تأويل السلطة للانتقال

تدخل في هذا الإطار معطيات عديدة أهمّها التعويل على المجموعات التي تلقي السلاح وتبدي استعداداً للانضمام إلى العملية السياسية الجارية، وهو ما يوسّع في رأي السلطة من إطار "الحلّ" ويجعله في غنىً عن المجموعات السياسية المعارضة التي تتفاوض في جنيف، وخصوصاً المرتبطة بالسعودية. في المقابلة أيضاً أظهر حرصاً على عدم المساس بالدستور الحالي، على الأقلّ في الفترة التي تسبق انتهاء المفاوضات، ورأى أن أيّ انتقال إلى حكومة موسّعة لن يحصل إلا من خلال الصيغة القائمة، على أن يجري لاحقاً تغييرها عندما يجري توسيع الحكم وضمّ فئات أخرى إليه (تحدث عن ضرورة وجود معارضة لم يحدّدها ومستقلّين). هذا المنطق له ما يبرّره من وجهة نظر السلطة، وخصوصاً في ظلّ الزخم الذي تحققه الانتصارات المتوالية على داعش، ولكنه في الحقيقة لا يقود إلى حلّ، ويبدو في أجزاءٍ كثيرة منه متعارضاً مع مسار جنيف الذي تقوده كلٌّ من روسيا والولايات المتحدة. في التفاهمات المُبرَمة بين هاتين الدولتين في فيينا، ولاحقاً في قرار مجلس الأمن 2254، جرى التوافق على وجوب إجراء عملية انتقالية كاملة لا تستثني أحداً من الفاعلين السياسيين الحاليين باستثناء داعش والنصرة والمجموعات "الإرهابية" الأخرى، في حين أن المطروح من جانب النظام حدوث "انتقال" بمعيّة السلطة، وفقاً لتأويلها هي للأمر. هذا إن لم نتحدث عن التزامن المريب بين التمهيد للانتقال السياسي في جنيف وإعادة ترميم شرعية السلطة عبر العملية الإجرائية المُسماة انتخابات مجلس الشعب (موسكو أبدت تفهماً أولياً لإجرائها على عكس الغرب الذي بدا مستاءً، وعكس استياؤه مستوىً معين من التباين في إدارة التوافق الدولي حول سوريا). حصول الأمرين معاً يعني أنّ ثمة من يستهين بالعملية التفاوضية ويعتبر المسار الاستثنائي القائم أهمّ منها، أو على الأقلّ لا يربط بينهما كما يجب، وفي ذلك ليس فقط تقديم لاعتبارات الهيمنة السلطوية على ما سواها، بل أيضاً خفّة ملحوظة في قراءة المعطيات التي تُبدّي التوافق الدولي على ما عداه، وتجعل منه في هذه اللحظة أولوية الأولويات بالنسبة إلى الجميع، بما في ذلك السلطة نفسها. أهمية التوافق الروسي الأميركي، فضلاً عن السياق الموضوعي الذي أفضى إليه، أنه يحصل في لحظة استعداد المجتمع للتسوية بعد طول إنهاك واقتتال، وهذا يعني أن التسوية تحظى بشرعيته على الرغم من التعارض البادي بين بيئاته المختلفة. الشرعية هنا تقوم على عنصرين: داخلي وخارجي، وفي الوقت الذي يحظى فيه العنصر الخارجي بقبول ملحوظ، نظراً إلى طبيعة التوافق الروسي الأميركي في سوريا، فإنّ حظوظ العنصر الداخلي تبدو أقلّ في ظلّ افتقار بنى النظام والمعارضة معاً إلى الشرعية، وتقاطعهما عند نقطة الاستفادة من الحرب بكلّ ما تعنيه من استثناء وإدامة للنهب والقتل.
الحضور الاجتماعي الواضح للنظام لا يقابله تمثيل سياسي من أيّ نوع



الافتقار إلى الشرعية

بهذا المعنى، إنّ التسوية لا تتمّ فقط في سياق دولي وبموجب اتفاق بين روسيا وأميركا، بل أيضاً في وضعية داخلية تفتقر إلى الشرعية ولا تتكل إلا على الاستثناء السياسي الحربي، سواء لجهة النظام أو المعارضة. وهذا بالتحديد هو تعريف الانسداد الذي يجعل من أيّ عملية في ظلّ الوضعية القائمة أمراً ليس فقط مستعصياً، بل أيضاً خارج السياق. وبذلك لا يكون البديل للوضع القائم إعادة إنتاج النظام لنفسه، لأن هذا سيضفي شرعيةً ليس فقط على النظام، بل على السلطات المتعدّدة الأخرى التي تتحيّن الفرصة للإفلات من مسار التسوية، وعلى الأغلب أنها ستجد في تفسير النظام لفكرة الانتقال السياسي ما يناسب وضعها الذي لا يقلّ استثنائيةً عن وضعه. فهي مثله تستمد شرعيتها من الامتيازات التي حصلت عليها من أعمال النهب المرافقة للحرب، وأحياناً تتقدم عليه في ذلك، على اعتبار أنها بقيت عاجزة عن الاحتفاظ بتقليد الدولة، وسمحت لميليشياتها بالحلول محلّها، من دون أن تراكم في المقابل خبرة كافية لإدارتها كما يفعل النظام مع مؤسسات الدولة لديه. هذا لا يضفي على الأخير شرعية حقيقية، ولكنه يسمح له بالظهور بمظهر الدولة بالمقارنة مع "مؤسّسات المعارضة" التي لا تزال تُدار بمنطق الميليشيات، فضلاً عن إذعانها التام وغير المشروط للريع النفطي الآتي من السعودية وقطر، والذي يحوّل التبعية في عمل المعارضة إلى منهج متكامل ويجعل منها مصدرَ الشرعية الوحيد القائم. النظام ليس أفضل حالاً طبعاً، لا هو ولا شرعيّته التي يستمدها جزئياً من الخارج (من روسيا وإيران تحديداً)، ولكن النمط الذي يدير من خلاله أزمة الشرعية لا يزال يعمل، وهذا العمل يسمح له بتقديم نموذج عن البلد يشبه إلى حدّ بعيد ذاك الذي كان قائماً قبل عام 2011. وهو بخلاف ما تقول نخب المعارضة "نموذج جذّاب"، ليس على المستوى السياسي الذي يفتقر إلى أيّ شرعية تمثيلية، بل على الصعيد الاجتماعي، حيث نرى في مناطق سيطرة السلطة بيئات اجتماعية لا يمكن أن نراها مجتمعةً في مناطق سيطرة المعارضة. وهذا سبب كافٍ ـ على الأقلّ شكلياً ـ لجعل النظام يبدو "أكثر تمثيلاً" من المعارضة، رغم أنه في الحقيقة لا يمثّل على المستوى السياسي إلا نفسه.

حاجة المجتمع إلى التمثيل والتسوية

الحضور الاجتماعي الواضح للنظام لا يقابله تمثيل سياسي من أيّ نوع، وهذا ما يجعل من أيّ عملية لا تعتمد على التوافق الدولي أمراً خارج السياق. بمعنى أنها تحدث كما في حالة الانتخابات البرلمانية المُزمع إجراؤها لمجرد إثبات الوجود وتأكيد فكرة الشرعية التي تفتقر إليها المؤسسات الرسمية بشدّة هذه الأيام. هذا يساعد طبعاً على تيسير حياة "المواطنين" الموجودين في أماكن سيطرة السلطة ويشعرهم بوجود سياق عام لا يزال قائماً رغم فوضى الحرب، ولكنه لا يحلّ أزمة تمثيلهم، وخصوصاً إذا كانوا ينتمون إلى بيئات المعارضة التي هُجِّرَت أكثر من مرّة، على يد أكثر من سلطة. العملية الاجتماعية بالنسبة إلى هؤلاء وسواهم من السوريين ستبقى قائمة ولن تندثر، ولكنها تحتاج حتى تنتظم في سياق أوسع إلى شرعية سياسية وممثّلين ينتمون بالفعل إلى هذه البيئات ويستطيعون جعلها شريكة في قرار الخروج من الحرب. هذا لن يحصل في ظلّ أطر التمثيل الزجرية القائمة والمعتمدة حصراً على النظام والمجموعات المسلّحة المناوئة له، وعلى الأرجح أنّ حصوله سيكون مرتبطاً، إن لم يكن بتفكيك هذه الأطر، فعلى الأقلّ بتوسيعها لتصبح أكثر تمثيلاً لفئات المجتمع المختلفة. ومن هنا أهمية اللجوء إلى التسوية التي ترعاها الأطراف الدولية بوصفها الآلية الوحيدة الممكنة لإحداث تغيير جدّي في بنية النظام، في ظلّ انعدام الشرعيات الداخلية التي يُلجَأ إليها عادةً لإحداث التغيير أو الانتقال السياسي. والترجمة العملية لهذا الكلام هي التمسّك بالتوافق الروسي الأميركي بحذافيره وعدم السماح للقوى الداخلية في السلطة والمعارضة بتجاوزه، سواء عبر التأويلات التي تطرحها السلطة لعملية الانتقال، أو عبر الاشتراطات التي تضعها المعارضة مسبقاً للمشاركة في العملية التفاوضية. كلا الأمرين يعطّل الحلّ ويؤجّل احتمال التسوية، وفي النهاية من يدفع الثمن هو المجتمع بشقّيه: الموالي والمعارض، بينما السلطة والمعارضة تستفيدان من استمرار الحرب وإتيانها على ما بقي من المجتمع السوري.

* كاتب سوري