حرب المواقع تشتعل الآن. الديناصورات الكبيرة تغادر مقاعدها الاخيرة لتبقى في المجال السياسي. اللعبة القادمة قد تكون الأخطر والأكثر تهوراً. لن تقتصر اذن على العودة الى النقطة الصفر واعادة مسار المرحلة الانتقالية من البداية، لكن الدخول في الضباب والاستمرار في وضعٍ يدار بطريقة «الديكتاتوريات العسكرية» غير المعلنة، يقود البلاد من غموض الى غموض، وفق خطة تدمير كل المسارات المدنية (الانتخابات/الحكومة/القضاء) لتبقى الاجهزة الامنية وحدها قائمة ومستقرة و«النواة الصلبة».
كلّ المسارات المدنية تؤدي الى «لا شيء». هذا هو الوضع بعد اقرار قانون «العزل السياسي» الذي يهدد انتخابات الرئاسة المقبلة بالإلغاء وبطريقة الالغاء المتوقع نفسها، بعد ايام لانتخابات مجلس الشعب. مصر على حافة فراغ في السلطة، سيعيد دولة المطبخ السري ومجمع الكهنة للحكم الكامل، فهي التي صنعت الماكينة وتعرف سرها... الكهنة يعرفون والشعب لا يستحق اصلاً الا الانشغال بلقمة عيشه وعودته سالماً الى بيته. هذه قد تكون النهاية المثلى لحرب واضحة على الامل، وتكسير كل الطرق المدنية التي تجعل مصر دولة حقيقية لا عزبة واقطاعيات يوزعها الحاكم على من يريده. إنّها حرب الصلابة والوقاحة. المجرمون يظهرون بكامل وقاحتهم... والمنافقون يعزفون لحن النشاز الخاص بهم، ويتصورون انّ هناك من يقول لهم: «الله»، وانّ السلطة ستجعل من الصرصور صقراً، او من البعوضة فراشة تلمس القلوب. لا يمكن فهم المنافق في هذه الحظات الا انّه مفلس... ولا يمكن فهم وقاحة الاجهزة القديمة في الدولة الا انّها في النفس الاخير تريد أن تقول للشعب كله: انا الدولة. هذه الاجهزة كانت الدولة فعلاً، حتى ازيح مبارك من مقعده في القصر الى سريره في المستشفى. لم تكن دولة لكنّها هيكل فارغ لدولة تدار بمنطق العصابة. الاجهزة الامنية هي ذراع الحاكم وقبضته، اما المؤسسات فهي اقطاعيات يوزعها على مماليكه. دولة مماليك بكل اجهزتها، البقاء فيها للاقوى، وصاحب السمع والطاعة. المماليك لا دولة لهم، بل مساحات نفوذ. والسياسة هي الصراع على هذه المساحات، والانجازات تتم وفق رغبات المنتصر في تخليد اسمه لا في اقامة دولة. ولا بناء مؤسسات محترمة. المماليك هم حشود من عبيد دافعوا عن العروش وزادت سيطرتهم الى ان سيطروا على العروش نفسها. وهذا ما يجعل العرش او الحكم هو الهدف الاسمي الذي من اجله تشيد الانجازات او تبذل النفقات من اجل ترويض الشعب لكي لا يثور. هذه الدولة تقوم على اليأس والرعب. ينشرون اليأس الذي يقول إنّ المماليك لا نهاية لهم، وليس لدى الدولة سوى مماليكها... هم اكبر من كل المؤسسات التي تبدو مباني بلا معنى. فلا البرلمان ولا القضاء، ولا الرئاسة حتى، يمكنها ان تبني وجودها بعيداً عن سيطرة المماليك. والرعب صنعته المذابح والجرائم التي لم يحاسب علىها احد، وتمت حماية المجرمين رغم ثبوت
الجريمة.
الضحايا وحدهم في مواجهة دولة تعلن سطوة مماليكها. والضحايا بصلابتهم المدهشة يواجهون وقاحة المماليك واتباعهم من منافقين وخدم وقطاع طرق. هم ورثة مبارك، بل هم مبارك حين يتم استنساخه في عشرات النسخ. كائنات صنعت من مواد الانحطاط، لا تخجل من جهلها وغلظتها، وتتفاخر بفضائحها بعد ان تجملها بقشور الاخلاق والقيم النبيلة. كم انت غليظ ايها المجرم الذي تبكي من ضحيتك. كم انت ابن عصرك وتربية مماليك يعيشون على اهانة الشخص ومحو الشخصية لتخرج من تحت اياديهم نسخ مشوهة من البشر. ليس لدى المماليك اذن الا المزيد من الوقاحة. وليس لدى الحالمين بزوال دولة المماليك الا الصلابة... قوى لا تلين بالرعب او بالحيلة او بالصفقات، كما لانت القوى القديمة. هذه القوى تنتشر الآن ولن تكسر او ترضى بالحياة كآبائها واجدادها اسيرة اليأس والرعب. ‎القوى تبني شبكتها في جزء بعيد عن المسرح السياسي، سيغيّر المسرح، لكنه لا يزال في الظل (قطاعات الطلاب / جماعات الالتراس / التنظيمات الرافضة للحزبية التقليدية/ نشطاء المجتمع الافتراضي). المعركة تحت الاضواء عنيفة، رغم برودها الظاهر، ويبدو حل مجلس الشعب هو الخطوة الحاسمة في اعادة الاخوان المسلمين الى حجمهم الطبيعي، بعد تضخم او انتفاخ جعلهم يظنون انّهم ديناصور اللحظة القادمة. الاخوان لعبوا دورهم في ترميم النظام الميت سريرياً، ومنحه بعض الطاقة في مواجهة القوى غير القابلة للترويض. هل كل هذا يصب لعودة السلالة الملعونة؟ ‎هل انتصار العسكر في تدمير المسارات المدنية سيعني استعادة نظام مات ونجاح الموميات في بث الروح فيه؟ الموميات تريد أن تعود الى الحكم، بعدما وسعت الخيارات بعد الثورة. هم يريدون ان تضيق الخيارات ونختار من سلالتهم: عمرو موسى ام احمد شفيق؟ كأنّهم قدر او كأنّ السياسة لا تزال تصنع في الغرف المغلقة، او وفق صفقات نشم رائحتها تتسرب من مطبخ كلّ ادواته ووصفاته قديمة.
ربما سيرضى العسكر اخيراً عن عمرو موسى، يقول المتحدث كأنّه كان يجلس تحت مقعد المشير. ويقول المتحدث الآخر بثقة اكبر: شفيق لم يعد رجلهم المناسب، إنّه مرشح مجموعة لندن. مجموعة لندن؟ تسأل. ويتعامل صاحب المعلومة على انّ ما يقوله واقع متفق عليه، تتحرك فيه مجموعة رجال الاعمال الهاربة الى لندن (هروب من المحاكمة او من احتمالها). هل تستطيع اية مجموعة بكل ما تملكه من اموال أن تعيد الى الحياة نظاماً ميتاً سريرياً؟ ولماذا لم يتم احياء الحزب الوطني بالاموال او بالكوادر التي قالوا إنّها تتجاوز الثلاثة ملايين؟ لماذا لم يصبح للفلول مكان غير خدمة العسكر في وضع متاريس لتحجيم الثورة؟ الفلول يتصورون انّ تحالفهم مع العسكر سيعيدهم الى الوضع القديم او يمنحهم وضعاً جديداً، ولذلك يتسابق المنافقون والخدم وكلاب الحراسة الى الدخول في منافسة على الاكثر قدرة في نفخ العروق والهتاف وتقديم وصلات الردح ضد الثورة... للفوز بالمقاعد الشاغرة.
كما اضطر العسكر الى الاعتماد على الاخوان والسلفيين او من رضي منهم بتنفيذ مخططات السيطرة على المجال السياسي الذي حررته الثورة ليكون متسعاً للجميع خارج الوصاية، وكما تكشف شهادة المتحدث السابق باسم حزب النور، فإنّ الاستقطاب وتنفيذ مخططات الاقصاء لم تكن صدفة او تطوراً طبيعياً، بل مخطط كامل لضرب كل المسارات المدنية او تحويل الصراع بين التيارات السياسية الى حرب تخوين وتكفير. الشهادة مهمة وكاشفة في وصول اصابع العسكر الى القرص الفعال في تيارات سياسية ارتضت بلعب ادوار في اعادة النظام الميت الى الحياة. لعب الادوار يتم اما بحسن نية (وفقاً لتصورات بأنّ الحاكم يعرف المصلحة اكثر، وانّ التيارات التي تصر على استمرار الثورة لا تريد الاستقرار)، او بالشعور بأنّ الفرصة مناسبة لاستغلالها (وفقاً لنظريات التمكين الشهيرة).
هل ينجحون وتعود السلالة الملعونة الى الحكم؟ من اين سلالة المستبد الذي يعرف اكثر في مصلحة الدولة؟ وكيف كان مبارك مثلاً يعرف مصلحة الدولة وهو الذي سلمها باستبداده الى عصابة تحوّلت الى مافيا كاملة الاوصاف؟ مبارك حتى هذه اللحظة يتصوّر انّه افضل حاكم وطني، وانّه خدم البلاد، وانّ ما حدث معه «نمردة» شعب ولعبة ادارتها عناصر طامعة في السلطة بإدارة عناصر من الخارج. فهذا شعب لا يثور على الطريقة التي تعامل بها معه الفرعون الاخير وورثته من مومياءات يحاولون تجميع شبكات المصالح التي تناثرت بإزاحة مبارك وعائلته لبناء ديكتاتورية جديدة. وهذا وهم فاتورته كبيرة جداً، لا يقدر احد منهم على دفعها. يقدرون فقط على صناعة الفوضى والايهام بأنّ جمهورية الخوف لا تزال موجودة. يعطلون مراكب الثورة السائرة... يفسدون كل محاولة لإنقاذ الدولة، تحت شعار حمايتهم للدولة. أي أنّ اللص يسرقك ويخرج من الشرفة ليوهمك بأنّه الضابط الذي يحميك. يسرقون الثورة ويحوّلونها الى جسر لشهوتهم في السلطة، ثم يبكون على الثورة والاستقرار والدولة التي تركوها تنهب وتتحوّل الى مزرعة ديناصورات. هل يخططون لوصول مبارك جديد الى الرئاسة؟ هل يبحثون عن مرشح تتمثل فيه شروط السلالة الملعونة للاستبداد؟ من سيقبل؟ عمرو موسى؟ احمد شفيق؟ اللعبة معقدة جداً، وتقول باختصار إنّها لم تعد ملك السلالة الملعونة وحدها، وإنّ الثورة حوّلتهم من صناع للعبة الى حواة يوهمون انفسهم بأنّ الحياة لا تزال تسكن جثة النظام. الثورة هي هذه الطفولة التي تأتي لتربك كل حسابات العاقلين والمتمكنين من سلطاتهم. يسيطر الشيوخ بسحرهم الديني والجنرالات بقوتهم العسكرية والانتهازيون بألاعيبهم... لكن الثورة تقلب الطاولات المرتبة، وتكشف القبح الكامن تحت الوجوه التي تغرق نفسها بالورع والحكمة.
الثورة هنا تتحرك بقوة لا يراها اصحاب الحسابات الضيقة، ولن يرضى بها المتعجلون الذين تصوّروا انّ كل شيء سهل لأنّ مبارك سقط في ١٨ يوماً. الثورة هي البحث عن القوة في الضعف.



البرادعي وحرب المواقع

«الثورة» ثم «الدستور» هو الاسم المؤقت لحزب البرادعي، المنتظر إعلانه قريباً. وعاء لقوى ثورية او شخصيات لم تستوعبها احزاب قديمة وجديدة. الاسماء تمتد من اليمين الى اليسار، ومن الليبرالية الى الاشتراكية، مروراً بشخصيات عابرة للتصنيف السياسي والفكري (تضم القوائم الاولى: حسام عيسى وجميلة اسماعيل، وعلاء الاسواني وشكري فؤاد وراجية عمران واحمد حرارة ووائل قنديل، وغيرهم) بما تمثله من اطياف من «ثورة ٢٥ يناير». الأسماء لا تعبر عن الكتلة الاولى المؤيدة للبرادعي، بل عن امل في بناء كيان كبير يمثل قوى الثورة، بما فيها من فردية ومبادئ اساسية (عيش، حرية، عدالة اجتماعية)، في اقتراب مما مثله بناء حزب الوفد من تكتل قوى معبرة عن مطالب سياسية، أكثر من تعبيرها عن ايديولوجيات، وعن تكتل في مواجهة كيانات كبرى. كيانات كانت بالنسبة إلى الوفد «القصر والانجليز» وبالنسبة إلى حزب الدستور «العسكر والفلول»، وتضاف اليها هنا جماعة الإخوان المسلمين، التي كادت ان تعيد اغلاق المجال السياسي، بعدما كسرت الثورة الاسوار المقامة حوله، لكن بدخول الجماعة سباق الغرائز باتجاه السلطة، ارادت ان تعيد بناء الاسوار ليبدو المجال محتكراً بوضع اليد في اطار ما سمي الغلبة «الاسلامية»، مطبّقة نظام الإقصاء والطرد.
ارتاح المجلس العسكري لاعادة اغلاق المجال السياسي بيد الجماعة، مطمئناً إلى أنّ المفتاح معه، وانّ وزر الاغلاق سيحمي الدولة الامنية، ولن يدفع فاتورته. هذا المناخ هو ما دفع البرادعي الى الانسحاب من سباق الرئاسة، وهو ما حسب ضده في البداية، لكن بعد الانكشاف عادت فكرة انتظاره ليس مخلصاً او منقذاً، بل نقطة تجمع قوية لقوى قررت البقاء خارج اللعبة، وإن كان تأثيرها الفردي قوياً وفعالاً.
لم يكن البرادعي منافساً عابراً، ولا حالماً بالمقعد الكبير، ولا طالباً لزعامة من النوع الذي حرص عليه لاعبون يطالبون بالزعامة مكافأة نهاية خدمة. غادر البرادعي ملعب المنافسة... ليكشف اللعبة. اللعبة بكاملها، التي دخلها من بوابة غير معتادة، ليست بوابة الملهمين تماماً، ولا ضيوف الشرف... لا اصحاب الياقات البيضاء ولا افندية الأكاديميا المحترفين في الكلام البارد... ولا عشاق البطولة، ومحترفي الصفقات، والمنتظرين اشارة من الواقف على باب السلطة.
لم يكن البرادعي الا نفسه. ولم يضبط نفسه على مقاس جمهوره، وتلك مغامرة في حد ذاتها. اختار الوقوف خارج اللعبة التي تتم وفق ارادة المجلس العسكري، وباتجاه اعادة بناء سلطة على الموديل القديم. وهذا ما رأى فيه البعض «صفعة» موجهة إلى المجلس العسكري والمتحالفين معه من القوى السياسية. ومنهم من رأى أنّه «انتحار سياسي» او «اعتراف بالهزيمة المسبقة» كما قال رئيس الحكومة الاخيرة لمبارك، الفريق احمد شفيق، الذي رأى أنّ انسحاب البرداعي يأتي في اعقاب بداية حملات ترشح شفيق للرئاسة.
الخروج من اللعبة لم يكن بحسابات سياسية، لكنّه بروح غاندي، الراغبة في معاندة المزاج السياسي، لا خوض المنافسات بقوانينه، وهو ما يمثل ضربة مزدوجة لكل من عدّ البرادعي رمزاً للّيبرالية في مواجهة رموز سلفية وإخوانية، او من تعامل على انّه «زعيم سياسي» يمكنه ان يخوض حرباً في بيئة سياسية غير صالحة. البرداعي جاء من خارج الدائرة، وشحن المجال السياسي بما افتقده طوال ٣٠ سنة حكم فيها مبارك. سنوات امتص فيها الطاقة الحيوية وحوّل المجال السياسي الى مستنقعات راكدة تحتلها طفيليات الانحطاط.
لم يكن البرادعي بديلاً سهلاً للجنرال وقت ظهوره الاول بعد العودة في شباط ٢٠٠٩، ولم يكن مؤهلاً للدخول في حرب الآلهة على المقعد الفخم في مصر. كان سهماً قادماً لكسر الدائرة المغلقة على نفسها، سهماً حكيماً هادئاً، لا يدّعي امتلاك الحل السحري او مفاتيح الجنات المغلقة.
البرادعي يغويه دور الداعية السياسي اكثر من السياسي. يرى نفسه في صورة غاندي او مارتن لوثر كينغ. هذه صورته التي جعلته رمزاً في السياسة، لكنّه يتردد في العمل السياسي بما يعنيه من اشتباك وقتال ودخول في مواجهة مع سنوات طويلة من القمع والقهر والانحطاط.
البرادعي يدخل حرب المواقع إذن، وحزب «الدستور» يجمع شخصيات وجدت نفسها غريبة عن صراع الغنائم بعد الثورة. اغلبهم لعب بعيداً عن الكتل التقليدية، وجميعهم أعادوا عبر الثورة اكتشاف جسور مع مناطق جديدة في واقع سياسي لم يعرف تقاليد الحرية، وإن غرق في اخلاق الإبعاد والإقصاء.
ماذا سيفعل حزب الدستور: هل يكون حزباً للمثاليين؟ هل يؤدي البرادعي دور «الاب الروحي»؟ هل تعصف به رياح الخلافات القاتلة؟ ام يكون بداية قوية لحرب المواقع؟



بين «وطنية الكاكي» و«رهاب الغرباء»



لم ينل الاستعراض حظه من الجمهور. المجلس العسكري قرر وقف تصدير الغاز لإسرائيل. إنّها الحرب، لكن القلب مثقل، ولم يعد يصدق الاستعراضات ذات الطنين العالي. لم يعد هناك جمهور يليق بوطنية الكاكي، أو جمهور سلبي، صامت، يصفق على الأرائك ويتمتم بالشكر قبل النوم سعيداً بوطنية الحكام.
هل تغضب أميركا؟ هل توقف المعونة؟ هل تعلن اسرائيل الحرب؟ أسئلة لا تسمع ضجيجها المتوقع، ولا تحذيرات ليبرمان تتخذ موقعها الا على صدر صفحات لا تُقرأ، ولا عند قراء ومتفرجين لا تسمع سوى صوت الكورس النائم. كورس لا يصنع شعبية الا على طريقة شعبان عبد الرحيم مع عمرو موسى، صاحب الحنجرة الذهبية الحائز جائزة كراهية اسرائيل. لم يعد هناك المزيد من شعبان، ولا حنجرة عمرو موسى تؤثر الا في من دخلوا في سبات شتوي يحمون انفسهم فيه من التأثير، خوفاً من حرب المتغيّرات. في هذه الحرب الوطنية لا استعراض، والبطولات لا تحسب بالنقاط.
الوطنية الكاكي أربكت الجميع، عندما أيقظت حواسها النائمة ضد كل «اجنبي»، واشاعت الحذر من الاصابع الغريبة التي تهز الاستقرار... فعلت ذلك لتقول إنّ خلف الثورة الطاهرة قوى شريرة وكائنات آثمة. كانت أخبار إلقاء القبض على الأجانب تميمة يومية، والقائمة شملت كل الجنسيات، من اميركيين واسرائيليين وصرب وكروات، وحتى البرازيليين، كلّهم خرجوا براءة، الا انّ مخططاتهم ظلت «العفريت» المتربص الكامن خلف الثوار الأطهار «بتوع ٢٥ يناير» الذين غادروا، وبقي عملاء الاجانب وحدهم يهتفون «يسقط حكم العسكر». إنّها كزينوفوبيا (رهاب الغرباء) من النوع القاتل الذي استخدم لأول مرة رغم أنّه خارج من مخازن
مبارك.
العسكر يبيعون التشدد الذي يصل الى حد اتهام كل من يقترب من أي شخص اشقر وعيناه خضراوان بالخيانة. تشدد لا يعبر عن وطنية، ولا يمثل قيمة عليا، لكنّه حالة هوس يشحنها المجلس وأجهزته، في حرب مع كل القوى المنتصبة في مواجهة مخطط اعادة دولة الاجهزة الامنية. ولأنّ التشدد بضاعة على المشاع، لا يسلم المجلس من نصيب في الاتهامات. كيف تجرّم من يجلس مع اجنبي وانت تحتفي بضيوفك من رؤساء الدول الغربية، وتؤكد أنّ تحالفك الاستراتيجي مع الولايات المتحدة مستمر؟ كيف ترى أنّ الثورة تعطل الاستثمار الاجنبي وانت تنشر حالة التخوين لكل من يصافح أجنبياً في
الشارع؟
الخيال الشعبي جديد وحيوي، ويرد على الهوس الذي ينشره المجلس واجهزته بتصور ساذج يراهم جالسين في انتظار مكالمة من البيت الابيض لينفذوا التعلىمات، او انهم مندوبو المصالح الاميركية في مصر.
وهذه صورة ساذجة تماماً، لأنّ المجلس ورث من مبارك نظرية يلعب بها الجالس على كرسي الحكم في المساحة بين «السيادة الوطنية» و«التحالف الاستراتيجي». لعب يضمن له شيئاً واحداً: حماية المقعد الذي يجلس علىه. وهي حماية اختار مبارك الطريق السهل لها، وهو التحالف الاستراتيجي. وتستفيد الولايات المتحدة من فكرة المستبد الناعم الذي يسيطر باستبداده على العناصر المطالبة بقوة الدولة، وبنعومته لن يصل بالشعب إلى حالة احتقان تثير الغضب علىها.
بهذا المعني عدّ مبارك وورثته الحكم على أنّه وكالة بادارة البلاد من الحليف الاستراتيجي، لا صناعة دولة قوية تختار أسس تحالفها أو اختلافها. المستبد هو وكيل الحليف الاستراتيجي، وأهمية الوكيل تكمن في أنّه يحافظ على فراغ كان مبارك ماهراً في صناعته.
لا تريد اميركا تحوّلاً ديموقراطياً في مصر. تريد تحوّلاً يضمن لها اعادة شحن لوكالتها التي قامت على أنّ الحاكم يصنع الفراغ من حوله، ويحجز لمصر مكاناً لا تفعل فيه شيئاً. مبارك كان «صانع فراغ» من الصعب ان يشغله احد، و هذا سر جاذبيته دولياً. لعب في ملفات متعددة، هامة بالنسبة إلى أميركا والاتحاد الاوربي. رعى السلام بالطريقة الاسرائيلية، لكنّه لم يتركها تنفرد بالمنطقة، وامتلك مسمار جحا في كل الملفات: من فلسطين الى دارفور واخيراً لبنان.
اهمية مبارك بالنسبة إلى العالم كانت انّه لا يصنع شيئاً، ولا يترك احداً يصنع شيئاً في المربع التاريخي الذي رسمته مصر لوجودها الحيوي منذ ثورة الضباط، وربما قبلها. وتكتمل الدائرة حين تصنع اجهزة البروباغندا صورة محارب الأجانب للحاكم او وريثه (الذي هو المجلس العسكري، واذا عدنا بالذاكرة قليلاً فسنرى انّه في عز ازمات نظام مبارك، وقبل ان يكتمل مشروع التوريث صوّرت البروباعندا الاعلامية جمال مبارك على انّه محارب وطني ضد التدخل الاميركي). يختار الحاكم اذن تدخل اميركا عندما تبدي ملاحظات على الديموقراطية او تطلب تخصيص جزء من المعونة لمؤسسات المجتمع المدني (كما حدث عندما خصصت اميركا ٤٠٠ مليون دولار). هنا المعركة تبدأ على اعتبار انّ الحاكم هو الوكيل الوحيد الذي يوزع المعونة بمزاجه، وعلى أنّ هذا « شعبي وانا حرّ فيه»، واخيراً لأنّ هذه النغمة تصنع من الوكيل بطلاً شعبياً، فيبدو استبداده وطنية، والمطالبون بالتغيير عملاء للأميركيين.
هكذا يبتسم الأجانب، وربما يضحكون، ويشحنون مندوبيهم النشطين في الشرق الأوسط، وهم يرون كل من يجلس على الكرسي يبدو «بطلاً ضد سيطرة الأجانب» وكيف تجلجل حنجرته بوطنية تجعله يطفو فوق كل الخلافات ويرفع راية الانتصار. سيتوقف الغاز الى اسرائيل لتعود الكزينوفوبيا للعمل من جديد في ترقيع شعبية العسكر، وستسمع صرخات ليبرمان «مصر اخطر من ايران»، وستتسرب تهديدات بقطع المعونة من واشنطن، وعودة فايزة ابو النجا الى اللعب بتصريحات عن «مفاوضات جديدة بحثاً عن اسعار جديدة». هكذا الى آخر الاستعراض الذي فقد كلّ فعاليته بعد حرب فايزة الشهيرة التي انتهت بسفر الأميركيين المتهمين برعاية الاستخبارات المصرية، وفي طائرة عسكرية أميركية فضحت الاستعراض لأنّ لاعبيه يفتقدون الكفاءة والحنكة لإكماله. وهذا سر خفوت صوت الجمهور في استعراض
الغاز.