تنظر الدوائر الغربية والإقليمية بكثير من القلق الى نتائج الصراع على رأس السلطة في مصر، كون الوضع السياسي الذي سيستجدّ في أرض الكنانة سيكون محدداً بالنسبة إلى الدول العربية التي دخلت في مسار تغيير النظام. الأسئلة كثيرة في هذا الصدد، والقلق شديد، وكذلك التدخلات الخارجية التي وإن لبست اللبوس المحلي، إلا أنّها تخفي في طيّاتها دعماً إقليمياً ودولياً، يرى في فوز مرشحه فوزاً لسياساته في المنطقة، إذ إنّ الصراع على أشده بين قطر، الداعم الرئيسي للإخوان المسلمين، والسعودية، المستثمر في مصر والداعم لمعظم التنظيمات السلفية، والولايات المتحدة الداعم الاقتصادي الأساسي للعسكر، والتي تحاور الإخوان وتعتبر عمرو موسى حليفاً. أما تركيا، فهي ترى في فوز الإخوان بداية صراع بين أركان الجماعة على حسم مسائل، أهمها العلاقة مع الجيش والعلاقة مع الديموقراطية والدولة المدنية، وتراهن على وجه الشبه بينها وبين مصر في صراع العسكر مع الإسلاميين، وتحلم بعلاقات اقتصادية وسياسية مستقبلية مع القاهرة.في خضم هذه المعطيات، تتطلع إيران الى موازين القوى المصرية بحذر شديد، وتطمح الى علاقات متوازنة مع الإخوان، بوصلتها الإسلام والتنمية، وحتماً فلسطين. كما تراهن على حراك إسلامي، وعلى انشقاقات يمكنها أن تحسم التوجه السياسي لهذه الجماعات، ولا سيما أنّ الفائز في الانتخابات الرئاسية سيرسم مسار المستقبل، بإشرافه على صياغة الدستور، وتحديد وضع الحكام العسكريين الحاليين، وتشكيل العلاقات مع الأقلية المسيحية في مصر، ومع الغرب وإسرائيل، والدول العربية والإقليمية المجاورة.

المجلس العسكري وتطورات العلاقة مع الإخوان

لم يتخلّ المجلس العسكري عن مبارك إلا حين أدرك أنّ المحتجّين لن يستسلموا للقوة، ولا سيما أنّهم كانوا متخوّفين من هدف الجماعة، وهو الدولة الإسلامية، على الرغم من تأكيد الجماعة تبنّيها للديموقراطية. لقد وعدت الجماعة، لنحو عام، بعدم تقديم مرشح للرئاسة، وبدا ذلك لطمأنة النخبة السياسية بأنّها لا تنوي الهيمنة على السلطة. لكن السبب الحقيقي كان اتفاقاً مع المجلس العسكري لاقتسام السلطة: ملفات السياسة المحلية ورئاسة الوزراء للجماعة، والأمن والسياسة الخارجية للمجلس، عن طريق رئيس ضعيف ومتعاون.
بقيت استراتيجية الجماعة تقوم على تجنب الصراع مع العسكر ومهادنته، لكنّها تراجعت عن وعدها، فهي الآن أكثر ثقة بشعبيّتها، وأكثر قلقاً من المجلس. فلقد قرر قادة الجماعة في النهاية أن تشارك في سباق الرئاسة، إذ ليس هناك دستور جديد، ولا ضمانات لهذا التعايش بين هذين المتنافسين الطبيعيين. وأصبح هذا التحول بشكل خاص بادياً للعيان في الأسابيع الماضية، عندما اختلفت مصالحهما. فالأسئلة المطروحة اليوم هي حول محاولة العسكر بناء نظام سياسي يحمي مكتسباتهم الاقتصادية المتسعة ويضمن للجيش دوراً سياسياً.
أيقنت الجماعة أنّ المجلس العسكري شجع سليمان على الترشح، ثم أوقف ترشحه بواسطة قرار لجنة انتخابات الرئاسة ليبدو بمظهر متوازن. أما هدفهم الحقيقي فكان استبعاد الإخواني خيرت الشاطر والسلفي حازم أبو إسماعيل. كان المجلس يعلم أنّ حظوظ عمر سليمان ضئيلة، ولم يكن ممكناً أن يحقق الفوز. تقوم فكرة المجلس العسكري على تفتيت الأصوات بين المرشحين، بحيث لا يحرز أحد فوزاً حاسماً، وأن يفوز عمرو موسى الليبرالي في جولة الإعادة ـــ وهي نتيجة أفضل بكثير لمصالحه من فوز مرشح إسلامي، وعلى الأخص في ظل هيمنة الإسلاميين على البرلمان. لقد صب قرار القضاء بتعليق عمل الجمعية التأسيسية للدستور ضمن هذا الإطار، وهو جزء من هذه السياسة، والتساؤل الأساسي يدور حول من قرر استبعاد مرشحين بارزين للرئاسة، وعمن أنهى عمل جمعية صياغة الدستور، التي شكلها البرلمان المنتخب عبر انتخابات حرة.
يعتقد البعض أنّ قرار لجنة الانتخابات باستبعاد الشاطر وأبو إسماعيل وعمر سليمان سيحقق المصلحة الوطنية، في ظل معارضة شديدة لترشح الإسلاميين من قبل المثقفين، وقوى سياسية ترى أنّ من الضروري وجود رئيس غير منتمٍ إلى التيارات الإسلامية. إلا أنّ القرار يوجه ضربة للإسلاميين وأعدائهم القدامى على حد سواء، «ويعني غياب التحيّز لجانب أو لآخر، وسيراه معظم المصريين كحلاً»، حسب رأي أحد الخبراء في الشؤون الإسلامية (وهو ضياء رشوان).
يبقى من المرشحين الأقوياء عبد المنعم أبو الفتوح الإسلامي، وهو الأكثر انفتاحاً وقيادي سابق في الإخوان، والمرشح الاحتياطي لخيرت الشاطر، محمد مرسي، رئيس حزب الحرية والعدالة الذي أسسته الجماعة. وعلى الجانب الآخر ومن بين المسؤولين السابقين، يظل عمرو موسى متقدماً. ويزيد من صعوبات معركة الرئاسة، الخلاف بين الأغلبية البرلمانية الإسلامية والأقلية الليبرالية حول الدستور، وخلاف الأولى مع الحكم العسكري حول الحق في تشكيل حكومة جديدة. هل ستنتهي فترة الوفاق بين المجلس والجماعة؟ وهل مشاركة آخرين من اتجاهات سياسية أخرى، في ظل اعتقاد سائد بأنّ المجلس العسكري اختطف العملية السياسية، ستعدل من موقف العسكر وتقودهم الى مهادنة الإخوان؟

ميدان التحرير مسرحاً للرد السياسي

لماذا توجهت القوى الإسلامية إلى الشارع بعد خلافها مع المجلس العسكري في 20 نيسان الماضي وارتدت عباءة الثورة؟ هل لوضع المزيد من الضغوط على الدولة من خلال قدرتها التعبوية؟ لا شك أنّ للتيار الإسلامي حساباته للرد على أي محاولات لإقصائه عن عملية صناعة القرار، لذا يستعمل الميدان لاستعادة شرعيته بعد كل خلاف مع المجلس العسكري، ولا سيما عندما زاد الخلاف بين التيار الإسلامي والمجلس العسكري بعد التلويح بحل البرلمان، ورفض إقالة الحكومة. فالإخوان مستعدون لاستعمال ميدان التحرير لإركاع المجلس العسكري، أو على الاقل لردعه عند تطبيق قوانين دون علمه. الحذر وعدم الثقة يتحكمان بالمشهد بين العسكر والإخوان، وما الميدان بالنسبة إلى التيار سوى فسحة للاعتراض والضغط التي اكتسبتها الجماهير إثر الثورة، ونالت شرعيّة يلوّحون بها منذ ذلك الوقت كمطيّة للضغط والكسب في لعبة السلطة. إذ يسعى التيار الإسلامي في النهاية إلى قرار من المجلس العسكري يرعى مصالحه ولا يهددها، كما حدث إثر التدخل في تشكيل لجنة الدستور، والحفاظ على البرلمان الحالي الذي أكد التيار الإسلامي أنّ الشرعية له. كما أنّ حسابات الانتخابات الرئاسية اليوم هي التي تتحكم بحركته.

الميدان بين التيارات الإسلامية والمدنية

وقف الشعب المصري في كانون الثاني/ يناير 2011 يداً واحدة ضد حكم حسني مبارك، لكن ليس من أجل استبداله بحكم العسكر. ووقف الشعب في 20 كانون الثاني/ يناير 2012، من أجل وقف قمع الحريات والتلاعب بالقوانين ولوضع الأمور في نصابها ورفض كل رموز النظام البائد ومحاسبة مسؤوليه على أساس بناء دولة مصرية ديموقراطية، تقوم على النزاهة والشفافية، وإعداد لجنة لصياغة الدستور وإلغاء المحاكمات العسكرية وتسليم السلطة للمدنيين عبر إنهاء حكم العسكر. لقد اجتمعت جميع التيارات الإسلامية مع التيارات الليبرالية واليسارية والقومية على أرضية مشتركة، من أجل هذه الأهداف. تحشد القوى المدنية الجماهير في الميدان من أجل رفع الوعي والحفاظ على الروح الثورية في الشارع، لرفض شرعية المجلس العسكري وتعجيل الانتهاء من الفترة الانتقالية والتذكير بأهداف الثورة. ورغم الاختلافات بين تلك القوى، إلا أنّها جميعاً تنتقد انتهازية الإخوان وبعض التيارات الإسلامية، منذ بداية الثورة، وكيفية تعاطيها مع الحدث الثوري واستغلالها اللحظة للصعود الى منصة السلطة، لكن التيار الإسلامي هو تيار مؤسسي ناجز، لا يمكنه سوى اقتناص الفرصة السانحة التي انتظرها منذ 1954، تاريخ بدء الصراع مع عبد الناصر والعسكر. هو لا يريد العودة الى تلك الحقبة، فهادن السلطات المتعاقبة من أجل الحفاظ على رأسه، ويحاول اليوم عبر حشده الجماهيري وقوته الشعبية واستعانته بشعارات يلتقي والقوى المدنية عليها استثمار هذا التحرك في صراعه مع العسكر.
تصب موازين القوى في مصلحة التيار الإسلامي والتحالف السلفي/ الإخواني الذي يرنو الى الضغط على المجلس العسكري والحصول على المكتسبات. تضع المعركة الانتخابية أوزارها وتخلط الأوراق وتبقى القوى المؤسسية (العسكر والإخوان) هي التي تتحكم بالساحة، وتخوض المعركة الانتخابية، إذ يتوقع ألا ينتهي الصراع هنا، بل أن يمتد الى ما بعد الانتخابات ليأخذ أشكالاً مختلفة.
* كاتبة وباحثة في علم الاجتماع السياسي