مع اندلاع التحركات في العالم العربي، كان من الطبيعي أن يتساءل كل مهتمّ عمّن يقف وراءها، ومَن سيرث الحكم بعد انتهائها. ومع تطور التحركات، وامتدادها الزمني غير المتوقع، برزت معطيات لا تعطي حلاً ولا جواباً. فلقد تبيّن أنّ التحرك لم يقم به طرف معيّن لكي يقال إنّه سيتسلم السلطة وفق استراتيجية وضعها لذاته، كما لم يقدم أي مشروع سلطوي بديل. سقطت السلطة المصرية ورئيسها حسني مبارك، وبن علي في تونس، واتجهت الأنظار إلى سوريا. لم يكن هناك قيادة واضحة للتحرك مؤهلة لتولّي زمام السلطة. برز تيار الإخوان المسلمين في مصر وتونس، ولم يظهر أنّه كان مهيّأً لتولّي المسؤولية، والمعارضة في الشارع مشتّتة، لا خطّة لها ولا استراتيجية معيّنة.إذن، مَن سيرث التحركات المسماة بالربيع العربي؟ وهل من قوى مؤهلة ومهيّأة لتحل محل السلطات القائمة؟ من البديهي أن يطرح عنوانان يمثلان تيارين يسيطران على الحياة العامة: التيار القومي بمختلف أطيافه، والتيار الإسلامي بمختلف أطيافه أيضاً. وبين التيار القومي والتيار الإسلامي حقائق ومعطيات يجب عدم تجاهلها، كي تتم الإجابة على أسئلة الراهن، والمستقبل البعيد والقريب.
تشكل التيار القومي العربي وصعد وساد حقبة طويلة، ولا يزال حاضراً في المعارك التحررية الوطنية والقومية، فكان في صدارة المواجهة لطرد الاحتلال الغربي وحقق نصراً في حرب السويس 56، ونصراً في الجزائر وآخر في اليمن، ونصراً في تشرين 73، وشارك بفاعلية في معركة تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني. كما أنّه قدم في التجارب المختلفة نماذج مقبولة عن دولة الرعاية.
واشتباكاً مع الغرب الامبريالي وأداته إسرائيل، استمرت بلاد الشام والرافدين أو ما يسمى بالعربية الشمالية تقاتل وتقاوم، ويقود مقاومتها وقتالها التيار القومي بقيادة سوريا في حقب وأنظمة مختلفة. ورغم كل ما يكال من تهم إلى سوريا من أنّ نظامها فاسد ومتعسّف، ومنخرط في التفاوض، وعاجز عن تحرير الجولان، لكنّها شكلت بيئة توليد وحماية للمقاومة في دوائر حاسمة ثلاث: فلسطين، ولبنان والعراق.
أما بخصوص التيار الإسلامي، فهو يتقدم الآن عبر جماعاته السياسية. لكن تقدمه، بنظر الكثير من المحللين، محفوف بالكثير من الضبابية والشبهة، فهو لم يخض معارك تحرر قومية وطنية واجتماعية، ما خلا من تجربة حماس في غزة، وهو بذلك مديون للتيار القومي وللمقاومات اللبنانية وإيران. وهو جاء اليوم إلى السلطة في تونس ومصر بصعود سريع، وتم لأسباب عابرة، فلقد لعب التنظيم والمال القطري والسعودي والإعلام المتمكّن، ولا سيما الفضائيات الموجهة، وضياع وتشتت التيارات الأخرى وانغلاقها ونخبويتها وفقرها التنظيمي والمالي في عدم تمكّنها من المنافسة. ويتهم بأنّه وصل إلى السلطة في ليبيا على دبابات الأطلسي، شريكاً في العدوان، وأنّه انخرط في دمار وتخلّف البلاد، فضلاً عن احتمالات الحرب الأهلية الضروس، كما بشّر رئيس مجلسه الانتقالي.
شبهات عديدة تناولت التيار الإسلامي من غيابه عن فلسطين، وغياب نموذجه الاقتصادي، وشبهة تمويل قطر وتبنيها لجماعاته، وشبهة العلاقة بالأردوغانية وارتباطها الوثيق بالمشروع الأميركي ــ الإسرائيلي، وشبهة المواقف في العراق وعلاقة التيار بالاحتلال الأميركي ودعوة إخوان سوريا إلى تدخل الأطلسي. ويأخذ كثيرون عليه أنّه تأسس وانطلق في حاضنات الغرب وأجهزته، وتربّى وتدلّل على يد نُظُم الخليج ونفطها باستثناء قلة خرجت من الإطار الرسمي، والتحقت بالجهادية فعوقبت وسجنت وأُعدمت، ولم تكن جزءاً من الجماعات الموالية للأنظمة والبلاط، لذا هم الآن مستبعدون.
أما أسباب استبعاده فكانت دور التيار القومي في إقصائه، وممارسة القمع بحقه، مما ساهم في إقفال باب السلطة أمامه، وكذلك باب الحوار معه، فأبقاه في مواجهة مفتوحة، وغيّب الحكم عليه بإمكانية إنتاجه فقهاً للحكم، ومفهوماً عصرياً للإدارة، واستنباط أحكام للمشاكل الاقتصادية والاجتماعية وآليات تفكير لعصرنة الدولة. هذا في نظرة تقليدية للأمور تفرز تساؤلاً موروثاً عمّن سيرث الربيع العربي: التيار القومي أم الإسلامي؟ لكن أن تعطى التطورات السياسية الراهنة هذا المعنى، ففيه الكثير من السذاجة والتبسيط واجترار الذات، وهو كان ممكناً في حقبة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، وفي مسار استكمال الاستراتيجيات الغربية بسط سيطرتها على مجتمعات العالم بانقلابات سياسية لتحل تياراً معيّناً محل تيار آخر، ومنها التيار الإسلامي. لكن العالم اليوم في صورة مغايرة تماماً لحقبة ما بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، إذ بدأ يتشكل قطب عالمي منذ سنوات قليلة نجح بنسبة معينة في إضعاف أحادية السيطرة العالمية ومفهوم القطب الواحد في العالم، إذ لم يعد خافياً أنّ محور دول «البريكس» ومَن يلف لفّه، الصاعد كقوة استراتيجية واقتصادية وسياسية، وضع حداً لأحادية القطب في العالم، وإن لم يصل بعد إلى مرحلة الحرب الباردة، وأكثر ما يتجلى ذلك في منع روسيا والصين لمجلس الأمن الدولي من اتخاذ قرار بحق سوريا وفق مصالح حلف الدول الغربية على غرار ما حدث في ليبيا.
بمعنى آخر، إنّ في القول إنّ محوراً عالمياً يتصاعد ويحول العالم إلى ثنائية، يعني أنّه يضع العالم على عتبة حقبة جديدة تشبه إلى حد بعيد صورة العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية. فبعد هزيمة هتلر على يد الاتحاد السوفياتي والأحلاف، خرج العالم من الحرب بحلّة جديدة فيها قطبان الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفياتي معززاً بانتصارات كبيرة شكلت نفحاً ثورياً رافضاً للهيمنة الغربية على العالم، وحرك شعوب العالم للتحرر من سيطرة الدول التي بسطت نفوذها قبل ذلك.
لقد كان لانتصار الاتحاد السوفياتي في الحرب العالمية الثانية وصعود الدولة السوفياتية بتعبئة أيديولوجية تحررية، دور كبير في إثارة حركات تحرر كانت كامنة في مجتمعاتها، فتفجرت ثورات شعبية تحررية امتدت من شرق آسيا إلى جنوب القارة الأميركية، مروراً بالشرق الأوسط. فكانت ثورات الصين (بدأت قبل الحرب العالمية الثانية وانتصرت بعدها) وفيتنام، وكمبوديا والجزائر وكوبا، وحدثت ثورات وانقلابات أوصلت إلى السلطات قوى حاملة لشعارات التغيير والثورة والتحرر.
ويدخل العالم اليوم مرحلة جديدة، لكن طابع المرحلة السياسي والأيديولوجي لا يزال ضبابياً، ورغم ذلك فهو ينتج واقعاً مستجداً قوامه محوران: حلف غربي مأزوم اقتصادياً ومهزوم في العديد من المعارك، وآخر شرقي مع امتدادات أفريقية وأميركية لاتينية تتقاطع مصالحها مع العديد من الدول، ومحوره دول «البريكس»، وهو في حالة صعود متنامية.
لا يزال من المبكر القول إنّ الحلف الصاعد سيشكل نفخاً تغييرياً ثورياً في العالم، على غرار النفخ الذي أحدثه انتصار الاتحاد السوفياتي فلم يصل واقع هذا الحلف إلى مرحلة واضحة متبلورة بعد، ولم يرفع أية شعارات تعبوية تحريضية أيديولوجية ــ ثقافية الطابع حتى الآن. لكن تعارض مصالحه مع مصالح الغرب يفرض عليه الاحتشاد والتماسك وتطوير الذات والموقف من جهة، ومن غير المستبعد أن يعد العدّة لاستراتيجية متفاعلة ومتطورة تتيح له لعب دور، ربما بتأثير متزايد. وهذا ما بدا في قمة «البريكس» الأخيرة في الهند التي أنتجت دعوة أكثر تبلوراً من قممه السابقة لاعتماد عملة عالمية غير الدولار، وبنك مغاير للبنك الدولي لتنشيط اقتصادات الدول المحتاجة، من جهة ثانية.
في خضمّ هذا الصراع، العالم في مخاض حالياً، وولادة السلطات في عالم التحركات الشعبية لا تحتاج إلى قوى قومية ولا إلى قوى إسلامية. ذلك أنّ المرحلة التي أتت بالتيار القومي في حقبة الاتحاد السوفياتي وتصاعد قوته، أفلت بأفول الاتحاد السوفياتي، والمدة الزمنية التي أتاحت للتيار القومي البقاء في السلطة هي زيادة على عمره الحقيقي. لم يعد من مركز عالمي يطرح النزعات القومية ولا نمطاً اشتراكياً، ولا نظاماً موجّهاً. بل إنّ التيار القومي استنفد دوره ويعيش على بقايا الماضي.
أما التيار الإسلامي فهو أيضاً من دون رافعة ناهضة، وطرحه بديلاً لم يأت من تحت، من المجتمعات التي يتواجد فيها، بقدر ما أتى من تبني قوى دولية له كاحتمال بديل، وهو لم يثبت قوته الجماهيرية الساحقة ــ لأسباب كثيرة ــ تؤهله تولي السلطة.
فالحد الأدنى من المناخ المحمول على أكتاف «البريكس» سيفرض دولاً نافية للّبرلة الأميركية ــ الغربية، ومكرسة في الحد الأدنى دولاً شبيهة بتراكيب دول «البريكس»، كروسيا والصين، أي دولاً مضبوطة الاقتصاد بمعايير قانونية، وهي دول رعاية اجتماعية، لكنّها تحتاج إلى بلورة لا بد سيفرزها الصراع الدائر في بعض العالم العربي، وخصوصاً، والأكثر حدّة، في سوريا حيث ساحة الأحداث الرئيسية.
* كاتب لبناني