المافيا هي ربما ما انتهت اليه الدولة العميقة في مصر. تسأل ببساطة: هل هي دولة عميقة؟ وتسأل أيضاً: هل تحارب الثورة أم تحارب من أجل أن تعيد الثورة تنشيطها؟ الدولة العميقة هي مؤسسات غير مرئية، تدير الدولة من الأسفل، بعيداً عن سلطات الرئيس او الحكومة او البرلمان.
استخدمت كثيراً تعبير دولة الكهنة، الذين يديرون الدولة من غرف مغلقة، وخلف ستائر سوداء… لا نعرفهم ولا نراهم وهم الذين كانوا يختارون الرئيس ويصححون مساره، ويدافعون عنه عندما تدفعه الحاشية الى الفشل.

هل دولة الكهنة هي الدولة العميقة؟ المصطلح له اصل في السياسة والتاريخ خاص بالدولة التركية، ويقصد به حسب ما يرد مثلاً في موسوعة ويكيبيديا: «مجموعة من التحالفات النافذة والمناهضة للديموقراطية داخل النظام السياسي التركي، وتتكوّن من عناصر رفيعي المستوى داخل أجهزة الاستخبارات (المحلية والأجنبية)، والقوات المسلحة التركية والأمن والقضاء والمافيا».
الدولة العميقة في مصر بلا أيديولوجيا مثل مثيلتها التركية، لكنّها تدافع في مصر عن استمرار ما يعتقدون أنّه «الدولة». وهو تعبير غامض يُشحن عاطفياً بتعابير مثل «هيبة الدولة»، لصنع حالة من حالات الغموض الباحث عن كيان يحقق مصالح مجموعات متناثرة تحكم مؤسسات /إقطاعيات أقيمت في ظل السعي الى بناء دولة حديثة، لكن ليست حديثة، ولا مكتملة، وتحت الإنشاء، وفي الانتظار وتحت الخطر.
الدولة من وجهة نظر الكهنة لها شكل واحد وبنية واحدة. يتغيّر هوى الدولة حسب الرئيس، وتتلون حسب المناخ السائد، لكنّها تعبر عن مصالح خفية ترى نفسها «الدولة» وما عداها هو مؤامرة ومخطط يهدف إلى إسقاط الدولة. الدولة العميقة في مصر تعمل في ظل عقيدة تقول إنّ مصر «مستهدفة» او «في خطر دائم». وهذا ما يبرر وجود مجموعة او شبكة سرية تحمي هذه الدولة. وهي بالفعل بعد فترة تتحوّل الى مجموعات وشبكات، لا إلى مجموعة واحدة تعمل معاً او وفق أجندات خاصة.
لهذه المجموعة رأس ظاهر على السطح من خلال مسؤولين وسياسيين (ليس شرطاً ان يكونوا في احزاب السلطة) وصحافيين واعلاميين وغيرهم من عناصر مزروعين في مناطق مؤثرة. هذه هي القوة السياسية، ولها ميليشيات ظهرت في العباسية ومن قبلها في ماسبيرو ومحمد محمود وحتى بورسعيد.
هذه الميليشيات توظف وتدير فرق شبه عسكرية ومسلحة، يقودها عناصر من القوات النظامية، وتضم مجموعات من البلطجية (وهي شبكة يديرها في كل قسم ضابط مباحث ويحقق عبرها السيطرة على منطقته) والمسجلين خطر والأشقياء (التعبير الحديث عن الفتوّات). وأضيف هنا، وحسب شهادة قرأتها على فايسبوك تحت عنوان: «من يهرق الدم في العباسية»، معلومات أخرى. اسم كاتب الشهادة: الغريب ملكة. وهي محاولة «لرسم صورة تبين حقيقة تلك الميليشيا، اعتمدت على تقصي نوعية هؤلاء المهاجمين، وما كتب من دراسات واصفة لتصنيفاتهم وطبيعتهم، وكذلك شهادات وردت عن تعبئتهم لهذا الغرض السياسي في الأحداث التي تكررت منذ بدايات ثورة الخامس والعشرين من يناير. وكذلك تستند إلى أقوال خبراء أمنيين سابقين حول هذه الميليشيا وكيف تتحرك...». ترصد الشهادة أربعة مستويات للميليشيا:
أولاً، العناصر المعتقلون عسكرياً داخل السجن الحربي. وتشير دلائل الى احتمال أن يجري إغواء هؤلاء بالخروج والإعفاء من الجريمة في مقابل مهمّات مهاجمة المعتصمين. ويجري اختيار العناصر المدربين من بينهم، وخصوصاً على الأسلحة الصاعقة والعمليات الخاصة، ممن يمكن الوثوق بهم للقيام بالمهمّات الأشد خطورة، التي تشمل القتل. وهؤلاء يمثّلون النوعية الأكثر خطورة والأقل عدداً بين من يهاجمون المعتصمين، ويعملون مع مجموعة ضباط ميدانيين متخفين للقيادة والسيطرة على هؤلاء العناصر، وضبط حركتهم وأماكن الهجوم ومستواه وتوقيته.
ثانياً، الصف الثاني من مهاجمي الاعتصامات هم قطيع كبير من عناصر خطرين يعبئهم الأمن الوطني والمباحث العامة من العشوائيات والأحياء الشعبية القريبة. وهم العناصر أنفسهم الذين جرى تسليحهم (بعد استئمانهم) ومُنحوا سلاح أقسام الشرطة الذي قيل إنّه سرق أثناء أعمال اقتحام الأقسام خلال جمعة 28 كانون الثاني/ يناير 2011. وكان العناصر قد حلوا محل اللجان الشعبية الطبيعية بحكم تسلحهم وتفرغ أغلبهم، حتى اشتكى الناس من ممارساتهم وأتاواتهم، إلى أن حُلّت اللجان ومُنعت بقرار من المجلس العسكري مع انفلاتها من عقال السيطرة. سعى بعضها إلى الاستقلال عن شبكات التوجيه، وجرت استعراضات اعلامية للقبض على هؤلاء، وروّج إعلامياً لأسطورة البعض منهم لتثبت قدرة الداخلية ويقظتها.
ثالثاً، يكتمل مشهد بلطجية الداخلية، بمن يسمون المسجَّلين «خطر»، وهم الفئة الأوسع، وخلاف من يُعرفون بالبلطجية (المرتزقين من العنف، والمستأجَرين لممارسته)، لكن الإعلام دمج الجميع تحت بند «بلطجية». ولعل مبرر ذلك أنّهم في أعمالهم ذات التوجه السياسي، فإنّ المأجورين من أجل ممارسة العنف المسجلين «خطر» يمثّلون تنويعة تضم أصحاب السوابق الإجرامية كهجّامي المنازل، وقاطعي الطرق، ومروجي المخدرات، والسارقين. وبوضعهم داخل هذا السجل، يصبحون رهناً لنظام رسمي للمراقبة. وعادة ما يلزمون بمعاودة ضابط المباحث المكلف بالمراقبة عليهم خلال فترات قصيرة. ويمثل ضابط المباحث المكلف بمراقبة هؤلاء العناصر الخطرين مركزاً من مراكز الشبكة الكبيرة (الميليشيا)، لما له من ميزة معرفة طبيعة كل مجرم من المنضوين في شبكته، ولكونه يملك سلطاناً يمكّنه من تهديد العنصر الخطر، وإجباره على أداء أعمال بعينها لصالحه، كالمراقبة (ناضورجي) والإرشاد (تقديم التقارير الشفهية عن أعمال الإجرام المتوقعة)، بل والقيام بأعمال خارج نطاق القانون لصالح الضابط. ويرضخ عادة هذا العنصر الخطر مخافة إعادته إلى السجن معتقلاً، أو ملفّقاً له تهمة.
رابعاً، تضاف إلى ما سبق شبكة المشبوهين، وهؤلاء ليسوا بلطجية أو أصحاب سوابق من المسجلين «خطر»، بل هم عناصر يروّجون حولهم سمعة الإجرام، دون إثبات ذلك بحكم قضائي. وعادة يسعى المبتدئون منهم إلى ترويج سمعة الإجرام عن أنفسهم بحمل كنية غريبة (اسم تصييت)، من عيّنة «بسكوتة»، أي الشاب الذي جرى تصويره يطلق الخرطوش على معتصمي العباسية، و«حموقه»، و«بزازة»، و«فرخة»، وغيرها. وهؤلاء جميعاً يخضعون للمراقبة من قبل المباحث العامة كنوع من الأمن الوقائي. لذا توجد لهم ملفات، باعتبارهم مجرمين محتملين. وهؤلاء ظلوا من العناصر المفضلين خلال فترة الانتخابات لسهولة التحكم فيهم. وتمثلت أدوارهم داخل الميليشيا الموجهة ضد المعتصمين في القيام بشحن أهالي المناطق المجاورة، وإثارتهم وتحفيزهم على المشاركة في قمع الثوار، وأحياناً على ممارسة ما من شأنه إخافة السكان من وجود الاعتصامات او مرور المسيرات في جيرتهم.
تبقى هنا في الشهادة إشارة مهمة الى أنه عبر ميليشيات مماثلة ارتكب البشير جرائمه في السودان، وهي عصابات معروفة باسم «الجنجويد»، وهذا ما تكرر مع شبيحة بشار الأسد في سوريا. وترى الشهادة أنّ اللجوء إلى الميليشيات شبه العسكرية التي تلبس الزي المدني لا يعني تمرير أكذوبة أنّ هناك أهاليَ يضربون أهالي، وأنّ مؤيدي الاعتصام ورافضوه يشتبكون وينجم عن ذلك ضحايا. هي ممارسة معروفة للتغلب على المعوقات القانونية والإجرائية التي تحكم المؤسسات النظامية الأمنية، وتحريك عناصر غير محسوبين أو موظفين رسمياً لدى تلك المؤسسات، يسعى صاحبها لأن يتنصل من المسؤولية.
الميليشيات تترك رسالتها على أجساد الضحايا. لا تخفي وحشيتها فهي إعلان وجودها، كما أنّ الاستعراضات العسكرية او الكمائن الأمنية اعلان عن وجود القوات النظامية التي تبدو الخطوة الأخيرة في استعراضات الوجود. هكذا تتماهى المهمات والأداء بين الميليشيا والقوة النظامية لحماية دولة عميقة تحولت الى مافيا محلية.



الميليشيات الراقصة

الدولة في خطر... هيبتها على المحك. كسر الثوار المقدسات، واللعب يتحول الى مقامرة. ستطبق الخطة القديمة بدس العناصر المعتادة لتوريط الاعتصام في المواجهة العنيفة، لكنّها مواجهة على أعتاب مكان يقع في دائرة الخطوط الحمراء الثقيلة، وهذا يعني أنّه رغم الانتصار في فضّ الاعتصام، اخترق الثوار القداسة العسكرية، وقطعوا الخطوط الحمراء، ووصلوا الى مركز الدولة العميقة. يمكننا إذاً أن نتخيل موقع المجلس العسكري في هذه التركيبة الغامضة التي تحكم مصر، وهناك تكشف على ارض الواقع جزءاً آخر من صورة الدولة العميقة في عملية فض اعتصام وزارة الدفاع، إذ استكملت القوة النظامية ما قد بدأته فعلاً الميليشيات.
وليس ذلك فقط، فقد خرجت القوات النظامية عن وقارها المفروض بالدستور والقانون وكافة مواثيق الدولة، لتتصرف كأنّها ميليشيا احتلال وليست جيش دولة. كيف يمكن تفسير مشهد رقص الجنود في الشارع بعد فض الاعتصام؟
المشهد ليس جديداً، إذ تتكشف من بداية الثورة نزعة الى اخلاق الميليشيا: في احداث مجلس الوزراء يبوّل عساكر على المعتصمين العزل، وفي احداث شارع محمد محمود ألقوا بجثث المعتصمين في اكوام القمامة، وامام وزارة الدفاع رقص الجنود على الدم الذي لم يجف بعد.
الرقص على الدم ليس من قيم جيوش محترمة ينتمي جنودها الى الناس أنفسهم الذين سالت دماؤهم. ويعني ذلك أولاً أنّ هؤلاء الجنود خارج السيطرة، وأنّ العقل المسيطر على القيادات يميل الى بيروقراطية لا تفهم معنى رقص الجنود في الشوارع، احتفالاً بترويع المعتصمين العزّل. والمعنى الثاني من رقصة الجنود انّهم تعرضوا لعملية غسل دماغ وتربية نفسية تصوّر لهم انّ كل متظاهر او معتصم عدو.
والمعنى الأكبر، أنّ تحويل جنود الجيش إلى ميليشيا هو علامة أخرى من علامات انحطاط دولة الاستبداد، بواجهتها الفرعونية، وأجهزتها العميقة.
هذه الدولة العميقة تخلصت من مبارك، لكنّها تشبهه، فهو صاحب عصور الانحطاط التي تحوّلت فيها مصر الى مقبرة كلّ أفكار الانسانية وقيمها. لم يتوقع المنتصر في المجلس العسكري ان يرقص الجنود في الشوارع، ولا ان يتركوا لبلطجية يحملون السيوف أن يتصوروا بجوار المدرعات. لم يتوقع ان تلتقط العدسات جنود الجيش المحترم وهم يشيرون بأصابعم الوسطى للمعتصمين، ويحملون احجاراً ضخمة لقتل المتظاهرين بها. لم يتوقع او يتعمد ان يكشف الواقع عن شراسة ووقاحة القوة في مواجهة الثورة التي تهدد لأول مرة مركز الثقل في دولة الاستبداد.
لم تكن هذه القوات تدافع عن قدسية وزارة الدفاع ولا عن هيبة الدولة، لأنّ التظاهرات وصلت الوزارة أكثر من أربع مرات قبل ذلك. لكن الهدف هو سحب حق التظاهر أو تفريغ قوة ضغط الشارع من معناها أو من حماية الناس لها.
الغريب انّ خطة الشيطنة واحدة، من الاقباط في ماسبيرو الى السلفيين في العباسية، وانتهت نهاية واحدة من خلال نشر مشاعر الخوف من شريحة يمكن معرفتها او التقاطها عبر ملامح او علامات ظاهرة: وشم الصليب عند الاقباط، واللحية عند السلفيين. ذلك رغم أنّ الاقباط لم يكونوا وحدهم في ماسبيرو، ولا السلفيين الذين استمروا في الاعتصام هم الحازمون، الا انّ خطة الشيطنة تقتضي بصنع الفزع في المنطقة المحيطة من هجوم خارجي عليها. وهذه الشيطنة توقظ غريزة الدفاع لدى شخص يجد نفسه يجمع كلّ قوته ليدافع عن «مساحته»، بما يعني ذلك من رفض التغيير والحرب من اجل استمرار حياته كما كانت تسير. هو دفاع عن البرنامج اليومي مقابل ثورة تغيّر التاريخ. الخطة توقظ هذه الغريزة لتوقف روح الثورة من التجول. روح الثورة التي غيّرت المعتصمين وأخرجت مشايخهم وقادتهم السابقين من القواقع وجعلتهم كتلة متفجرة لا تستمع لأحد وتسير الى حلمها بكل الامل واليأس مجتمعين.
هذه الثورة التي لم تبق كبيراً بالمعنى القديم، لا عند التيارات المدنية ولا الجديدة، فيما لدى شريحة من السلفيين توسعت الفجوة بينها وبين قادتها الى درجة مدهشة.
الميليشيات الراقصة دليل جديد على خلل في الدولة التي لا يعرف جيشها انّ مهمته حماية المتظاهرين لا قتلهم، وضمان حق الاحتجاج لا نشر شائعات او دس عناصر تدفع الاحداث باتجاه صدام مجاني.
لا تملك الدولة العميقة في حربها الشرسة خطاباً مقنعاً للناس إلا تخويفهم على حياتهم اليومية وارزاقهم، وتحويلهم الى أداة في يد ميليشيات لا تفرق بين احد، فقتلت المسيحي والمسلم، الليبرالي والسلفي، اليميني واليساري، الثوري والمتفرج من بعيد. لم تفرق ميليشيا الدولة العميقة بين المصريين، ورقصت على كل جثة قتلتها، بينما تمتلئ اعين قادتها واعلامها بدموع التماسيح.



الثورة في الأواني القديمة



انتصر الملك وانتصرت الميليشيات. سافر وفد برعاية عمر سليمان ودعم مالي من رئيس حزب الوفد السيّد البدوي وقيادة سياسية لرئيس مجلس الشعب سعد الكتاتني، ونظيره في الشورى احمد فهمي، إلى الرياض. الثوار سموه وفد العار، لكنّه بدا محاولة لكسر الافق الجديد الذي فتحته الثورة امام بناء واقع جديد، تتغيّر فيه مسارات العلاقات. علاقات يعاد ترتيبها على خلفيات ترى الحكمة في القبول بقواعد العبودية الحديثة مع ضمان بعض الحنان الخاص، طالما كان النظامان في علاقة التوأمة المسيطرة على العالم العربي، وطالما حكم العلاقة قانون غير معلن يقصي الكرامة والندية في غلاف أنيق اسمه الواقعية.
لم يقابل الوفد المسجون المصري أحمد الجيزاوي، فقد كان الهدف الاعتذار ليبدو الغاضبون امام السفارة مجرد قلّة لا تعبر سوى عن مصالح من يحركها، كما قال السفير السعودي في القاهرة. الوفد هو خليط من القوى المحافظة (بقايا مجال مبارك السياسي والقوى التي دخلت بعد الثورة واندمجت سريعاً في توليفة الواقعية السائدة).
وكما ابتسم الوفد امام الكاميرات، رقص الجنود بعد فض اعتصام وزارة الدفاع بالقوة. رقص الجنود في الشارع وعلى انغام اغاني البوب الوطنية، وعاد المتظاهرون الى بيوتهم بعلامات وجروح غائرة من حرب النظام القديم دفاعاً عن نفسه.
هل عاد البلد لهم؟ هل انتصروا بما يليق برقصة الجنود في الشوارع والتقاط الصور التذكارية مع سيوف البلطجية؟ هل رجع زمانهم وسيحكمون مصر كما حكموها ٦٠ سنة؟ هل سيسحبون من المصريين بسالتهم وشجاعتهم وقدرتهم على الدفاع عن احلامهم الى حد الاستهانة بالموت؟ هل سيحاصرون حق التظاهر او الغضب او الاحتجاج او كل ما يسمح بوجود الناس كقوة في الشارع؟ أسأل نفسي لأرى المشهد الذي كان بالتأكيد عبثياً.
المشهد يواصل عبثيته مع حكماء يريدون تسكين الاوضاع، او يحلمون بأن تتسع الاواني القديمة للقوة الجديدة. ويعني ذلك اما انّ معجزة حدثت واتسعت الاواني، او ستقع كارثة وتذوب القوة الجديدة.
لا المعجزة ستحدث ليستطيع النظام القديم العودة الى الحياة واستيعاب ما حدث، ولا الكارثة اكتملت لأنّ القوة لا تزال فاعلة وتتبلور اشكالها بعد كلّ معركة ويتكون وعيها في كل مواجهة.
هل يعني ذلك أنّ الثورة انتصرت؟ أم أنّ المعركة حسمت وما هي الا ايام او أشهر وتحسم النتيجة؟ بالعكس، يعني ذلك انّ الثورة عادت الى معناها الكبير. مغامرة تزيل السكون، وتغيّر المسارات التي تبدو من طول استمرارها انّها قدر، لتفتح المجال على أمر جديد تماماً، لا احد يستطيع مهما بلغت حكمته وامتلاكه قياسات دقيقة لحركة التاريخ والسياسة، ان يعرف ما ستنتهي اليه هذه المغامرة.
وهذا بالضبط ما يلعب عليه سلاح الحرب النفسية في النظام القديم، فهو لا يفعل سوى ايقاظ الرغبة في الاستقرار، وفي عودة المصريين الى حياتهم اليومية. ذلك رغم انّ هذه الحياة اليومية نفسها نتاج الاستسلام لنظام الاستبداد والفساد، وهو ما كان سبباً او محركاً لثورة لم يكن هدفها نظاماً ورئيساً، بقدر ما كان هدفها اكتشاف امكانية حياة اكثر سعادة وبهجة من الحياة التي يتحايل المصريون ليجدوا في ظل ثقلها وضراوتها السعادة والبهجة.
عبرت مصر فجوة زمنية كبيرة، تجعل المسافة بيننا وبين النظام القديم بعيدة جداً. نتذكر مبارك كما لو كان موجوداً من عشرات السنين، وننتقل عاطفياً ونفسياً وسياسياً كل يوم آلاف الخطوات.
الثورة حطمت السبيكة التي عاش المصريون محشورين داخلها، وخرجت من هذا الحطام قوة اجيال لا تريد الحياة كما عاشتها اجيال رتبت اوضاعها مع الديناصور الكبير، وعاشت في ظله.
هذه القوة لن تختفي لأنّ لديها ما تدافع عنه، ولا تهاب حتى من الموت. أقرأ تعليقات الشهداء قبل ذهابهم الى الموت، وتدهشني هذه الشجاعة التي دخلت في التكوين النفسي والسياسي، وتعمقت رغم عمر الثورة القصير. اين ستذهب هذه الشجاعة؟
هل تموت مع صاحبها؟ من اين تأتي هذه الاعداد الجديدة الخارجة عن كل الكيانات المغلقة لتدافع عن حلم اكبر من هذه الكيانات واقوى من الوحش الذي يقتل ويحرق وينشر فزعه في كل شارع وحارة؟
الوحش يفقد اسطورته رغم انتصاره. لم يعد لديه سوى فرق مذيعين ومحللين يروجون لبضاعة فاسدة بكل ما اوتوا من غناء مبتذل عن هيبة الدولة والفوضويين الذين ينشرون الفزع في المدينة الآمنة. غناء مبتذل لمن لم يعد الابتذال ينفعه، ولا الغناء سيجعل وجهه الكريه ملاحة صناعية.
اللواء تسوّل في المؤتمر تصفيق صحافيين يعملون لديه، وضابط آخر قتل جندياً رفض قتل اخوته وجيرانه من المتظاهرين. وهم لا يزالون يلعقون جثة الوحش ليحمسوه على قتل المتمردين وانهاء المغامرة. والوحش في داخله يدرك انّ زمانه انتهى. وهو ما يدركه ايضاً كل الكومبارس الذين منحوا للوحش متعته في المصارعة السياسية: من الاخوان الى المشايخ، وصولاً الى اصحاب الدكاكين الحزبية. رغم هذا الادراك، لا يزال الوحش والكومبارس، وجمهورهم الخائف على حياته اليومية، يحاولان العودة الى الزمن القديم، فيذهب وفد ليعتذر من ملك السعودية، وتضرب ميليشيات القبعات الحمراء اعتصام العباسية، وكلاهما لا هدف له الا اخماد جمرة الثورة على اخلاق العبيد.
وفد الاعتذار وهجمة الميليشيات يلتقيان في محاولة حصار روح الثورة التي تثبت انها لا تزال على قيد الحياة، رغم كل محاولات دفنها حية او تحويلها كعكة على مائدة
اللئام.