منذ ثلاثة أسابيع تقريباً، بدأ المراقبون الدوليون عملهم في سوريا. مهمتهم التأكد من وقف أعمال العنف وتطبيق خطة المبعوث الأممي ـــ العربي، كوفي أنان، لكن العنف مستمر في بلاد الشام. القتلى يسقطون بالعشرات، وقصف الجيش النظامي يوميّ لبعض المناطق. الصور التي تنقلها وسائل الإعلام تُظهر أنّ الجيش السوري الحر لا يزال يسيطر على العديد من المناطق أو الأحياء، حتى في المدن التي هاجمتها القوات النظامية وأعلنت تحريرها من «المجموعات الإرهابية» (وفق وسائل إعلام النظام السوري).
لذلك نرى أنّ عمل المراقبين الدوليين أصبح، أو سيصبح، جزءاً من المشهد السوري العام الروتيني والمأسوي.
ومَن أكثر منا نحن اللبنانيين يمكنه ملاحظة هذا المشهد وإدراك ما سيُفضي إليه؟ ألم نشاهد العديد من فرق المراقبين في الشوارع المهدّمة من بيروت ومدن أخرى لبنانية في بداية الحرب؟ ألم تُعقد القمم العربية والدولية لوضع حد للعنف في لبنان؟ ألم تُتخذ القرارات العربية والدولية لفرض وقف النار بين المتحاربين؟ بالرغم من ذلك، شهدنا حرباً استمرت خمسة عشر عاماً. لا نتمنى ذلك في سوريا. معاذ الله. ولا ندعو إليه، بالطبع لا. لكنّنا نرى أنّ الأزمة السورية تذهب، ولو ببطء، نحو «اللبننة»، على الطريقة العراقية: صراع طائفي، وعنف مسلّح دون خطوط تماس واضحة. أعمال حربية متنقّلة بين المدن والقرى والأحياء. قصف هنا، وانفجار هناك، وخطف هنالك. كل ذلك يحصد العديد من القتلى، المقاتلون منهم والأبرياء على السواء. في الحرب اللبنانية، كان السوريون طرفاً أساسياً. تعلّموا الكثير من التجربة اللبنانية. فالبعض من معاوني الأسد الأب لا يزالون في السلطة. وسمعنا في بداية الأزمة (لم نتأكد من ذلك) أنّ الأسد الابن استدعى عدداً آخر لاستشارتهم في كيفية مواجهة الأزمة ـــ الثورة. هؤلاء محنّكون في المناورات السياسية مع القمم العربية والدولية، وخبراء في التهرّب من تطبيق القرارات الدولية. ولكن أظهرت الأحداث منذ سنة ونيّف أنّ هؤلاء لم يتعلّموا «الأمثولة الأساس» من الحرب اللبنانية المدمّرة، ومفادها أنّ الصراع الداخلي لا يؤدي إلا الى دمار وخراب الوطن على رؤوس الجميع، وأنّه لا غالب ولا مغلوب في صراع «الإخوة في الوطن». فأبناء البلد الواحد، على اختلاف أديانهم وطوائفهم وإثنياتهم، محكومون أولاً وأخيراً بالعيش المشترك. وبالتالي، بعد «السنوات الآتية» من التقاتل (نتمنى أن نكون مخطئين) وسقوط الآلاف من القتلى سوف يضطرّ السوريون إلى الجلوس الى طاولة مفاوضات إقليمية أو دولية، للاتفاق على صيغة سياسية لتقاسم السلطة وإنهاء العنف. إنّهم يرفضونها اليوم، لكنّهم سوف يُجبرون عليها بعد أن يتعبوا من القتال الداخلي. سوف يضطرون إلى التوقيع على «طائف» سوري، ربما يصبح في ما بعد الدستور الجديد للبلاد.
ربّ قائل بأنّ الجغرافيا والديموغرافيا السوريتين أكبر من تلك اللبنانية. وحتى الأمس القريب، كانت سوريا لاعباً أساسياً على الساحة الإقليمية، وبالتالي لن تكون ساحة صراع على الطريقة اللبنانية. ولكن، ألم يكن العراق قوة سياسية وعسكرية إقليمية؟ ألم يتحوّل، بعد سقوط نظام البعث، إلى ساحة صراع بالرغم من جغرافيته وديموغرافيته وثرواته الاقتصادية التي يفوق بها
سوريا؟
إنّ الجغرافيا والديموغرافيا هما عاملان أساسيان في قوة الدولة إذا ما كانا موحدين في سلطة سياسية. لكن الجغرافيا السورية اليوم مقسّمة بين مناطق موالية للنظام، وأخرى خارجة عنه. حتى إن بعض المصادر تقول إنّ 39% من أراضي سوريا هي اليوم خارج سيطرة النظام. أما الديموغرافيا فحدّث ولا حرج، فهي ليست مقسّمة فقط بين موالٍ ومعارض، بل مقسّمة أيضاً طائفياً وإثنياً، ليبرالياً وإسلامياً...
الأمثولة الثانية التي لم يتعلّمها السوريون ـــ النظام والمعارضة ـــ من الحرب اللبنانية أنّ التعريب والتدويل يحوّلان الأزمة الداخلية الى ورقة سياسية تتقاذفها مصالح الدول في صراعاتها الإقليمية والدولية، فيطول الصراع، ويحوّل الساحة الداخلية إلى ساحة صراع يصبح فيها المتقاتلون لاعبين لمصلحة الدول الخارجية.
هذا ما حدث ويحدث اليوم. فالنظام برفضه إجراء حوار جدي مع المعارضة الحقيقية، والمعارضة باندفاعها نحو الاستعانة بالخارج، أوصلا سوريا لأن تكون ساحة صراع إقليمية ودولية. لقد وقعا في الشرك الأميركي.
فقد أظهر الأميركيون منذ بداية الأزمة السورية أنّهم لا يريدون نهاية سريعة لها. إنّهم يريدون التخلّص من نظام الأسد الذي أزعجهم طوال أربعة عقود في سياستهم الشرق أوسطية بتحالفه مع إيران وبدعمه تنظيمات مسلّحة، تصنّفها واشنطن إرهابية. لكنّهم غير مستعجلين لسببين أساسيين: الأول، انتظار جلاء صورة الحكم الجديد في مصر ومدى سيطرة الإسلاميين عليه. فما يجري في مصر سيكون له انعكاساته على العديد من دول المنطقة، وبخاصة سوريا والأردن، حيث الإخوان المسلمون هم الطرف السياسي الأقوى والأكثر تنظيماً. فأميركا لن تقبل بتطويق إسرائيل بأنظمة إسلامية أصولية. السبب الثاني، انتظار تحضير النظام البديل لنظام الأسد، وهو ليس بالأمر السهل أمام انقسامات المعارضة السورية. لذلك كانت الإدارة الأميركية، منذ بداية الثورة السورية، تكبح اندفاعة حلفائها نحو إسقاط سريع للنظام السوري، ولا تضغط كفاية على روسيا والصين الداعمين الأساسيين للأسد. فهي لم تدعم الاندفاعة التركية نحو إقامة منطقة عازلة أرادتها أنقرة منطلقاً للعمليات العسكرية للجيش السوري الحر، ولم تدعم فكرة الفرنسيين إقامة ممرات إنسانية ستتحوّل في ما بعد الى ممرات إمداد عسكرية للمعارضة، أو الى ممرات لعمل عسكري ضد النظام. كما لم توافق على طلب حلفائها السعوديين تسليح المعارضة السورية. لذلك، وبالرغم من الحديث عن تهريب السلاح للثوار، لم نشهد عمليات تسليح كبيرة فعلية تمكّن هؤلاء من تحقيق توازن، ولو بالحد الأدنى، مع قوة النظام العسكرية.
في المقابل، لم تستعمل واشنطن أوراقها السياسية والعسكرية والاقتصادية الفاعلة في وجه موسكو وبكين لثنيهما عن دعم نظام الأسد. فالخطاب الدبلوماسي الأميركي يتأرجح من جهة بين «حل سلمي للأزمة السورية» (على حد تعبير هيلاري كلينتون) ودعم لخطة كوفي أنان التي تشكك الدول في نجاحها، ومن جهة أخرى بين دعم لمؤتمر «أصدقاء سوريا»، الذي انعقد الاجتماع الثاني له في اسطنبول لدعم المعارضة وإسقاط النظام. يضاف ذلك كلّه الى مصالحها الجيو ـــ سياسية الإقليمية والدولية، وما يزيد من بطء الإدارة الأميركية في اتخاذ قرارها من الأزمة السورية هو انشغالها بالانتخابات الرئاسية المقبلة التي ستجرى في الخريف المقبل. لذلك نعتقد بأنّ الصيف السوري سيكون ساخناً، لكن على نار هادئة.
* باحث في شؤون الشرق الأوسط،
أستاذ في جامعة الكسليك