراطيّة أن تنضج؛ تطوّر المواطن فيها وتميّز، وازدهرالإعلام وتعافى؟
في المقام الأوّل، من الضروري أن نؤكّد على أنّ مقياس ارتفاع صدقيّة الإعلام مرتبطٌ بأدائه المتجرّد والموضوعي، وليس أبداً لارتباطه بالحاكم أو بالنظام؛ لذلك نُلاحظ العلاقة العضويّة بين احترام المواطن للإعلام، وفقاً لثقته باستقلاليّة هذا الإعلام وابتعاده عن البروباغندا وعن مصالحه الضيّقة والنفعيّة؛ لذلك تصحّ المُعادلة التالية: كلّما تعزّز نضج الإعلام، ارتفع منسوب النضج لدى المواطن.