يقول القائد المعلم كمال جنبلاط إنّه أثناء قيادته الحركة الوطنية اللبنانية خلال حرب السنتين، كان يريد «تمليك» كلّ مستأجر أمضى في شقته أكثر من عشرين سنة، باعتبار أنّه يكون قد سدد كامل ثمن المأجور وزيادة. فقيمة الإيجار كانت تقدر بأكثر من 8 % من قيمة المأجور، عشية اندلاع الحرب الأهلية. ويقول جنبلاط: «ثمة إصلاح آخر كنت أحرص عليه هو ذلك المتعلق بإيجارات الشقق على أساس التقدير الصحيح.
أي أن تكون قيمة الإيجار بنسبة 8 إلى 10 بالمئة من كلفة بناء الشقة او المبنى، بدون اعتبار للقيمة العقارية للأرض، أو ما أسميه الثمن العادل». ويضيف: «ومن شأن ذلك المنهاج أن يتيح إلغاء واحد من أهم أسباب التضخم في الأثمان والمداخيل والأجور والإيجارات». ثم يقول: «وبهذه المناسبة فإنّ أحد أصدقائنا من منظمة العمل الشيوعي (يقصد محسن إبراهيم) لفتني إلى أنّ من شأن إصلاح معدلات الإيجار وفرض ثمن عادل أن يؤلب علينا مختلف المواطنين البيروتيين، الذين هم في أغلبيتهم الساحقة ملّاكون وليسوا مستأجرين» (من كتاب كمال جنبلاط ــ هذه وصيتي ــ صفحة 145 ــ 146. المنشور في باريس في حزيران 1978، أي بعد استشهاده بنحو ثلاثة شهور فقط).
هذا كان رأي القائد الشهيد كمال جنبلاط في عز حرب السنتين، وتصويب اليسار لرأيه، أخذ في الاعتبار مصالح وحقوق شريحة واسعة من أبناء بيروت. أما الآن، فحزب كمال جنبلاط الذي كان ملتزماً بهموم الطبقة العاملة والطبقات الشعبية وذوي الدخل المحدود، لم يعد في هذا الموقع لا في السياسة ولا في الاقتصاد، والنائب الاشتراكي فريد جبران، الذي كان المتأبط الدائم لملفات الأجور والضمان والايجارات والدواء والنقابات والصيادين، قد مات. أما صوت اليسار، الذي كان في طليعة الداعين إلى تحصيل وتحصين حقوق الطبقة العاملة وذوي الدخل المحدود أيضاً، فاختنق ومات، فيما حقوق ومصالح أهالي بيروت المتجددة بين عامي 75 و 1990 ذهبت بها «نيران» سوليدير والسياسات الاقتصادية والاجتماعية المدمرة، التي أتت على أملاك ومصالح أهالي وسكان العاصمة وشردتهم في كل اتجاه... إلى الدوحة وعرمون وبشامون والناعمة والجية، فضلاً عن الضاحية وشتى بلاد المهجر والاغتراب.
منذ أسابيع، ينكب أعضاء لجنة الإدارة والعدل النيابية على دراسة قانون جديد للايجارات، يحل مكان القانون الممدد له منذ عشرات السنين. سنين صدر خلالها «قانون تحرير العقود» رقم 160/92 في 22 تموز 1992، والمعدل بالقانون رقم 336/94. وبذلك يكون للبنانيين إضافة إلى قانون الموجبات والعقود، قانونان للاحتكام أمامهما: قانون ما يسمى «التعاقد الحر» والقانون المتعلق بالإيجارات القديمة السابقة على 1992. وهم الآن بانتظار صدور قانون رابع جديد ربما، يقرر عملياً مصير المستأجرين القدامى «العالق» في مواد القانون «القديم»، وتحديد الوسائل والسبل القانونية لاقتلاعهم من منازلهم المستأجرة قبل قانون «تحرير العقود».
وهنا يجدر بنا الوقوف أمام بعض المفارقات التي لا بد من مقاربتها لفهم ما يجري في هذه المسألة الخطيرة والحساسة.
أولاً، هل المطلوب فعلاً أن يكون لدينا قانون نهائي للايجارات يقوم على تنظيم العلاقة فعلياً وعلى أسس علمية وعادلة بين المالك والمستأجر؟ هل نحن فعلاً أمام مشروع قانون يريد للمالك أن يستمر في استثمار مأجوره ويضمن للمستأجر حقه في الاستمرار في سكنه، ولا يبقى سيف الإخلاء مصلتاً فوق رأسه ورأس عائلته على نحو نهائي؟ أم نحن في مواجهة مشروع يهدف الى تهجير المستأجر وسرقة الملك من صاحبه، لبيعه إلى تجار العقارات والشركات الباحثة عن الصفقات الأكثر ربحية في ظل الركود الاقتصادي المدمر الذي نعيش فيه منذ سنوات طويلة؟
ثانياً، مسألة التضخم وعلاقتها بما يسمى البدل العادل. مما لا شك فيه أنّ قيمة التضخم في مجالات الاقتصاد المختلفة كانت النسبة الأعلى للارتفاع في مجال تجارة العقارات والمضاربات العقارية. هذا ما حصل منذ اندلاع الحرب الأهلية في 1975 وحتى اليوم، إذ تعطلت وعطلت قطاعات اقتصادية عدة لصالح هذه المضاربات، وكانت الأجور تُزاد بنسب هزيلة لا تتناسب مع نسب التضخم ولا تحقق بالكاد متطلبات الحياة الاقتصادية والمعيشية الكريمة. فالشقة التي كان ثمنها عشية الحرب الأهلية لا يتجاوز الـ20 ألف ليرة (أربع غرف ومطبخ وحمامين بمساحة لا تتعدى الـ130 متر مربع تكفي لإيواء أسرة متوسطة) ارتفع متوسط ثمنها حالياً في مختلف أحياء العاصمة إلى ما بين 250 إلى 300 ألف دولار. أي ما يزيد على ثمن مثيلتها عشية الحرب بـ20 ألف ضعف، فيما ارتفع راتب رئيس الدائرة/ فئة ثالثة/ قطاع عام من 505 ليرات شهرياً الى 1.060.000 (مليون وستون ألف ليرة) حالياً أي ما يوازي 2099 ضعفاً. أي إنّ نسبة التضخم ارتفعت في مجال أسعار الشقق أكثر من عشرة أمثال ارتفاع
الأجور.
ثالثاً، تقديس الملكية. نحن نسمع نغمة أنّ المالك خسر قيمة شقته بفعل التضخم، وأنّ المستأجر يسكن مجاناً وبعد ذلك يورث منزله لأفراد أسرته ويطالب بتعويض لإخلاء المأجور. وهنا لا بُد من ملاحظة الأمور التالية:
1 ـ من المعروف أنّ التعاقد بين المالك والمستأجر جرى في ظل قيمة معروفة لثمن الشقة ولقيمة تأجيرية كانت هي الرائجة، وفي ظل قانون للإيجار من المفترض أنه يرعى حق المالك والمستأجر معاً، وكما أنّ المالك اشترى الشقة أو المبنى بقيمته المعروفة ولمرة واحدة فإنّ المستأجر تعاقد على إيجار الشقة على أساس أنّه عقد نهائي، وهذا كان منطوق القانون السائد.
2 ـ كل القوانين التي كانت تصدر حتى السنوات الأولى من الحرب كانت تقضي بإجراء بعض التعديلات على بدلات الإيجار رفعاً أو خفضاً نتيجة التطور الذي يطرأ على حركة البناء والإيجارات، ونتيجة تقديرات المشترع لقدرة الأجور على تحمل مثل هذه الزيادات أو متطلبات الخفض. وكان ذلك يرتب غالباً أن يقوم المالك بفرض بدل مرتفع في سند الإيجار لتدارك أي خفض في بدل الإيجار. وكان المستأجر يتفهم هذه «البدعة» وأحياناً كان المالك يتراجع عن الارتفاع الوقائي في بدل الايجار الذي يسجله في العقد، وغالباً يعمل على الزام المستأجر بالسعر المسجل في العقد.
وبعد ذلك ومع انتهاء حرب السنتين وحركة التهجير التي شهدتها البلاد وازدياد الطلب على المساكن، بدأت تظهر مسألة الخلوات التي كانت تقضي بتحديد بدل الايجار على أساس من يدفع الخلو للمستأجر القديم، وقيمة ذلك الخلو (اذا دفع المالك الخلو يرفع الإيجار الى السعر الرائج، أما اذا دفع الخلو المستأجر الجديد، فيرفع بدل الإيجار بنسبة يجري الاتفاق بشأنها مع المالك). ومع صدور القانون 160/92 نصت المادة السادسة منه، فقرة أ، على زيادات كبيرة على بدلات الإيجار القديمة بدأت بـ165 ضعفاً على الإيجارات المعقودة قبل 1/1/1954 إلى اثني عشر ضعفاً على الإيجارات المعقودة بعد 1/1/1986 وحتى 31/12/1986 ضمناً، كما نصت الفقرة ب على مضاعفة بدلات الإيجار المعقودة بعد عام 1987 ولغاية عام 1992 عدة مرات. ونصت الفقرة ج من المادة نفسها على زيادة الإيجارات بنسبة تعادل 50 % من نسبة الزيادة الطارئة في كل مرة على الجزء الأول من الراتب المحددة في المراسيم المتعلقة بزيادة غلاء المعيشة. وهي عادة تكون النسبة الأعلى في الزيادة على الراتب.
وهكذا عمد المشترع اللبناني إلى اجبار المستأجر الذي خسر أكثر من 90 % من قيمة راتبه الفعلي (مقارنة بسعر الشقة) على دفع كلفة التضخم وحده عن طريق فرض هذه الزيادات المضاعفات على قيمة الإيجار. ثم حول المالك إلى شريك للمستأجر في تعبه وعرق جبينه بدفع نصف الشطر الأول من الزيادة لدى كل تصحيح للأجور.
ومن جهة ثانية، فإنّ الإصلاحات والتحسينات التي تدخل على المأجور بما فيها إصلاح عيوب البناء التي تدخل أصلاً في صميم مسؤولية المالك، كلّها تحولت وبقدرة قادر إلى عبء إضافي على المستأجر. وقد شاء المشترع أن يعفي المالك من أية مسؤولية عن الكثير من التصليحات والتحسينات التي كان يسهم فيها، كالخدمات المشتركة والمصعد والناطور وخلافه، وتحوّل كل ما يلزم الشقة من اصلاحات وتحسينات الى هم اضافي للمستأجر.
وبعد ذلك يتحوّل المستأجر إلى مستهدف من قبل المشترع اللبناني، ليس بزيادة البدل إلى ما يفوق قدرة المستأجر على الدفع (وهو لا يملك شيئاً بعدما خسر كل شيء بفعل التضخم الذي أكل كل دخله)، وإنما بات يهدده باستقراره مع عائلته تحت سقف يظلّله. والأخطر من ذلك أنّ هذا الاستهداف وخطر التهجير الذي يتهدده، لا يجريان لإنصاف المالك «المغبون»، بل لحساب السماسرة وتجار العقارات الذين يتربصون بالاثنين معاً.
رابعاً، إنّ المستأجر دفع ويدفع صاغراً كل ما كلفه به المشترع اللبناني من بدلات ومضاعفات بحجة تعويض المالك خسارة مفترضة في قيمة المأجور بفعل التضخم، فيما لم يكلف المشترع نفسه عناء البحث في كيفية تعويض المستأجر خسارة أكثر من 90 % من دخله بفعل التضخم نفسه، كما نسي أو تجاهل الجميع مسألة في غاية الأهمية وهي أنّ التعاقد على السكن في شقة في منطقة ما، مثّل للمستأجر نقطة الانطلاق نحو عمله ونحو مدارس أولاده وإنشاء بيئة اجتماعية وفكرية وثقافية واقتصادية له. وبات كل ما يتعلق بحياته الاقتصادية والعملية والاجتماعية وحياة أسرته مرتبطاً بهذا السكن. وأي تغيير في منطقة السكن سيجبره على تحمل أعباء قد لا يستطيع احتمالها. فهل يستطيع مثلاً أن يغيّر نوع أو مركز عمله أو مدرسة أو جامعة أولاده بسهولة؟ وهل يستطيع أن يتكيّف بسهولة مع أي منطقة قد يضطر اضطراراً لا مختاراً إلى اللجوء إليها للسكن فيها، فضلاً عن الكلفة التي قد لا يستطيعها. علماً أن البلد ومع الأسف تحول بفعل ممارسات السياسيين البغيضة إلى شبه كانتونات مقفلة، بوجه أُناس، ومفتوحة لأُناس بعينهم.
خامساً، إنّ القول بملكية المالك لملكه صحيحة، والصحيح أيضاً أنّ المستأجر الذي تعاقد في ظل قانون معيّن على استئجار شقة لا يجوز للمشترع وبشحطة قلم أن يغيّر رأيه ويرمي بالمستأجر خارجاً، بما يتعارض مع القانون الأساسي الذي جرى التعاقد في ظله. فالمالك إما أنّه ورث الملك أو أنّه دفع قيمة الثمن مرة واحدة، في سنوات سابقة على الإيجار وبالأسعار التي كانت سائدة في حينها. أما المستأجر، فهو استأجر على أساس الأسعار الرائجة في حينها أيضاً. ومن جهة ثانية، إذا ارتفعت قيمة ملك المالك نتيجة التضخم فلماذا لا ترتفع قيمة مأجور المستأجر بالنسبة ذاتها، طالما أنّ كلاً منهما شريك للآخر. فلماذا لا يطمئن المستأجر على استقرار عائلته في البيت الذي يسكنه ويدفع ايجاره وبالسعر المضاعف وبالزيادات الطارئة لدى كل تصحيح للأجور، ما دام المطلوب أن يطمئن المالك على ملكه ولا يتهدده في ملكه أحد؟
سادساً، الإخلاء، ومن المفارقات الغريبة أنّ المشترع اللبناني يغلِّب قداسة الملكية على حق المستأجر في استمرار السكن في منزله. علماً أنّ هذا الإشغال جرى وفقاً للقوانين التي شرعها المشترع اللبناني سابقاً وبنفسه. وتراه حالياً يضرب عرض الحائط بالأساس القانوني الذي كان يبني عليه في تثبيت المستأجر في منزله وفقاً للقانون القديم. واخطر ما في هذا السعي هو العمل على تحرير العقود بدون تقديم أية ضمانات فعلية، تحمي المستأجر القديم وتمكّنه من إيجاد منزل بديل. وبهذا المعنى، فإنّ مشروع القانون المقترح هو مشروع قانون تهجيري بامتياز، ويمثّل اعتداءاً صريحاً وواضحاً على حقوق المستأجرين وأمنهم الاقتصادي والاجتماعي، ودونه قطعاً نتائج اقتصادية واجتماعية مدمرة. وقد ترتبت عليه نتائج ومضاعفات سياسية على أمن واستقرار البلد. سابعاً، إذا كان منطقياً مطلب الإخلاء بسبب «الضرورة العائلية» مقابل ضمانات اقتصادية واجتماعية تمكن المستأجر من توفير سكن لائق بديل، يراعي وضعه الاقتصادي والاجتماعي، فإنّ طلب الإخلاء بهدف إعادة التأجير ببدل أعلى أو بهدف الهدم وإعادة البناء ينبغي أن تكون شروطه متناسبة مع الأهداف الاقتصادية التي تبغي الربح. في الحالة الثانية يجب أن لا يقل تعويض المستأجر عن منزله بشقة مماثلة للشقة التي كان يقيم فيها، وخصوصاً أنّ المبالغ التي يحصل عليها أي سمسار من جراء إتمام الصفقة قد لا تقل عن «حق» المستأجر، إن لم يكن «حقوق» عدة مستأجرين معاً، فضلاً عن الأرباح الفاحشة التي يحققها تجار البناء وأصحاب العقار. والخطير أنّ شركات المقاولات وتجار العقارات والسماسرة يتنقلون بين كافة أحياء العاصمة، يساومون على كل مبنى أو قطعة أرض فيعملون على تهجير سكانها وشراء حقوق مالكيها التي سرعان ما تتحوّل إلى خسائر فادحة لهم نتيجة التضخم المتزايد مع احتدام المنافسة بين العرض والطلب.
وأخيراً، مهما كان رأي كل منا في ما قاله القائد التاريخي للحركة الوطنية اللبنانية الشهيد كمال جنبلاط، في ما يتعلق بـ«تمليك» المستأجرين، فإنّ كل قوانين التسليف الإسكاني تقوم على «تمليك» الشقة بعد انتهاء تقسيطها بين ٢٠ الى ٢٥ سنة، مع كل الفوائد المصرفية. والقسط كما هو معروف يعادل قيمة الإيجار. ومهما كان رأي هذا الطرف السياسي أو ذاك، ومهما كان مصير أهالي بيروت وساكنيها وحقوقهم وأملاكهم، فإنّ ما يجري الإعداد له من مشروع قانون جديد للإيجارات لا يقلق أبناء بيروت وضواحيها وحسب، بل سائر اللبنانيين أيضاً.
بالتالي، يهدد القانون الجديد الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي للبنانيين، ما دام لا يرى فيهم فئات اجتماعية لها حقوق وعليها واجبات، بل يعدّهم مجرد زبائن يمكن اصطيادهم ورميهم بعد ذلك في الشارع مقابل حفنة من الأموال، يجنيها المضاربون والمرابون والسماسرة. والخطورة في الأمر قد لا تكون فقط في المآسي والمشكلات التي ستنتج عن مثل هذا القانون، ولا في ردود الفعل التي قد تنشأ عن ذلك، بل أيضاً وأساساً في عدم قدرة المتنطحين للتشريع على رؤية ذلك بكل المخاطر التي ينذر بانفجارها صدور هذا القانون. وإذا كانوا يرون كل تلك المخاطر ويصرون على نهجهم، فهم إنما يدفعون البلاد وبإرادتهم نحو أزمة لا أحد يستطيع تقدير مخاطرها ونتائجها.
* صحافي لبناني