يبدأ النقاش من غير الجهة الصائبة، عندما يبدأ من الحكم على قضية الديموقراطية فقط استناداً الى الممارسة البرجوازية في الصيغ التي استقرت عليها، وخصوصاً في مرحلة العولمة الرأسمالية. ويستسهل بعض اليساريين تكرار أخطاء قاتلة، أو ترداد مقولات بائسة، أو إرسال إشارات متناقضة حيال ما جرى ويجري في العالم، ولا سيما بعد انهيار المركز السوفياتي ومنظومته في مطلع تسعينيات القرن المنصرم، وبالطبع أيضاً حيال الانتفاضات العربية التي تلاحقت في العام الماضي، ولا يزال بعضها مستمراً، وسط تعقيدات وتفاعلات داخلية وخارجية، حتى اليوم.ليس من حق ورثة التجربة الأممية، على كل ما شابها من أخطاء وانحرافات، تجزئة الصراع وإغفال مداه الكوني وعزل حلقاته الطبقية والاجتماعية والسياسية والفكرية... بعضها عن البعض الآخر. وتقضي كل عملية مراجعة او إعادة قراءة للتجربة، من موقع النقد الحي لا من مستنقع التعصب الأعمى، بتوليد ما أمكن من الاستنتاجات الإضافية والجديدة والخلّاقة. فتلك الاستنتاجات والإبداعات ستكون بدورها لبنات جديدة في المسار المفتوح، لبلورة المشروع الثوري في صيغه الشاملة والخاصة على الصعيدين الأممي والوطني. ذلك ما كان ينبه إليه بإلحاح وبصيغ علمية و عبقرية، كل من ماركس وإنغلز، على الأقل في الحقل النظري، وفي ما أُتيح لهما من المعاناة والمعاينة والممارسة والنضال...
ويستوقف في هذا الصدد، فيما يستوقف، ما كتبه الأستاذ ناهض حتّر، في مقالين متلاحقين في«الأخبار»، الثلاثاء الماضي والثلاثاء الذي قبله. لقد اجتهد الزميل حتَّر في تحريض «قوى اليسار العربي» على أولوية هدف مواجهة مشاريع وسياسات الإمبريالية وعميلها الكومبرادور العربي. وهو، لهذا الغرض، طالب باعتماد «ديموقراطية مضادة تنزع أولاً القداسة عن صناديق الاقتراع»، وعن البرلمانية عموماً، بل هو استطرد الى القول: «الديموقراطية ليست الانتخابات حتى لو كانت نزيهة وحرة ووفق أحسن النظم الانتخابية». وسرعان ما كشف الكاتب الأردني عن السبب قائلاً: «عندما تقرر صناديق الاقتراع فوز قوى فاشية رثة كالإسلاميين، فهل يجب علينا الإذعان؟».
تطرح هذه المعادلة، أي معادلة حتمية الربط بين الوسائل والنتائج، جملة مسائل نظرية وسياسية وتنظيمية وتعبوية في الوقت ذاته، لكن أخطر ما تنطوي عليه إنما هو الانتقائية والاإرادوية التي لن يكون اعتمادهما حكراً على طرف دون سواه، علماً أنّ تطبيقها سيكون غالباً لمصلحة الطرف الأقوى. أما النتائج، فلن تكون أبداً لمصلحة «الاستقلال الوطني والاقتصادي والتنمية وتوزيع الثروة» في أي بلد من البلدان، طالما أنّ الصراع سيتحوّل، غالباً، الى أسوأ أشكاله: الانقسام والاحتراب وانفلات الغرائز والعصبيات، على غرار ما حصل بعضه في الجزائر قبل حوالى عقدين من الزمن.
لكن الأستاذ حتّر يستدرك: «الديموقرطية هي حرية التعبير، حرية العقيدة الدينية والدنيوية، حرية الممارسة الاجتماعية، حرية التنظيم الحزبي... حرية الصحافة، حرية النقد...». الا أنه يعود الى الاإرادوية مرة جديدة: «وهي كلّها حريات ليست ممكنة إلّا في دولة مدنية علمانية». إنّه يخلط بين شروط الصراع ونتائجه، ويحرق المراحل من خلال التمنيات، لا من خلال المسارات النضالية التي يتبيّن على نحو قاطع أنّها معقدة وطويلة ومحفوفة باحتمالات شتى من التقدم والتراجع، وفق اعتبارات موضوعية، وأخرى ذاتية، كامنة في القدرة على المبادرة والتعبئة، وفي النجاح باشتقاق الصيغ الكفاحية المناسبة في الزمان والمكان المحددين.
ويطلق حتّر في مجرى ذلك، جملة أحكام سريعة او متسرعة. يقول أحياناً الشيء ونقيضه. هو مثلاً يقدس الدولة «المدنية والعلمانية». لم يحدد ما هو النظام الاقتصادي في تلك الدولة: الاشتراكي ام الرأسمالي، وهل يستوي النظامان في تأمين الحقوق التي ذكرناها آنفاً؟ وماذا تقول المنطلقات النظرية والممارسة العملية في هذا الصدد؟! ونقع على تناقض جديد في مسألة التعامل مع «الجماهير»: يتأفف الكاتب من أنّ المجتمع «مزدحم بالفقراء والعاطلين والمهمشين. هؤلاء سيكونون مضطرين الى بيع اصواتهم بالمال او الخدمة او المساعدة او الأوهام. وهم بالأساس لا يملكون القدرة الاقتصادية او الثقافية على ممارسة الحريات الديموقراطية، ولا على تحويل طموحاتهم الى جدول اعمال ولا على الاهتمام بالسياسة الداخلية والخارجية...». هذه الشكوى تدفع موضوعياً الى اليأس وتُسقط، ولو إلى حين، من نصوص الزميل حتّر، مسألة المصالح والبرنامج الكفاحي. وهي تُؤسس، مرة جديدة، للوصاية «الثورية» التي كان في فقرة سابقة قد طمأننا الى عدم الرغبة في العودة اليها، وهي «الرسائل الانقلابية والسلطوية لتحقيق مثال إشتراكي أعلى باسم الفئات العمالية والكادحة»، ورغماً عنها، كما حصل في «النموذج السوفياتي «الذي أسس له جوزيف ستالين وترددت أصداؤه في كل الأحزاب الشيوعية إلا قليلها أحياناً»! من حق، بل من واجب قوى اليسار العربي أن تكون حذرة. ويرى يساريون من بين صفوفها أنّ «من كواه الحليب ينفِّخ على اللبن»، بسبب ما رافق التجربة السوفياتية من قمع وإكراه وخيبات... نتيجة تعطيل الديموقراطية داخل الحزب والمجتمع. ولذلك يبالغ بعض اليساريين احياناً في «تقديس صندوق الاقتراع»، وخصوصاً وهم يلاحظون استمرار بعض الصيغ الشيوعية البائسة التي انتهت الى التوريث، وبعض الصيغ القومية التي انتهت الى «التأبيد»... لكن الهدف من ذلك هو «حرية التعبير، حرية العقيدة...» ومواجهة مصادرة هذه الحرية باسم شعارات او أولويات اخرى صحيحة او مخادعة...
ويبقى أنّ قضايا التحرر والحرية السياسية والاجتماعية واحدة، في مسار عملية التقدم والعدالة بوسائل الثورة والتغيير... ولا ينبغي أن تخضع حرية الإنسان: حرية التعبير وحرية العقيدة والصحافة والسلوك الفردي... لأي شروط مهما كان مصدرها، يسارياً او اسلامياً او قومياً... إنّ الحصول على هذه الحرية هو عملية نضالية، كما هي عملية نضالية كبيرة ايضاً مسألة مواجهة الاستغلال والإفقار والتهميش وعدم المساواة والعدوان، وكلها من ثمار الجشع الرأسمالي.
إن نقد سلبيات الانتخابات البرجوازية، لن يكون صائباً ما لم يسعَ الى الحد من هذه السلبيات، والمراكمة على طريق التغيير الجذري، عبر كفاح شعبي حازم وفعّال للتطوير على طريق التغيير الجذري، لا للارتداد على أبسط منجزاتها، التي هي منجزات حضارية ذات طبيعة قيمية مطلقة، عندما يتعلق الأمر بدءاً بكرامة الإنسان وبحقوقه الأولية والطبيعية. ما عدا ذلك يصبح، عن قصد او عن غير قصد، تحريضاً لليسار على الديموقراطية لا على سلبيات الإمبريالية ووكلائها.
* كاتب وسياسي لبناني