يقدّم اكتشاف جيوب كبيرة من الغاز الطبيعي قبالة ساحل قبرص الجنوبي في أواخر 2011، واحتمال العثور على كمية أكبر في شرقي البحر المتوسط، حافزاً جديداً ومقنعاً لتسوية مشكلة قبرص. لكنّ الغاز أيضاً يشكّل خطراً على أمن الجزيرة المستقبلي واستقرارها، مرسّخاً المواقف القومية التي أعاقت، على مدى عقود، التقدّم نحو إعادة توحيد المجتمعين القبرصي اليوناني والقبرصي التركي. إذا لم يتمكّن الطرفان من إيجاد طريقة متفق عليها للتعامل مع هذا المورد الطبيعي، فسيواجه القبارصة اليونانيون صعوبة أكبر في الاستفادة من حصتهم من الثروة النفطية، وسيُحرَم القبارصة الأتراك من حقوقهم الأصلية، وستفقد تركيا فرصة أخرى لتسوية هذا الاستنزاف الطويل الأمد بشأن مستقبلها الدبلوماسي والاقتصادي.تتزامن التوترات المتزايدة في شرقي البحر المتوسط مع وصول المفاوضات بشأن إعادة توحيد قبرص إلى حائط مسدود. تعثّرت الجولة الأخيرة من المحادثات التي تُجرى بوساطة أميركية منذ 2008، وبدأ هدفها المعلن المتمثل في اتحاد بين منطقتين ومجتمعين يفقد صدقيته. قلّة تتوقع حدوث تقدّمٍ مفاجئ في المحادثات خلال السنة المقبلة، إذ إنّ القبارصة اليونانيين سينشغلون برئاستهم للاتحاد الأوروبي في النصف الثاني من 2012 وبانتخابات رئاسية في أيار/ مايو 2013.
حتى الآن لم يسهم اكتشاف الغاز الطبيعي في حقل أفروديت، سبعة تريليونات قدم مكعب تقريباً (200 مليار متر مكعّب)، وهو ما يكفي لتلبية حاجات قبرص إلى الطاقة لمدة قرن، في الدفع قدماً بالمفاوضات. تملك جمهورية قبرص، التي حددت منذ 2003 مناطقها الاقتصادية الحصرية مع مصر ولبنان وإسرائيل، حقاً سيادياً معترفاً به دولياً بالتنقيب عن الموارد في أعماق البحار في هذه المناطق وباستغلالها. بيد أنّ مباشرة القبارصة اليونانيين من طرفٍ واحد بعملية التنقيب في أيلول/ سبتمبر 2011 ضربت عرض الحائط باتفاقٍ كانوا قد توصلوا إليه مع القبارصة الأتراك في المحادثات الثنائية، ينص على تقاسم الموارد الطبيعية واتفاقات الحدود البحرية ضمن اتحادٍ مشترك. ولم يهدّئ وعد الرئيس القبرصي اليوناني الغامض بتوزيع الإيرادات المستقبلية في تهدئة مخاوف القبارصة الأتراك لناحية أنّ حصتهم تُسلب منهم عن طريق الخداع.
بيد أنّ الأعمال التحريضية والأحادية الطرف التي تقوم بها تركيا والقبارصة الأتراك خرقت أيضاً روح المفاوضات. لقد وافقوا على رسم حدود الجرف القاري بين سواحلهما ومنحا رخص تنقيب في مناطق من بينها المياه الاقليمية جنوبي قبرص. والآن تضع تركيا اللمسات الأخيرة على استعدادات للمباشرة بالتنقيب في البر لصالح القبارصة الأتراك في الشمال.
اعترضت تركيا والقبارصة الأتراك على عمليات التنقيب والاستغلال التي يقوم بها القبارصة اليونانيون حول الجزيرة منذ 2003. هم يرفضون ادعاء القبارصة اليونانيين السيادة الحصرية قائلين إنّه تمّ التفاوض بشأن هذه المسألة وإنّ جمهورية قبرص لا تمثّل القبارصة الأتراك ومصالحهم. وترى أنقرة أنّ خمس مجموعات تراخيص خاصة بجمهورية قبرص في غرب الجزيرة تتجاوز مطالباتها بجرفٍ قاري خاصٍ بها. وهي تعتقد أنّ خطها الساحلي الطويل يخولها الحصول على حصة أكبر من المناطق البحرية، وتنظر بريبة إلى مطالبات القبارصة اليونانيين (وربما اليونانيين) غير الرسمية لكن التنافسية على ما يبدو بمعظم منطقة شرق البحر المتوسط. في 2011، وللتشديد على اعتراضها، أرسلت بشكلٍ استفزازي سفناً استكشافية وطائرات وسفناً حربية تلوّح بالعلم التركي بالقرب من حقل أفروديت القبرصي، وسفناً استكشافية إلى مناطق أقرب إلى قبرص.
التدابير الأحادية الجانب التي تتخذها الأطراف جميعها لا بد من أن تعزز الانقسامات، وتزيد من احتمال حصول حوادث في شرق المتوسط. في الوقت عينه، من غير المنطقي أن نتوقّع أن توقف جمهورية قبرص نشاطاتها البحرية. بالنظر إلى المشاكل الاقتصادية التي واجهتها قبرص ومشاكلها في منطقة اليورو التي جعلت تصنيفاتها الائتمانية تصل إلى الحضيض في مطلع 2012، سيكون من الصعب جداً على أي سياسي قبرصي يوناني ألا ينقب عن الغاز.
رغم ذلك لن تتحقق أي إيرادات ضخمة قبل سنوات عدة. لكن يستطيع الطرفان القبرصيان تحسين الوضع الراهن عبر اتخاذ تدابير لبناء الثقة. على القبارصة اليونانيين أن يتعهدوا رسمياً بتقاسم 20 في المئة من الموارد مؤقتاً مع القبارصة الأتراك، استناداً إلى الكثافة السكانية لكلٍ من المجتمعين. على الطرفين التوافق على لجنة استشارية تضم المجتمعين للعمل على أفكارٍ بشأن استعمال الغاز وتوزيعه بشكلٍ مشترك على الصعيد المحلي. إلى جانب هذه الخطوات، على الأتراك والقبارصة الأتراك أن يكفوا عن تأجيج التوترات من خلال نشاطاتهما ضمن مناطق قبرص الاقتصادية الحصرية التي لا يمكن الدفاع عنها من المنظار القانوني الدولي.
كذلك، يعاني المناخ الاستثماري الطويل الأمد حول الجزيرة من تهديدات تركية واضحة بوضع أي شركة بترول تشارك في جولات الترخيص في جمهورية قبرص على اللائحة السوداء، وبالاعتراض على أي عملية تنقيب تُنظم في ما تعتبره مناطق بحرية متنازعاً عليها. حتى مع الافتراض أنّ القبارصة اليونانيين نجحوا في استخراج الغاز، يعقّد المأزق السياسي الحالي المخططات الهادفة إلى التسويق بفاعلية لهذا المورد. من دون تعاون تركي، يميل القبارصة اليونانيون إلى إنشاء مصنع للغاز الطبيعي المُسال سيستلزم تمويلاً خارجياً يعادل نصف الناتج المحلي الاجمالي السنوي لقبرص، وسيستغرق بناؤه وقتاً طويلاً. بالإضافة إلى ذلك، ليكون مصنع الغاز الطبيعي المُسال القبرصي مربحاً حقاً ينبغي أن يعالج على الأقل ضعفي كمية الغاز المتوافر من حقل أفروديت، من إسرائيل ربما. لكن من غير المرجح أن تأتمن إسرائيل دولة أخرى على منشأة مكلفة واستراتيجية مماثلة.
بالمقابل، من المرجح أن يؤدي التزامٌ قبرصي تركي بالغاز الطبيعي المُسال إلى استثناء تركيا والقبارصة الأتراك مما سيعمّق الانقسام الفعلي في الجزيرة. أما خطط تركيا والقبارصة الأتراك للتنقيب بأنفسهم فتشوبها مشاكل كثيرة تقنية ودبلوماسية وتسويقية.
قد يثبت أنّ المباشرة بحوارٍ بشأن خياراتٍ أكثر ابتكاراً في مجال الطاقة هي بمثابة محفّزٍ نحو تسوية النزاع المتجمّد في الجزيرة. على سبيل المثال، من شأن خط أنابيب ينقل غاز شرق المتوسط إلى تركيا أن يتيح الدخول إلى سوق جذابة ويفتح سبلاً محتملة نحو الاتحاد الأوروبي. بيد أنّ من الصعب تخيّل تطوّرٍ كهذا يُعزَّز من دون تسوية قبرصية، وهي بحد ذاتها جائزة أعظم ومتوافرة بشكلٍ أسرع من الغاز الطبيعي، وربما تكون الطريقة الوحيدة ليستفيد الجميع حقيقة من الاكتشافات الحديثة قبالة الساحل القبرصي.
* ديدم أكيل كولينزوورث وهيو بوب هما على التوالي محللة ومدير مشروع قبرص/ تركيا الخاص في مجموعة الأزمات الدولية. شارك هيو بوب في تأليف كتاب Turkey Unveiled: a history of modern Turkey (منشورات Overlook، نيويورك، الطبعة الرابعة، 2011)