تعددت الرؤى والمناهج في التعقب والنظر الى التحوّلات والتغيّرات التي تطاول مجتمعاتنا العربية، والناظر لا يخفي مقاييسه المعرفية ولا خلفياته الأخلاقية. وهو إذ يصطدم بتضارب المعلومات وتناقضها، لا بد له من استشراف الخطط العامة والمسارات والتداخلات الإقليمية والدولية، لينكشف المشهد أمامه على عنف متواصل، تتلاعب به مونتاجات اعلامية لا تخلو من الركاكة والفظاظة. فلا يفاجئك في حمأة الأحداث في سوريا، خبر انفجار قبل حصوله بيوم، او مشهد طبيب يظهر على شاشة التلفاز يقلب أطفالاً جرحى بطريقة غير انسانية. فضلاً عن تظاهرات نراها كل يوم تجتر نفسها ولو بعناوين وتواريخ مختلفة.
قد يكون جسم النظام السوري «لبّيساً»، الا أنّ اعتبار الحشود الضخمة في المدن والدساكر المؤيدة له بالمرتشية او المرغمة لهو ظلم فادح لا يقبله عقل، وكذلك الأمر في اشاعة مسؤوليته عن الوقوف خلف التفجيرات والعنف المنظم. فهل تمهّلنا قليلاً لنوقف هذا التخريف؟
صحيح أنّ مجتمعاتنا العربية تحتاج الى جهود متواصلة، لتطوير انظمتها ومؤسساتها، وتحديث القوانين التي تحترم الرأي وتشجع على الحوار والاعتراف بالآخر، لكن البعض يتناسى أنّ النظام السوري الذي يملك من القوة ما لا يردعه عن استخدام العنف، تستغيثه شرائح شعبية واسعة، للتخلص من ارهاب الجماعات المسلحة، وكذلك في غياب أي انشقاق على المستوى الدبلوماسي حتى الساعة، الامر الذي يجعل من الحديث عن الديموقراطية في المسألة السورية ذا تشعبات ومرامٍ عدّة، إذ لا يعقل التصديق مثلاً، بأنّ السلفية السورية التي تمعن في القتل والتشريد المذهبيين وتنكفئ امام العدو الاسرائيلي، تسعى إلى تحقيق الديموقراطية، من غير الهرع للسلطة.
لم تكن فكرة الاصولية الاسلامية بالمعنى الذي يراد منه، تكرار احداث وتواريخ دون العودة الى التمحيص والتأويل واستنباط العبر واستبطان المحصلات الفكرية التي قد تخدم تطوراً ما او تنمية اخلاقية وفلسفية، فالغرب ساهم في تغذية هذا المنحى وفعّله، لعلّه يستفيد منه في زمن وظروف لاحقين. هو الغرب نفسه الذي لم يمتنع عن تحويل الصديق القديم عدواً جديداً والعكس صحيح، بما فيه التوظيف السياسي للسلفية السنيّة في مواجهة جهادية شيعية مفترضة او حقيقية. فقد ظلّ هاجس الغرب من خطر تمدد النموذج الايراني المتنامي والقابل، الى حدّ ما، للتعميم، ماثلاً، لقدرة الأخير على تهجين ثقافي يلحظ مفاهيم الحداثة وشبكها بالبعدين الديني والثقافي، مستجيباً لطموحات وتطلعات شرائح اجتماعية واسعة.
لقد نهضت الدولة في مجتمعاتنا على ترئيس نخبة سياسية تتنازعها انتماءات وولاءات طائفية وقبلية، وإن تكن قد انتجت تمثيلاً «ديموقراطياً» في بعض الحالات، فيما عمل «تصدّي» هذه النخب للتبعية والسيطرة الغربيتين في بعض الدول العربية، على انعاشها ومنحها الشرعية الاهلية، مما جعل من المطالب الديموقراطية المحقّة اشبه بالمؤامرة عليها. الا أنّ التستر خلف المطالب الديموقراطية في ظل غياب البدائل الواضحة، كما في نموذجها السوري المعارض، يفاقم النزاعات الاهلية والعنف. فما معنى المطالبة بحريات وتغيير في سوريا، ونحن ازاء هجمة شرسة تعج بقوى فيها من لا يفقه للديموقراطية معنى؟ وأبرز دليل على ذلك قول بعض هذه القوى (السلفية مثالاً) بفوات اوان التسويات السياسية، الذي يشي بمراهقة سياسية لا تستقيم مع أصول التفكير الديموقراطي.
يضاف الى ما سبق، أنّ التحركات الشعبية العربية تقاطعت مع رغبة غربية في نشر الفوضى وتقويض الدولة واعادة المجتمعات الى مكوناتها المكبوتة او المعلنة، وتأجيج خلافاتها وتناقضاتها وادخالها في حروب اهلية يطول امدها، بهدف وقف تنامي المقاومات والممانعات العربية والاسلامية، لذلك فإنّ النفاق الغربي لم يغب عن المشهد، فكان الداعم لدول مستبدة، لكنّه في لحظة ما، عاد ملتفاً ومناوراً لتعديل او تحوير المسارات السياسية للتحركات الشعبية. ويمكننا تلخيص هذا الالتفاف بما يأتي:
* خلق الاضطراب العسكري في المجتمعات العربية على مستوى المفاهيم الوطنية والدينية والمذهبية ليستبدل العداء لاسرائيل بآخر لايران.
* شيطنة المعتقدات ومذهبة التوجهات السياسية المعادية للغرب واسرائيل، وتحويل ثقافة الاستشهاد بمعاونة أجهزة عربية الى انتحار وقتل عشوائيين.
* تعديل وتلفيق عناوين للممانعة كالهلال الشيعي او الفارسي، وانعاش للتناقضات ضمن المكونات الدينية والمذهبية للجماعات والافراد. كان الحراك السوري امتداداً للحراك العربي في الظاهر، فوراء الأكمة رغبات غربية وعربية لتسديد ضربة للنظام السوري المتحالف مع المحور الايراني الروسي الصيني والمقاومة. لا يعني هذا أنّ المطالب الديموقراطية السورية لم تنهض من عدم، اذ استندت الى امتداد «ثوري» تغييري في لحظة تمرد عربي على انظمة مستبدة موالية للغرب، وهو ما اخفى دوافع الحراك السوري او موّهه، وجعله يبدو منطقياً. غير أنّ الفبركات الاعلامية الخليجية المستعجلة جداً لتغيير المعادلة الجديدة واسقاط النظام السوري كضرورة ملحة لدخول الوطن العربي في سبات عميق، كشفت المستور والمموّه، وأنبأت عن هشاشة المعارضة السورية وقلّة مناصريها، وان تكن المطالب الاصلاحية مطلوبة ومفهومة ومأمولة.
كان لا بدّ اذاً من تعديل لموازين القوى الاقليمية لكسر حلقة الوصل بين المقاومة والعمق الاستراتيجي الايراني، حيث تتعذر الضربة العسكرية لايران، أو تهميش الحلف الروسي الصيني الجديد، الا انّ القيادة السورية استطاعت الثبات والصمود، وخاصة أمام تدخل انظمة الخليج التي انكشفت عوراتها. اما السؤال، فكيف يمكن لانظمة الخليج التي لا تتضمن دساتير وقوانين وانتخابات وديموقراطية وحريات تعبير، ان تدعم ثورات شعبية حداثية ما لم تكن هناك مؤامرة؟
لقد تمكن النظام السوري من توسيع رقعة استيعابه للنخب السياسية والاقتصادية والطائفية والجهوية، ومن إحداث تنمية اقتصادية في المدن الرئيسية وأريافها، كما انّه افلح في سياق توجهه المقاوم والممانع، في جعل الفئات الشعبية تتمكن من هضم مسألة الحريات والفساد ولو الى حين، لأن عوامل التفتيت الداخلية لا تزال اضعف واقل شأناً من قدرة الدولة على التوحيد والدمج، كما أنّ امتداد الدولة نحو الاطراف وإلحاقها بمؤسسات الدولة، قلّلا من اهمية التمحور المذهبي والفئوي، وهو الامر الذي عمل على ابرازه المحور الغربي العربي، الذي فاقم من حجم الالتفاف الشعبي حول النظام. إنّ هذه المسألة بالتحديد هي ما قد يفسر لنا بعض الامور العالقة، ومنها، انّ افتعال الفتن الفئوية والمذهبية يفتّ من عضد الالتفاف الشعبي حول النظام، أي يربك اواصر لحمته وامتداداته المتعددة الطوائف، كما انّ قتل الاطفال والنساء وعمليات الخطف الممنهج يراد منها اظهار عنف النظام لتبرير التدخل الخارجي.
لقد تبنت السلطة السياسية المطالب الشعبية من حيث أحقيتها وشرعيتها، وخاصة بعدما وقع النظام في أخطاء امنية هنا وهناك. اما مقولة تأخر النظام في ذلك، وعدم شروعه في الاصلاحات فوراً وبكبسة زر، فدونه صعاب وعقبات. ذلك انّ النخبة الحاكمة عمرها عشرات السنين وهي راسخة وذات قواعد اجتماعية لا يمكن تغييرها في ساعات او ايام.
يبدو انّ نخبة سياسية جديدة يقودها الرئيس على ما نظن، قد أبصرت النور، وهي ذات حضور وانتشار شعبيين ترغب في احداث اصلاحات في النظام نفسه، والدخول في تنمية اقتصادية وسياسية وعسكرية، كانت بداياتها في الصراع مع محور خدام ــ كنعان، ثم خروج سوريا من لبنان، وصولاً الى حرب تموز 2006 على لبنان والمقاومة، وهي فرص ذهبية ساهمت في تنشيط هذا المحور الجديد.
انّ اجراء الاصلاحات كان يهدف من وجهة نظر النظام الى تحسين ادائه وتحصينه، لأنّ المحور الجديد ادرك انّ الممانعة لم تعد كافية وممكنة، ما لم تحدث تغييراً في بنية الدولة والاجهزة ومؤسساتها، لكي تتلاءم مع طبيعة القوى الغربية والخارجية وقدراتها التقنية والسياسية. ولم يعد مقبولاً الحديث عن المقاومة والممانعة في ظل تعسف اجهزة وانتشار الفساد وغياب حرية التعبير.
إنّ قوى المعارضة السورية بشقها الخارجي على الاقل، قد اظهرت ارتباطاً بالغرب الذي يركز على التوجه السياسي والفكري للنظام السوري وتحالفأ مع انظمة الخليج، كما انّها لم تعلن برنامجاً واضحاً سياسياً وظلت عاجزة ومنقسمة ومتناقضة، كذلك فإنّ رفضها للتسويات والحوار بسبب الضغوط ذات المآرب المختلفة، جعلها تبدو تدميرية وعبثية. وإذا كانت السياسة فن الممكن، فإنّ الرفض هنا مراهقة سياسية، وبعيد عن البديهيات وغرق مجاني في الوحول.
إنّ الحكمة السياسية والصبر أثبتا أنّ القيادة السورية جادة وراغبة في الاصلاح، ما فعّل من حجم الالتفاف الشعبي حولها، وخاصة انّ الامور باتت تسير نحو منحى خطير ومهدد للدولة نفسها، مشرعاً ابواب الحروب الاهلية.
في كل الاحوال، لقد اظهر الاستفتاء على الدستور الجديد في سوريا أنّ الاجتماع الشعبي مؤكد وحقيقي، وسواء كنا معارضين ام موالين، لا بد لنا من الرضوخ للارادة الشعبية، أوليست هذه هي الديموقراطية؟ طالما لم يحدّثنا البعض عن تزوير للاستفتاء وهو امر لم تكشفه حتى اسرائيل!
* كاتب لبناني