لا يكاد يخلو أي بيان وزاري لحكومة، أو أي بيان انتخابي لمرشّح نيابي أو كتلة نيابية من «العمل على تحقيق الإنماء المتوازن في لبنان». ذلك الشعار الذي لا يزيد شيئاً على ارض الواقع سوى بضع كلمات او احلام في عقل سكّان الأطراف، سريعاً ما تتبدّد مع تمركز اصحاب الشأن في وظائفهم. تختلف المعايير التي تعتَمد لتعريف الإنماء المتوازن بدقّة، فهو يعرّف انطلاقاً من المجالات المقصودة به.
هكذا يمكننا أن نتحدّث عن انماء «مناطقي» وانماء «قطاعي» متوازن. ويتعدّى الامر تلك المجالات ليبلغ في لبنان مستويات متقدّمة من الصعوبة عندما نتحدّث عن انماء «طائفي» متوازن، وقد اصبحت مشاهده مألوفة وشبه عاديّة.
جرت محاولات عديدة تاريخيّاً للتخفيف من حدّة التفاوت الانمائي حتّى قبل اعلان «دولة لبنان الكبير»، وقد فشلت كلّها خصوصاً بعد احتلال فلسطين والتزام سكّان المناطق النائية بالمقاومة وتحملهم للعقاب الجماعي من السلطة اللبنانية آنذاك (التزمت السلطة اللبنانية ــ وليدة الانتداب ــ بتحقيق مطالب الاستعمار، وعلى رأسها تسهيل عمليات الاستيطان الصهيوني في فلسطين).
أدرجت الدولة اللبنانية قضية الإنماء المتوازن في الدستور بعد تعديله بموجب وثيقة الوفاق الوطني اللبناني بالقانون الدستوري الصادر في 1990. إذ نصّ البند (ز) من مقدمة الدستور على أنّ «الانماء المتوازن للمناطق ثقافيّاً واجتماعيّاً واقتصاديّاً ركن اساسي من اركان وحدة الدولة واستقرار النظام».
لم تربط الدولة بين الإنماء والوحدة والاستقرار الّا على الورق، إذ لم تتعدّ هذه الأهميّة بضعة مشاريع صغيرة لغايات انتخابية او نفعية في الارياف. وأطلقت رصاصة الرحمة على الإنماء المتوازن عند تسليم مشروع إعادة إعمار وسط بيروت لشركة سوليدير التي قضت على أي توازن قطاعي او مناطقي، وأحكمت السيطرة على قرارات الحكومة التي غالباً ما كانت تصبّ فقط لمصلحة التجّار و«القطاع الخدماتي».
في تلك الفترة، سلّمت حكومات الرئيس الحريري كلّ مفاتيح القوّة في الاقتصاد اللبناني الى القطاع الخاص، واصبحت بذلك ارباح الاستثمارات تصبّ في الثروات الشخصيّة، وليس في ثروة الدولة اللبنانية ــ بشكلٍ قانوني ــ وتحت شعارات ليبرالية كتحفيز القطاع الخاص وتشحيع الحرية الاقتصادية والتركيز على «دور لبنان السياحي». واصبح لبنان ينتقل بسرعة الى مظلّة المؤسسات النقدية والمالية الدولية، ويرهن اقتصاده تبعاً لأجنداتها السياسية؛ وفضيحة فشل صفقة الغاء الديون الخارجية للبنان مقابل الدخول في مفاوضات السلام المباشرة مع العدوّ الاسرائيلي لم تكن الّا خطوة في هذا الاتجاه.
استمرّت تلك السياسات الاقتصادية حتّى 1998 وتعمّقت اكثر، واصبحت الدولة اللبنانية غارقة في الاستثمارات والخصخصة والارباح غير الشرعية، واستقدام الشركات العابرة للقارات لتسهيل الاحتكارات والمضاربات التي تصب فقط في مصلحة كبار الاثرياء والسياسيين. ولم تخرج بعد ذلك خطة التصحيح المالي (1998 ــ 2003) التي وضعتها حكومة الرئيس سليم الحصّ عن جوهر النظام الاقتصادي الليبرالي الذي تغلغل بعمق في اقتصاد الدولة، إذ التزمت حكومة الرئيس الحصّ سياسة التثبيت النقدي وخصخصة بعض القطاعات بعد أن كان اركانها قد عارضوا هذه الخصخصة عندما شرعت بها الحكومات السابقة.
كان من الطبيعي في ظلّ هذه السياسات الاقتصادية المتطرفة أن يختلّ مفهوم التوازن في التنمية الاقتصادية في لبنان، إذ كانت القطاعات المالية والتجارية والخدماتية تحقق الايرادات الهائلة وتحظى بالدعم الحكومي لها بشكل كبير، بينما كانت قطاعات اقتصادية اساسية اخرى كالقطاع الزراعي او حتّى الصناعي تعاني من اهمال حكوميّ تام متعمّد، لحصر دور لبنان في كونه نقطة سياحيّة خدماتيّة يستورد السكّان فيه حاجاتهم من الخارج. أمّا على الصعيد المناطقي، فكان من الطبيعي ان تعمد الدولة إلى تحسين وتنمية المناطق التي تتمتّع بميّزات الوجه الاقتصادي الخدماتي فقط.
بعد عودة الرئيس الحريري الى السلطة وتحرير القرى الجنوبية في 2000، تفرّغت المقاومة اكثر للعمل السياسي من داخل النظام، مع انخفاض وتيرة العمليات العسكريّة وتحوّل المعركة الى واحدة تتغيّر نتائجها وفقاً للقرارات السياسية اللبنانية والدوليّة بدل ساحات القتال. وضمن هذا الإطار، صدر القرار 1559 الذي اعقبه اغتيال الرئيس رفيق الحريري في شباط 2005، وانقسام البلد الى قسمين متناقضين تماماً. بلغ الانقسام بينهما ذروته بعد خروج الجيش السوري وما تبعه من عمليات اغتيال استهدفت العديد من الشخصيات السياسية والاعلامية والعسكرية، ثمّ العدوان الاسرائيلي على لبنان في تمّوز 2006. وقتها، تعدّى القصف التدميري الاسرائيلي المناطق المعروفة بولائها للمقاومة وتمركز القيادات فيها، وطال المناطق نفسها التي يصيبها الانماء غير المتوازن، كأنّها سلسلة متناسقة محكومة بمصالح مشتركة بين الكيان الصهيوني واصحاب المصالح والقرارات الاقتصادية الليبرالية المحليّة (وقد تبيّن فيما بعد أنّ قصف الكثير من الاهداف في حرب تموز كان له اهدافه ومدلولاته الاقتصادية البحتة).
لم تختلف نتائج برامج إعادة الإعمار بعد الحرب عن النسق السابق للعمل الانمائي الحكومي، وبقيت ورش اعادة الاعمار ــ كما مسيرة الانماء في التاريخ اللبناني ــ تعمل بشكلٍ غير متوازن تبعاً للمصالح الاقتصادية او السياسية للأطراف الرسمية وغير الرسمية (بلغت التعويضات للمتضررين في بعض الحالات ارقاماً جنونية توازي اضعاف المبالغ المطلوبة وفي حالات اخرى كان التعويض شحيحاً لا يوازي نصف المطلوب، بالإضافة الى علامات استفهام لا اجابات حتّى اليوم عنها، وتحديداً في مسألة المساعدات الخارجية التي قدّمت لحكومة السنيورة وكيفية تقسيمها وتوجيهها).
في 7 ايّار 2008، بلغ الانقسام السياسي في لبنان حد المواجهة العسكريّة المباشرة التي تبعها اعلان اتفاق الدوحة الذي نص على إقامة حكومة وحدة وطنية وإزالة اعتصام المعارضة من وسط بيروت. فترت الازمة السياسية قليلاً حتّى اواخر 2010، وخلال سنة 2011 حين اندلعت التحركات الشعبية الاحتجاجية في الدول العربية، واخذت في لبنان طابعاً سياسياً بامتياز، بعد اسقاط الحكومة دستورياً، وتشكيل حكومة جديدة برئاسة نجيب ميقاتي الذي اشار في اوّل تصريح له إلى أنّ «تنفيذ الطائف هو المدخل لإعادة الثقة بين اللبنانيين وفي ذلك ما يحصن الوحدة ويوفر العدالة والعيش الكريم»، وأنّ «هذه المسؤولية ستتحملها الحكومة من خلال سياستها والانماء المتوازن».
لم تكن الاشارة الى اهميّة الانماء المتوازن يومها اشارة عابرة بالنسبة لسكّان المناطق المحرومة، بل ترافقت مع الثقة بالثقل السياسي للفريق الذي يمثلهم، واعتبروا انّ هذا التغيير يمثل مدخلاً جديّاً لمخطّط انمائي في المناطق الفقيرة التي دفعت في كلّ العهود السابقة فاتورة التوحش الاقتصادي الرأسمالي الذي قضى على كل مقوّمات العيش فيها.
للأسف، تفرغت الحكومة الجديدة للعمل السياسي والامني البحت، وأدارت ظهرها لكل المطالب الاصلاحية، خصوصاً الانمائية منها. كذلك لم يتبلور ايّ تصوّر مفاهيمي شامل للموضوع، وبقي محصوراً في أطرٍ نفعيّة ضيّقة مع بلوغ الفساد المالي والإداري والغلاء المعيشي درجاتٍ قياسية لم يسبق ان شهدها السوق اللبناني من قبل.
يستلزم الإنماء قرارات سياسية واضحة تجعل من تطوير المناطق المحرومة أولوية تمكّنها من مجاراة المناطق الأخرى تنمويّاً (تصنيف المناطق على أسس اجتماعية غير طائفية، تشكيل مجالس تخطيط انمائية فعالة، توسيع نطاق العمل البلدي والحزم في تنفيذ المشاريع ومحاربة الفساد، تخطيط جديّ وشفّاف لتمويل العملية الانمائية بمصادره المحلية والخارجية واعادة النظر في النظام الضريبي المجحف، تفعيل مفهوم المحاسبة...). عندها يصبح التكامل بين الموارد في القطاعات الانتاجية المختلفة امراً واقعاً ينطلق من فهم التفاوت الانمائي على انّه نتاج تاريخي للسياسات الاقتصادية المتطرّفة التي حكمت الفكر الاقتصادي في لبنان حتى يومنا هذا، ما يتطلّب تغيير عقليّة سياسية كاملة عمرها من عمر تأسيس الدولة اللبنانية ترمي بالخيرات بين أيادي الشركات الخاصّة التي لا يهمها سوى الربح والاستثمار، وأيادي الزعامات الطائفية التي لا يهمها سوى النفوذ والثروات بحجج انمائية و«اعادة اعماريّة».
هل تحقيق الانماء المتوازن يتطلّب في بادئ الأمر الانقلاب على كل المفاهيم السياسية والاقتصادية والاجتماعية التي بُنيَت على اساسها الدولة اللبنانية وعلى اساسها وُضِع الدستور؟ كلّا إنّ كل تغيير جديّ في أي مجال لن يتحقق قبل هذا الانقلاب الذي أضحى ضرورة ملحّة لكل اللبنانيين الذين سئموا ان يطالب الرأسمالي والإقطاعيّ بحقوقهم كفقراء... هي ضرورة ملحّة قبل شروع الطبقة السياسية ــ الاقتصادية نفسها باستثمار «النفط اللبناني».
* عضو في فرقة «الطفار»