أطلق أخيراً قاضي المحكمة العليا الإسرائيلية سليم جبران، المواطن الإسرائيلي العربي، جدلاً عندما رفض أن يشارك في النشيد الوطني الإسرائيلي خلال مراسم تنصيب رئيس جديد للمحكمة العليا. كان صمته خلال النشيد بمثابة خيانة بالنسبة إلى اليمين المتطرف، وطالب رئيس لجنة الدستور في الكنيست ديفيد روتيم بإقالته. أما مواطنو اسرائيل الفلسطينيون، فقد احتفوا بجبران، العربي الأول الذي يشغل منصب قاض في المحكمة العليا، لتحديه الرقيق لواحد من رموز الدولة العبرية. ومن جهته، فقد دافع رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو عنه نوعاً ما، إذ أعرب عن تفهمه للأسباب التي تدفع جبران، كعربي، لأن يلتزم الصمت، فيما ينشد زملاؤه «توقهم للقلب اليهودي»، لكن ما لم يتبادر إلى ذهن نتنياهو هو أنّ النشيد الوطني يتعين أن يعكس أيضاً تطلعات مواطني اسرائيل الفلسطينيين ليشعروا بالرغبة في الانضمام إلى الجوقة.
تدهورت العلاقات بين اليهود والعرب في إسرائيل على نحو مطّرد منذ عقد من الزمن، إذ تنظر الغالبية اليهودية على نحو متزايد إلى الأقلية الفلسطينية على أنّها أقلية تخريبية لا تشعر بالولاء لدولة اسرائيل، وتمثل تهديداً ديموغرافياً. يعاني المواطنون الفلسطينيون تهميشاً سياسياً، وحرماناً اقتصادياً، وباتوا أقل تقبلاً لانعدام المساواة المنهجي، وأكثر استعداداً لمواجهة الوضع الراهن. ليس ثمة حل سهل أو سريع للمشكلة. في المدى القريب، يجب على إسرائيل اتخاذ خطوات عملية لنزع فتيل التوتر مع الأقلية العربية، ودمجها في هيكل المواطنة الإسرائيلية. أما على المدى الطويل، فسيتمثل التحدي بالنسبة إلى اليهود الإسرائيليين والحركة الوطنية الفلسطينية بمجملها في التوصل الى تفاهم بشأن الأسئلة الجوهرية التي لم يجرِ التطرق إليها منذ عام 1948 عندما قامت دولة إسرائيل، وشُرد مئات الآلاف من الفلسطينيين: ما هو طابع دولة اسرائيل، وما هي الحقوق التي يجب أن يتمتع بها مواطنوها العرب؟
منذ 2000، أسهمت سلسلة من الأحداث الدرامية في تسميم العلاقات اليهودية العربية في إسرائيل، وأعادت تنشيط الأقلية الفلسطينية فيها. ونتيجة لذلك، بدأ المواطنون الفلسطينيون في النظر الى الخارج ـــــ إلى الدول العربية المجاورة والمجتمع الدولي على نطاق واسع ـــــ للحصول على الدعم المعنوي والنفوذ السياسي، كما باتوا يؤكدون على هويتهم الفلسطينية، وينأون بأنفسهم على نحو متزايد عن السياسات الرسمية الإسرائيلية. وكانت النتيجة انخفاضاً مطرداً للإقبال العربي على الانتخابات العامة، وأما أولئك الذين لا يزالون يكلفون أنفسهم عناء التصويت، فقد تحوّلوا من الأحزاب اليهودية الصهيونية إلى الأحزاب العربية.
من جانبها، فإنّ الأغلبية اليهودية التي تواجه أقلية تنسج تحالفات خارج دولة إسرائيل، وتظهر تضامنها مع خصومها، باتت أكثر تشككاً من أي وقت مضى في شأن أقلية تعدّها بمثابة طابور خامس محتمل، إذ همّشت الفلسطينيين وسنّت تشريعات لتعزيز الهوية اليهودية للدولة، كما سعت إلى حظر الأحزاب العربية وبعض البرلمانيين. وما يمثل اليوم لمعظم المواطنين الفلسطينيين صراعاً مبدئياً للحصول على المساواة في الحقوق، يَنظر إليه الكثير من اليهود الإسرائيليين على أنّه إنكار خطير للأمة اليهودية. وما يمثل بالنسبة إلى معظم اليهود تواطؤاً مع أعداء إسرائيل، يعدّه المواطنون الفلسطينيون بمثابة تعبير عن علاقات أخوّة مع أشقائهم في المنطقة.
يجري هذا في سياق عملية السلام التي لا يحدث خلالها سوى القليل، وما يحدث في العادة يزيد الطين بلة. لطالما عُدّت أوضاع المواطنين العرب في اسرائيل مسألة داخلية، من شأن التعامل معها زيادة تعقيد محادثات السلام. إلا أنّه بات واضحاً الآن أنّ المسألتين متشابكتان، وذلك لإصرار اسرائيل على أن أي اتفاق سلام مع منظمة التحرير الفلسطينية يستلزم بعض الاعتراف بالطابع اليهودي للدولة، الأمر الذي بدوره سوف يؤثر في الوضع القانوني للمواطنين الفلسطينيين. لا يمكن للحركة الوطنية الفلسطينية أن تتجاهل وجهة نظر الأقلية العربية بشأن هذا الموضوع، كما لا يمكن لإسرائيل أن تتجاهلهم، إذ إن أي تفاق يفتقر إلى دعم الأقلية الفلسطينية لن ينهي المطالب الفلسطينية، ولن يحل النزاع بشأن هوية إسرائيل. يتحدث البعض عن عملية تتألف من ثلاث مراحل، ويمكن أن تكون مساراً واقعياً للمضي قدماً. أولاً، يتعيّن على دولة اسرائيل ومواطنيها العرب أن يسعوا إلى تخفيف التوتر. اسرائيل من خلال انتهاج سياسة أفضل لدمج الأقلية الفلسطينية، واتخاذ تدابير لمعالجة أوجه التفاوت الاقتصادي والاجتماعي وإدانة التحريض ضد أقليتها العربية، والأخيرة من خلال تجنب اللغة التحريضية والاعتراف بصلة اليهود بأرض إسرائيل/ فلسطين التاريخية. ثانياً، يجب على الإسرائيليين اليهود والإسرائيليين العرب، من خلال حركتهم الوطنية، إجراء مداولات متوازية داخلية حول طبيعة دولة إسرائيل، ومن ثم عقد المناقشات مع بعضهم البعض للإجابة عن أسئلة أساسية بشأن طبيعة الدولة وحقوق الأقلية. ووفق أحد الخيارات المحتملة يعترف الفلسطينيون باليهود كأغلبية قومية في إسرائيل، لديها الحق في تقرير مصيرها مقابل اعتراف الدولة رسمياً بمواطنيها الفلسطينيين، كأقلية قومية تتمتع بحقوق فردية وجماعية محددة ومتساوية. وأخيراً، وفي سياق حل الدولتين، فإنّ على الإسرائيليين اليهود والعرب أن يتوصلوا إلى صيغة توافقية بشأن الحقوق والواجبات لكل جماعة، وكيفية تحقيق التوازن بينهما. مما لا شك فيه أنّ التوصل إلى حل يرضي اليهود والعرب غاية يصعب بلوغها، وخاصة بالنظر إلى وفرة الأمور التي يمكن أن تحول دون ذلك، ولا سيما في ظل تلاشي احتمال التوصل إلى تسوية على أساس الدولتين نفسها، لكن بعد عقد من الزمن تدهورت خلاله العلاقات بين اسرائيل والفلسطينيين، وبين العرب واليهود، هل يمكن لعاقل أن يتصور أنّّ ثمة حلاً أسهل أو أسرع؟
* مدير مشروع فلسطين/إسرائيل
في مجموعة الأزمات الدولية