يستصعب كتاب يساريون رؤية سلامة كيلة للثورة السورية، باعتبارها ثورة شعبية، جسدها الأساسي الطبقات الشعبية والمفقرون، ويعدّون ذلك نزعة اقتصادوية ماركسوية. وهناك بالمقابل من يعيبون عليه هذا الفهم بكليته، ويشكّكون في الثورة كثورة، فهي بنظرهم مجرد مؤامرة إمبريالية خليجية، وهنا لن ننظر إلى من لا يزال يتصور أن ما يحدث هو مجرد أفعال عصابات سلفية ومجموعات إرهابية؛ لكل ذلك نكرّر مع الصديق سلامة أنّ الرؤية الماركسية الجادة لا تتخيّل ثورة مصطنعة، ولا توارب في فهمها لتتوافق مع رواية النظام السوري عنها، ولا تذهب نحو ديموقراطية مبتذلة مع المعارضة كسببٍ وهدف للثورة، بل هي رؤية تستقي من الماركسية منهجية التحليل، ومن الواقع المعطيات الموضوعية، ومن إعادة إنتاج الفكر الماركسي سوريّاً رؤية للواقع، إذ إنّ الثورة الآن هي الواقعة التي تفرض نفسها في سوريا وفي العالم، وهي حدثت لأسباب متعدّدة. أمّا شرطها العام وسببها الأساسيّ فهما السياسات الليبراليّة التي انتهجها النظام السوريّ. وبغض النظر عن استبداديته، فإنّها هي ذلك الشرط، وهي الشرط العربي الذي دفع بملايين العرب إلى الثورة، ومحاولة إيجاد نظام مطابق لحاجاتهم الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، أي دفعتهم إلى الثورة التي قطعت شوطاً في إسقاط ديكتاتوريات قديمة، كانت كارثيّة بكل معنى الكلمة، وستستمر بإسقاط كل ديكتاتوريّة جديدة. ستكون هذه الأخيرة أسوأ، إذ غلّفت نفسها بإيديولوجيا دينيّة أو ديموقراطيّة أو ثوريّة كاذبة، فالناس ثاروا ليكنسوا من مجتمعاتهم بقايا أنظمة وفئات مفوّتة لا تمتّ للمجتمع الإنسانيّ بصلة، ولكنّها تعبّر عن الرأسماليّة بامتياز، لذلك جاءت هذه الثورات ضدّ السياسات الليبراليّة، وستكون لاحقاً ضد الرأسماليّة كنمط إنتاج كونيّ قائم على الربح والإفقار للملايين، وهي الآن السبب الوحيد للأزمات الاقتصاديّة العالميّة ولوجود ملايين المفقرين. هذه المسائل هي ما ينطلق منها سلامة كيلة. طبعاً لم يتجاهل سلامة، ولا أي كاتب ماركسي، أنّ الاستبداد وشدّة القمع ومنهجة القتل هي عوامل قويّة لاشتداد الثورة وتوسيعها. ولكن لا يمكن جمع الأسباب، وخلطها بعضها ببعض، لنصل إلى تمييعٍ فاسدٍ لأسباب الثورة، واستنتاج أهداف مائعة منها بالضرورة، كأن يقاول رأياً ما: أنّ الليبراليّة هي الحل أو الديموقراطيّة هي الحل، متجاهلاً أنّ السياسات الليبراليّة بوجهيها الاقتصاديّ والسياسيّ لم يقدما حلاً للأزمات الاقتصاديّة ولا للأزمة السياسيّة. فقد حدث ويحدث الانهيار عربياً وعالمياً وتشتعل الثورات العربية والعالمية بأشكالٍ متعدّدة، وكلها بسبب تلك السياسات، لتطرح على العالم ضرورة وجود نمطٍ اقتصاديّ مختلف، وطبقات جديدة تحكم، وأنظمة سياسيّة مطابقة للأكثريّة المفقرة، وعولمة لمصلحة كل الأمم.ليس من المستغرب أن يعتقل سلامة، بل ربما من المستغرب أن لا يعتقل منذ بداية الثورة، فرؤيته لأسبابها واضحة تماماً، ولجهة الحل واضحة كذلك، وهي تستند إلى الممكن في حقل الصراع، لا البحث عن حلول على حساب الثورة، والقائمين بها، الممكن هنا أنّها ثورة متصاعدة، إلى حين تحقيق أهدافها. رؤيته هذه تركن إلى ثقة إيمانية راسخة، لجهة حق الطبقات الشعبية ببناء دولتها، وبما يتناسب مع مصالحها ومصالح أفراد الشعب كافة، ووفق نظام علمانيّ ديموقراطيّ يتيح لتلك الطبقات أوسع الحقوق الديموقراطية الضامنة لدور قياديّ لها في الدولة الجديدة. هذا ما تتضمنه تحليلات سلامة كيلة، دون أيّ لبس ودون أيّ مواربة. رؤيته تلك تستند إلى أنّ الطبقات الشعبيّة تشكّل جسد الثورة الأساسيّ، بغض النظر عن شكل وعيها، الذي سيخُسرها الكثير الكثير، إلى أن تتعلم بالتجربة، وعبر مساهمة اليساريين الفكرية والسياسية، في أخذ زمام المبادرة والثقة بنفسها، وكنس كل السياسيين، الذي لا يرون من الثورة سوى حصان جامح لإيصالهم إلى السلطة، أو يقزمون الثورة لانتخابات وصناديق اقتراع، ما كانت هي سبب الثورة المركزي، كما أشرنا، ولن تكون سوى جزئية في أهداف الثورة الساعية إلى تحقيق مطالب الأكثرية المفقرة.
حاول سلامة كيلة في المقالات الأخيرة له، أن يركّز على أنّ روسيا إمبريالية ولكنّها غبية، كما أنّ مؤيدي «المجلس الوطني»، من دول الغرب إمبرياليات، لذلك من الضرورة فهم أنّ خطة كوفي أنان لن تكون في مصلحة الثورة، بقدر ما ستكون في مصلحة وضعٍ جديد، ستحاول قوى سياسيّة معارضة، وربما مع جزء من النظام القديم، تشكيله من «الذين لم تتلطخ أيديهم بالدماء»! وسيتم بالتالي إبعاد مصالح الطبقات الشعبيّة عن طاولة البحث، والطبقات نفسها، لمصلحة ديموقراطية مبتذلة في «صندوق اقتراع»، سيقول كثيرون «إنّنا عشنا ومتنا من أجل الوصول إليها». كما سيزعمون أنّها البداية نحو ديموقرطية أعمق تطوّر نفسها بنفسها، قاصدين من وراء ذلك السعي خلف مصالحهم، ومستندين في ذلك إلى رؤية ضيّقة ومشوّهة لدور اليساريين ولدور الطبقات الشعبية بأنّ دورها فقط العمل، والإنتاج، والاكتفاء بنتفٍ من الحقوق الانتخابيّة العامة، وترك الاقتصاد وكذلك السياسة بما حملا للطبقة الرأسماليّة. فبرأيهم، هذه الأخيرة هي القادرة على إخراج سوريا من أزمتها، وهم بذلك يتجاهلون (إلى جانب كونهم غير واعين) أنّ تلك الرأسماليّة ذاتها، والتي هي طبقة متعدّدة الشرائح، منها العسكريّة ومنها التجارية والصناعية، قد أثرت ثراءً فاحشاً في العقد الأخير عبر السياسات الاقتصاديّة الليبراليّة، وعلى حساب الأكثريّة المنتفضة في عموم سوريا! وبالتالي، هم يفتحون لها، بعد إسقاط النظام، المجال واسعاً لمزيدٍ من النهب. ضد ذلك الفهم المأزوم، كان سلامة يقدّم رؤيته، وهذا ليس جديداً لديه، بل هو موجود كأفكارٍ وتحليلاتٍ في كل مقالاته وكتبه، التي تغطي الواقع السوريّ، اقتصاداً وسياسةً وقوى سياسية وغيرها.
ركّز صديقنا المعتقل على أنّ القوى السياسيّة هي قوى طبقيّة كذلك، وإذ كان أميناً للثورة، ومحاولاً قراءتها كما هي دون تزويق وأدلجة وتحريف، كما يفعل الكثيرون من الديموقراطيين واليساريين النظاميين «لتشابه رؤيتهم مع رؤية النظام السوريّ»، فإنّه وجد في المعارضة السورية بتياريها العريضين، قوىً سياسيّة لم تفهم الثورة، بل عملت على تسخيرها، لمصلحة رؤية ضيقة متعلقة بوصولها إلى السلطة بأي شكل كان. لذلك هي قوى سياسية طبقية تريد أدواراً لها في العملية الديموقراطية القادمة، وبقاء السياسات الاقتصاديّة الليبراليّة ذاتها، ويرفضون أيّ تحديد دقيق للمسألة الوطنيّة أو القوميّة، لأنّها تضعهم في مواجهةٍ فعليّة مع الولايات المتحدة الأميركيّة وكلّ الدول الإمبرياليّة. سلامة كما قلّة آخرون، استثناء في ذلك؛ فلسوريا أراضٍ محتلة ستستعاد بكلّ الطرق الممكنة، وفلسطين مسألة عربيّة بامتياز، وليست مسألة فلسطينيّة وكفى المسلمين شرّ القتال. وقد يكون أسوأ قضية تجاهلتها المعارضة السوريّة هي المسألة الوطنيّة، فبانت كمعارضة متخلية عنها، أو متجاهلة إياها. وفي الحالتين لديها فهم مشوّه وضيّق نحوها، وكأنّ طرحها يعوق الثورة، وهذا كذب، فهو حقيقةً يعوق فقط مشروع تلك القوى، التي لا ترى كما النظام ما يحدث ثورة شعبيّة، بقدر ما هي ثورة لمصلحة نقل السلطة من بورجوازيّة إلى بورجوازيّة متضرّرة، وهذا لعمري أسوأ فهم للثورة وللمسألة الوطنيّة. سلامة كان واضحاً في ذلك، فالمسألة الوطنيّة واحدة من قضايا الثورة العربيّة، والمسألة القوميّة ستكون على قائمة أهداف تلك الثورات، لأنّ الثورة بالأساس هي ضد النظام القائم، ولكنّها كذلك ضد أشكال السيطرة الإمبرياليّة، على بلادنا، التي كانت هي السبب المركزيّ للتكوين الاقتصاديّ الاجتماعيّ لها.
سلامة كيلة، غضبنا كبيرٌ لاستمرار غيابك عنّا، الكثيرون الكثيرون يسألوننا عنك كل يوم، وأنا أتلعثم كثيراً في الإجابة، لكنّي، يا صديقي أُكثر من الأمل الكاذب لقرب الإفراج عنك، مرة بسبب مرضك وضعف بنيتك الصحيّة، ومرة بسبب تداخلات مواقفك مع قوى قوميّة وماركسيّة ويساريّة عربيّة، ومرة بسبب العملية السياسيّة التي يقودها كوفي أنان، لكنّني سأكذب على نفسي كذلك وأقول متمنيّاً: الإفراج عنك بعد قليل...
* كاتب سوري