لا تختلف الثورة البحرينيّة عن غيرها من الثورات العربية. فهي ثورة المهمّشين اقتصادياً وسياسياً واجتماعياً ودينياً، ضدّ نظامٍ ملَكيّ طائفيّ قبليّ لم يكن بمقدوره مواجهتها سوى بادعاءات إلحاقها بإيران وتشييعها، على جري إعلاميّي السلطة السورية بإلحاق الثورة السوريّة بالسعودية وقطر وكونها مؤامرة إمبريالية، رغم أنّه نظام تابع بالمطلق للإمبريالية الأميركية.
في الحالة البحرينيّة، تم تدمير دوار اللؤلؤة. في الحالة السوريّة، مُنع المحتجون عبر القتل من الوصول إلى أيّة ساحة رئيسيّة، كما جرى في حمص وحماه وساحة العباسيين في دمشق... قوّة الثورة البحرينيّة أجبرت النظام المتهالك على الاستعانة بجيش درع الجزيرة العربية، الذي هو جيش سعودي وهابي كما يقول معارضون بحرينيّون من أجل قمعها. غير أنّه وإن استطاع احتجازها في المناطق المهمّشة، فإنّه لم يتمكن من إيقافها، فهي ثورةٌ أصيلةٌ وليست أحداثاً بالوكالة. وكذلك فعل النظام السوري، فهو لم يألُ جهداً في استخدام كل وسائل العنف والتدمير والقتل، وجلب صفقات السلاح من إيران وروسيا، لإنهاء الثورة.
نجاح الثورة البحرينية سيشكل رافعة ثورية لشعوب الخليج، كحال الثورة اليمنية المغدورة، ففي حالة نجاح الأولى، سيجبر النظام على الاعتراف للشعب بحقوقه، وبالتالي جلاء قوات درع الجزيرة، والبدء بعملية سياسية، يكون للمعارضة فيها الحق بتشكيل الوزارة وتحجيم سلطات الملك، وتحديد العلاقة مع السيطرة الأميركية والسعودية لجهة علاقات متكافئة، لا ارتهان سياسياً فيها، وسيشكل سابقة ودرساً بليغاً لأهالي الخليج بأنّ التغيير ممكن.
إنّ استقدام النظام البحرينيّ للجنة محمود بسيوني للتحقيق بالانتهاكات التي حدثت لمدة عام، وخروجها بتوصيات تدين النظام لم تقبل بها المعارضة ولم ينفذها النظام، يشير الى ضعفٍ شديدٍ في النظام، ويؤكد ضرورة البدء بعملية سياسية جادة. عملية تجلس فيها السلطة والمعارضة على طاولة تتساوى فيها هذه الأطراف. هذا شرط أوليٌّ للتحول الديموقراطي والتصالح المجتمعي الوطني، والبدء بمرحلة انتقالية لمصلحة البحرين كدولة لكل أهلها. هذه العملية ستكون لمصلحة شعب البحرين ومصلحة شعوب الإقليم بأكملها، إذ إنّ المعارضة تحوز برنامجاً وطنياً ديموقراطياً، وتستهدف إقامة علاقات مع إيران والسعودية ودول الخليج دون تبعية وأحلاف، بل علاقات متكافأة؛ فالجزء الشيعي الوازن من المعارضة سيشجع الطائفة الشيعية في كامل الخليج على المطالبة بحقوقها العامة، كأفراد مستبعدين عن دائرة التشارك المجتمعي والسياسي، ولا سيما في السعودية. وبالتالي سيكون هناك تغيّرٌ واسعٌ في السياسات العامة لدول الخليج، وهو ما سينزع عنها الطابع السني، ولنقل سيتم التخلي عن الايديولوجيا «السنية» والعقلية القبلية والطائفية، لمصلحة دول جديدة تمثل المواطنين، وفق منظومة الدولة الحديثة، في فصل السلطات وهامشية دور زعماء الدول، من ملوك وأمراء. هكذا لن تبقى الدولة مجرد ملكيات فردية وعائلية أو إمارات، كانت وظيفتها الوحيدة، تسهيل السيطرة الإمبريالية على الخليج وثرواته، وقمع تطلعات شعوبها، بل ستتجه نحو فضاء وحدوي جديّ لمصلحة تلك الشعوب وللعرب عامة، ونحو فضاء إقليمي، قوامه علاقات متداخلة مع دول الجوار لا عداء فيها. دور الإعلام الخليجي (السعودي والقطري) المتجاهل للثورة البحرينية و«شيطنتها بتشييعها»، مؤشر بارز على الخشية والخوف من أيّة امتداداتٍ لها نحو بلادهم. وكانت الملكيات قد لعبت، في حالة الثورة اليمنية، دوراً في محاصرتها، بل والتدخل السافر لمصلحة الرئيس المخلوع، إذ شاركت بتفويض أميركي في محاولة وأدها، وتشويهها، لكن قوة الثورة وامتدادها وسلميتها الاستثنائية هي ما فرض البدء بمرحلة انتقالية لا تزال متعثرة، ويراد لها الفشل! فقد دفعت الدول الخليجية والولايات المتحدة الأميركية الأمور نحو انفلات طائفي بين تنظيم القاعدة والحوثيين، وبين القاعدة والنظام الانتقالي الجديد لتعسير مهمة الانتقال، ولتدمير قيم الثورة اليمنية السلمية. من المفيد أن نتذكر تنديد الثورة اليمنية بذلك التدخل عبر تسمية أحد أيام الجمع بجمعة «رفض الوصاية الإقليمية والدولية». هكذا كانت هناك محاولة لإغراق الثورة اليمنية بمشكلات طائفية، كما تمّ اتهام الثورة البحرينية بالشيعية والفارسية. وهو ما يمنع تطلعات شعوب الخليج، ولا سيما الكويت والسعودية، من الانخراط في احتجاجات شعبية، تتجاوز في تطلعاتها لإسقاط الأنظمة نحو فضاء عربيٍّ وازنٍ إقليمياً وعالمياً.
نعم، الثورة البحرينية هي مفتاح رحيل الملكيات الكمبرادوية التجارية التي هي وكالات ممثلة للسيطرة الأميركية على الخليج، وهو ما سيُظهر عقم «المسألة الشيعية» في الخليج، وكونها مسألة عربية بامتياز. ومتعلقة بحقوق الفئات الممنوعة من المطالبة بحقوقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، والمشاركة والمساهمة في تشكيل دولها على كل المستويات.
لن يستطيع النظام البحريني، كما اليمني الانتقالي، كما السوري، إيقاف الثورات المندلعة، فهي ثورات مهمشين مفقرين ومستبعدين سياسياً عن التمثيل ويصار إلى قمعهم بكل السبل. هذه الأنظمة المفوّتة تاريخياً، لم تعد تحوز أيّة صدقيّةٍ وليست بقادرة في عالم رأسماليّ مأزوم على تلبية احتياجات الطبقات والفئات المهمشة، ولا تملك ثقافة العصور الحديثة ولا عقلانية ممثلي الطبقات البورجوازية الأوروبية عن شكل النظام السياسي أو فصل السلطات أو خططاً لتطوير الصناعة والزراعة والاستفادة من الثروات الطبيعية. هي فئات تحقّق فقط مصالح الرأسمالية العالمية في احتجاز شعوبها عن تحقيق التنمية المتمركزة على الذات والبدء بدخول التاريخ. لذلك تتجاهل تلك الدول الحقوق الأوليّة للمواطن الذي صار على دراية بها، وتدفعه إليها الأوضاع الاقتصادية المتدهورة لملايين العاطلين من العمل والمتضررين من واقع اللبرلة الاقتصادية، الذي هو جزء من واقع رأسمالي مأزوم عالمياً؛ وهو ما تعمل له الثورة اليمنية والبحرينية.
نعم، ما حدث منذ أكثر من عام في البحرين ثورة شعبية، ولا يقلّل من ذلك تمركز معظم الاحتجاجات في المناطق المحسوبة على الطائفة الشيعية، وقد جاء تقرير محمود بسيوني مكذباً ادعاءات السلطة هناك لربط الثورة بإيران والشيعة الإيرانيين، لتظهر الثورة على حقيقتها كثورة طبقات مستغلة، وثائرة في طول العالم العربي وعرضه. تأخر إسقاط الملَكيات، كما الديكتاتوريات، أو عقد صفقات مصالحة معها، لن يحتجز الثورة، لكنّه يعرقل حسمها المعركة ضد الإفقار والإذلال والتبعية، إلا أن الثورة مستمرة ما دامت مطالب الأكثرية المجتمعية، وهي الطبقات المفقرة، لم تتحقق.
* كاتب سوري