عمرو موسى هو النصف «العابس» من دولة لم يبق منها معه إلا نصفها المثير للسخرية: أحمد شفيق. توأما دولة التسلط يتنافسان على جمهور في دولة لم تتبلور بعد صورتها ولا سلطتها. التوأمان هما بر الأمان لجمهور متشوّق الى غائب، ينفض عنه غبار الأسماء القديمة ويبحث في الركام عما يحبه في الشخصيات الباقية من السقوط الأول لرأس دولة التسلط.لم يعد مؤثراً وصف الفلول للتوأمين، رغم أنّ كلاً منهما يتبرأ من التهمة ومن الانتماء إلى نظام لم يكن غيره سيقبل أياً منهما، فهما صناعة نظام التسلط بجبروته المنفوخ على فراغ، وركاكته المسنودة بالسلطة المطلقة.

هما رمز إيقاظ سلطة الأقدار، في لحظة توتر ما بعد الثورات، وفي وقت لا تزال فيه قطاعات من المجتمع تنتظر أن يخرج من تحت رماد النظام من يشغل الفراغ المصنوع على مقاس مبارك ومن يشبهه، سواء في نفخة السلطة (عمرو موسى) او في الفخر بالركاكة السياسية (أحمد شفيق). عمرو موسى هو مبارك في النصف الثاني من سنواته الثلاثين، وشفيق هو النصف الاول حين كان بالنسبة إلى مصريين صورة «البقرة الضاحكة». وهذا ما يجعل رقعة الإعجاب بشفيق تتسع بين جمهور يبحث في رماد الدولة الميتة عن مرشح يعيد مبارك بدون سنواته الأخيرة. جمهور شفيق لا يلتفت إلى أنّ كلامه يحتاج الى هواة الكلمات المتقاطعة، ولا أنّه يفتقر الى المعنى، فهم مدمنو المعاني الفارغة المحشوة في خطاب رجل الدولة مبارك، وخليفته في الملاعب عمرو موسى.
جمهور عدو ما لا يعرفه، او ينتظر مرشحاً من خارج الكتالوغ المتعارف عليه. جمهور متكرر رفض الجنرالات بعد تموز ١٩٥٢ وأراد اعادة تصنيع النحّاس (وربما الملك) ثم عشق ناصر، ورفض خليفته السادات وغنى له «جاب لك ايه يا صبية عبد الناصر لما مات... جاب لي عجل من المنوفية واسمه أنور السادات». وبعد اغتيال السادات لم يكن امام الجمهور نفسه إلا «البقرة الضاحكة»، كما سمي مبارك حينما اختير نائباً للرئيس.
هذا الجمهور ينتظر الدكتاتور دائماً ويعمل وفق الفكرة التي تقول إنّه لا يصلح لمصر سوى دكتاتور، و«الدكتاتور اللي تعرفه احسن من الدكتاتور اللي متعرفهوش». وهذا ما تلعب عليه حملة التوأمين، إلا أنّ شفيق يختار الإنجازات (المتمثلة في المطار)، بينما يعتمد موسى على وضع نفسه في قالب رجل الدولة المتعارف عليه. فرص عمرو موسى اقوى، ويكاد يكون المنافس الرئيسي في ظل ضبابية صورة الرئيس القادم من خارج النظام القديم. والفرص الأقوى دليل على انّه في التصور العام الحكم شيء والثورة شيء آخر، وعمرو موسى لا ينافس بثوريته لكن باللعب على ايقاظ الصور القديمة للرئيس.
حملة عمرو موسى تعتمد على صرامة ملامحه، ومن اجل هذا كشفت ما اخفاه عمرو نفسه طويلاً: ملامح عمره. لم يكن من السهل معرفة انّ عمرو تجاوز الخامسة والسبعين، لأنّه كان بعيداً، وعندما يقف امام الكاميرا يختار زوايا لا تكشف حقيقة العمر. ومع اقتراب الحملة من اكتمال صورتها، لم يعد امام عمرو موسى ما يخفيه، فهو سوبرمان قادم من دولة عجوز، لا يحمل سوى الوعد الخفي بأنّ كل شيء سيعود
الى ما كان عليه. وهو وعد قد يجد صدى لدى جمهور يريد الاستقرار، لكنّه مع التفكير سيكتشف أنّ هذا سراب.
كيف يتخيل شخص عاقل أنّ اعادة تدوير ماكينة الدولة ببرنامج، لم يختلف كثيراً عن برنامج مبارك، يمكن أن تمر بدون قهر عنيف للمطالب التي كان مبارك يهزمها بجيشه في الداخلية؟ كيف يمكن لبرنامج يعتمد على اعادة تشغيل الشرائح الاجتماعية نفسها، التي كان يعتمد عليها مبارك، السيطرة على الاقتصاد والمجتمع بدون أن تحدث ثورة اجتماعية او انفجارات في كل ركن؟ اين ستذهب الثورة عندما يفوز عمرو موسى؟ هل ترتاح على الكنبة؟ ام سندخل عصر القهر بالأمن من جديد؟ ما هو الجديد الذي يحمله عمرو موسى ولم يكن في مبارك او في المجموعة المحيطة بابنه؟هل كان عمرو موسى جذرياً في محاربة دولة الفساد التي ارادت تحويل مصر الى جمهورية عائلية؟ هل كان متصادماً مع المشاريع الاقتصادية لمجموعة جمال مبارك التي تعتمد على اصلاح اقتصادي يلقي بشرائح كبيرة من المجتمع الى ما تحت خط الفقر مقابل رفاهية شرائح صغيرة لا تتعدى الـ٥ في المئة؟
وهنا لا بد أن تضحك عندما تستمع الى عمرو موسى وهو يتحدث كأنّه المنقذ الذي سيعيد مصر كما كانت. لم يحدد طبعاً أي زمن هو ذلك الـ«كما كانت»: عبد الناصر ام السادات ام السنوات العشر الأولى التي قالوا إنّها كانت الافضل في عصر مبارك، لكنّه ينطلق بداية من انّ مصر في ازمة، وأنّها مقبلة على كارثة لن ينقذها منها الا رجل دولة… وهو هنا يشير الى نفسه... الى نقطة قوته الوحيدة تقريباً، أي كونه كان أحد الموظفين في دولة مبارك. دولة مبارك انتهت النهاية المأساوية لأنّها لم تكن دولة، وقادها الرئيس الى مصيرها المتوقع: مافيا كاملة الأوصاف. هل هذه هي الدولة التي يروج بها عمرو موسى لنفسه؟ هو ابن هذه الدولة، وعقله تربى في ممراتها، وخياله لا يتجاوز حدود موظف مميز بحكم موقعه في الخارجية. هذه هي الدولة وهذا هو رجلها الذي يعتمد على اننا في ازمة وهو المنقذ. وهي نظرة قصيرة ومحدودة، لأنّ الثورة ليست ازمة، والانقاذ ليس في رجل واحد، بل في بناء دولة غير التي كان عمرو موسى احد رجالها. عمرو يلعب على وتر قلق الناس من مغامرة الثورة، ويتصوّر انّه يمكن اعادة انتاج الدكتاتور في صورة احد موظفيه. هو كما قلت من قبل «ميني دكتاتور» لا يملك الا اعادة تركيب ماكينة مبارك بعد التخلص من الوجوه القديمة. هذه الماكينة ستنتج في النهاية دكتاتوراً بلا دولة… او دكتاتوراً يمتص مشروع الدولة التي ظلت قيد الإنشاء بسبب الاستبداد الذي رعى الفساد.
عمرو موسى ابن فكرة الحكم التي تقول إنّ هناك مجموعة محددة اسمهم رجال الدولة هم الذين يعرفون مصالحها وأسرار تشغيل ماكينتها. هو سليل دولة الكهنة. والمضحك عندما يقول انّه مع الثورة او في قلبها، لمجرد انّ مبارك غضب عليه او لم يستطع استكمال الطريق الى اذنه ليكون مسيطراً بما يكفي.
فشل عمرو موسى في الاقتراب اكثر من مبارك لا يعني سوى انّه من المطرودين من الحاشية، ليس الا، ولا يملك الا الخبرة في الدهاليز. خبرة مملوك لم يصل الى الحكم. وكلما تصورت عمرو موسى هابطاً بأجنحة سوبرمان، المنقذ للبلد من الكوارث، ضحكت لأنّ الثورة قامت ضد فكرة السوبرمان، او الدكتاتور الهابط من غرف الكهنة ليكون منقذ البلاد.
في وقت مبكر كان السؤال: هل انتهت الثورة؟ هل تحوّلت الثورة الى انقلاب عسكري؟ كنا في قلب الميدان، والجدل دائر حول «شكل الميدان» وصورته امام المجتمع. الميدان انقسم في ساعات الفجر الاولى الى حلقات نقاشية حول المستقبل، وموقع كل مؤسسة في تركيبة الحكم الجديدة: ماذا تعني الديموقراطية؟ وهل الثورة مجرد غزوة تحرر الصندوق وتخطف الحكومة؟ الإخوان والجيش والسلفيون وائتلاف الثورة والشباب والبلطجية والباعة الجوالون والمقيمون على الكنبة... كل هؤلاء عناصر يتناثرون بين كلمات حول ما سيحدث في الغد؟ الثورة هنا بالضبط، حين كل شخص يتصوّر انّه شريك في صناعة الغد. شراكة لم تتحقق بسهولة، وربما لم تتحقق حتى الآن، لأنّنا أسرى تربية عاطفية ترى الحاكم أباً، والخروج عنه معصية، والثورة عليه نكران للجميل. الثورة في عمقها كانت على هذه التربية العاطفية التي حوّلت الشعب الى عبيد ينتظرون كل شيء من الأعلى. لهذا يلعب الفلول والثورة المضادة على فكرة الأب الغائب (او رجل الدولة الغائب ايضاً). ذلك رغم أنّ مبارك لا يصلح لدور الأب حتى في المسلسلات الفاشلة التي تملأ ساعات رمضان بكل انواع الغثيان الإنساني.
لا يصلح مبارك في دور الأب لأنّه ببساطة لا يملك مقوماته ولا موهبته ولا شخصيته. كتب المصريون على جدران البيوت ليلة وداع عبد الناصر: «إلى جنّة الخلد». ظلت العبارة على جدران البيوت سنوات طويلة، مرفقة برسم للرئيس وهو يطير بأجنحة الملائكة إلى السماء. آخر بقايا الجنازة التاريخية لافتقاد زعيم مارس أبوّته في عقد الستينيات ما زالت ماثلة في الأذهان، وظلت الجماهير متمسكة بهذه الأبوة رغم الهزيمة في ١٩٦٧.
أنور السادات كان زعيماً بمعنى مختلف. لم تكتب له عبارات الخلود على الجدران. الكاريزما الخاصة به لها طبيعة نجوم السينما، وصناع الصدمات الكهربائية. كاريزما عشاق المتع، لا الأبطال المستعدين لتقديم تضحيات. عشّاقه سجلوا على قبره المجاور للجندي المجهول: عاش ومات من أجل السلام. وحده حسني مبارك حقق الخلود على الكرسي بكل انواع الغراء، الشرعية وغير الشرعية. لم يحكم بكاريزما الزعماء الملهمين، ولا زعماء الصدمات السياسية؛ موظف، تكنوقراط، ومغرم بالطيران تحت الرادار. كاد أن يلتهم مصر كلها بسبب أنانيته المفرطة.
مبارك هو الرئيس الذي حقق ما لم يحققه أبناء الثورة: استمر في الحكم أكثر من عبد الناصر والسادات معاً. تعلّم السياسة في البلاط (قصر الرئاسة) على أنّها فن إدارة الحكم، لا مواقف سياسية ونضالات ومقاومة ومشاريع. ولهذا كان الأب المناسب لمشهد نهاية الجمهورية الابوية. ضعيف واناني ترك البلد كلّه لعصابة، وهذه لحظة مناسبة لقتله بالمعنى النفسي.
الإبداع يحدث عندما يقتل الطفل الاب بالمعنى النفسي عند فرويد، أي يتحرر من سلطته. الشعب المصري تحرر من مبارك واقتنص حق الكلام في السياسة والتفكير في المستقبل بعيداً عن الوصاية والقرارات التي تطبخ في الغرف المغلقة.
هذه هي الثورة. لم تعد القرارات تسقط من الأعلى ولا السياسة حكراً على الرئيس وحاشية. ثورة ضد تربية العبيد العاطفية. وشرعية الجمهورية الجديدة في مصر هي «شرعية يناير» التي تحاول انهاء سنوات طويلة من حكم الآباء القادمين من الثكن، وكواليس الدولة الفاشلة. وهذا هو الفرق بين يوليو ويناير.



خالد علي: رئيس حلم يشبه الثورة الحلم

«لا تستوحش طريق خالد علي لقلة سالكيه». هذه واحدة من مقولات تيار تأييد المرشح خالد علي الذي بدا اعلان ترشيحه فكرة خيالية، كما كانت «٢٥ يناير»، لا يصدقها عقلاء ولا واقعيين. هو ابن روح ثورة لا تزال تتجول، ولم تتشكل بعد في تنظيمات او تكتلات داخل المجال السياسي. لم يأت من المصانع التقليدية للسياسيين، ولا من السلطة وجهازها السياسي، ولا الجماعات والاحزاب المعارضة والمنافسة. كما انّه ليس ابن تاريخ التنظيمات السياسية.
هو من المجموعات الجديدة التي ولدت في الشارع وجددت منذ ٢٠٠٥ هواء السياسة باحتجاجها السياسي المبتكر، عبر التمرد على التدجين متعدد الطبقات للاحزاب المعارضة.
هذه المجموعات ولدت بعيداً عن ظل الدولة الثقيل، ونموذجها الذي تدور حوله كل الافكار، من النظام الى الاخوان مروراً بالتشكيلات الناصرية واليسار التقليدي. هم كتلة غير منظمة، اجتذبت بطاقتها الطازجة العناصر حتى المدجنة منها الى الثورة والشارع، بخيال جديد كسر الاسوار في الواقع بتقنيات الحرية الافتراضية.
خالد علي اكمل الاربعين يوم فتح باب الترشيح، وتحدث في لقاءاته التلفزيونية عن رحلته من بيته في احدى قرى ضاحية امبابة الى مكتبه في وسط القاهرة، مستخدماً التوك التوك ثم الميكروباص، واحياناً التاكسي. ليست تجارة بالفقر، رغم شعار حملته «فلاح فقير... رئيس من التحرير»، لكنّه اعلان وجودي ضد نموذج المرشح التقليدي المعتمد على قاعدة شعبية لحزبه او جماعته، او مرجعية لنماذج الدولة المتعددة (اسلامية أو ناصرية). إنّه من خارج التركيبة المتعارف عليها، وصدامي مع اسس الدولة الامنية، وشبكات الرأسمالية المتوحشة، حيث يتعامل المرشحون الآخرون برفق مبالغ فيه، خوفاً من تهييج الاجهزة ضدهم، او رغبة في استخدام الشبكات لحل الازمات في حالة النجاح.
خالد من الجيل الثالث لحقوق الانسان في مصر، وضرباته كانت باتجاه تفكيك الدولة ما دمت لا تستطيع تغييرها. كانت قضاياه المهمة لاستصدار حكم من المحكمة بإلزام الحكومة اعلان حد ادنى للأجور، ثم سحب عقد منتجع «مدينتي» من شركة هشام طلعت مصطفى، احد الاطفال المدللين لنظام مبارك. تفكيك الدولة ومواجهة مفاصلها في المحكمة، اسست لخالد علي ارضية في قطاعات اجتماعية لم تزل بعيدة عن استخدام مصالحها في التأثير على اللعبة السياسية. من هذه الارضية يقفز برنامج خالد علي الى ارض موحشة بالنسبة لأصحاب الحسابات الواقعية. هو لا يعادي اقتصاد السوق، لكنّه يضعه ضمن منظومة تعمل فيها آليات الملكية العامة والفردية والتعاونية في اقتصاد انتاج، قريب من التجربة البرازيلية، وعبر مؤسسات تبني دولة لا قلعة للرئيس او للتيار الذي ينتمي اليه.
«رئيس من التحرير...» فكرة حلم، بعد ثورة كانت مثل الحلم الذي تحاربه اشباح الماضي، والرئيس وفق هذه الصورة ليس ملك الغابة الذي تنتخبه ليحميك ويقمعك بحركة واحدة.





بين مرشح الله ومنافسه التوافقي



لم يرمش جفن امينة المرأة في حزب الحرية والعدالة وهي تعلن أنّ «الله يدعم محمد مرسي»، ولم يفعل الشيخ الشهير في الاسكندرية عندما اكد أنّه لا اختيار، فمن لا يضع صوته لمرسي شخص آثم. لم يقل احد كيف يختار الله الرؤساء، ولا كيف ادرك الناس غضبه على من يبعد مرشح الجماعة عن الرئاسة. الايمان وليس غيره جوهر حملة الدعاية لكل مرشح اسلامي، وهو ما يصل مع جماعة الاخوان الى حافة التجارة الخالصة.. إذ تصلك على الهاتف المحمول رسالة تبدأ بـ«صوتك أمانة». والامانة هنا تعني ان يذهب صوتك الى صاحب مشروع نهضة مصر بمرجعية اسلامية، اي الى محمد مرسي، رمز الميزان.
وماذا تكسب اذا منحت صوتك للسيد مرسي؟ سيمنحك الاخوان صكاً ينجيك يوم القيامة، إذ تقول الدعاية إنّك اذا انتخبت مرسي فانّه سيكون لديك ما تقوله يوم تعجز الألسنة عن الاجابة... قل لربك يوم الحشر: «اخترت القوي الأمين، من خلفه حزب وجماعة انتشرت في بقاع الأرض تدعمه وتحميه وتحمل رؤوسها على أكفها فداء لمشروعها الإسلامي... ابتغاء مرضاة الله، ومن خلفهم شرفاء مصر والعالم. انشر». هل ستضمن الجنة اذا انتخبت مرسي؟ ماذا لديه؟ ولماذا؟ ما هو برنامجه؟ لا شيء سوى انّه المرشح الاسلامي... ماذا يعني ان يكون المرشح إسلامياً؟ هل سيحمل حبوباً فوارة يضعها في الماء فتهبط الحلول علينا من السماء، وتنبت لنا أجنحة وتتحقق دولة الملائكة؟ هناك اكثر من ٣ مرشحين يمكن وصفهم بأنهم اسلاميون، لكن لماذا يحمل مرسي وحده صكوك الجنة؟ الدعاية تقوم على اساس انّه اذا لم يكن لديك ما تبيعه، فلتبع الهواء، واذا لم يكن لديك برنامج سياسي مقنع، فلتبع بالقيمة التي لا يمكن الجدل حولها.
ليس لدى مرسي شيء، فليقل اذاً إنّه وحده مرشح الاسلام او الذي سيكمل إيمان ناخبيه. انّها محاولة جديدة لتزوير الإرادة، او بيع الهواء في زجاجات. إذ يبقى الناخب مسلماً اذا انتخب مرسي او لم ينتخبه، ويدخل الجنة بالحسنات والأعمال وليس من خلال التصويت للاخوان. الاخوان فازوا في الانتخابات بتزوير الإرادة، وهو أخطر من تزوير الصناديق. عندما تزوّر الإرادة وتقول انّك تنصر دينك عندما تنتخب إخوانياً او سلفياً، فهذه خدعة سياسية لا يمكن كشفها، عكس تزوير الانتخابات. وهذا ما جعل من يتصورون انّهم وكلاء الله، يفشلون في اول برلمان حر. يفشلون لأنّهم بلا كوادر حقيقية، فمرشح الجماعة اليوم مجرد احتياطي لمرشح آخر لا تسمح له إمكاناته خارج التنظيم الا بإدارة فرع من فروع اشهر متجر اسلامي في مصر، أي «التوحيد والنور»، وهو متجر يبيع السلع بأسعار شعبية، بعدما هربت الدولة من هذه المهمة. فكرة المتجر هي الفكرة المركزية في مشروع النهضة، كما قدمته الجماعة التي عرّتها الثورة من سحر الاضطهاد. الجماعة عجوز تلهث للخروج من نفقها لكن ليس لديها طاقة لتحمل تغيير الافكار او تجديدها، بعد تحكم القطبيين سياسياً والشطار اقتصادياً. وهذا يعني ببساطة أنّ الجماعة التي ظنت تيارات كثيرة انّها تعرف اكثر وتتحرك بثقة كبيرة، وتفهم ما لا يفهمه المراهقون في السياسة، او ما لا يعرفه الحالمون من الواقعية، هذه الجماعة تدخل الآن مرحلة مراهقة متأخرة عندما تتصور أنّها ستتمكن من حشد جمهورها مرة لمواجهة ناعمة مع العسكر، ومرة لتأييد مرشحها الإلهي.
إنّه استعراض القطبيين والشطار لإثبات انّهم قادرون على دخول حلبة مصارعة الثيران، رغم أنّهم لا يملكون الا اوراق لاعب مقامر في لعبة انتهت اصلاً. حرس القطبية القديم لم يعرف سوى المحافظة على التنظيم، وفي سبيله لم يلتفت الى بناء كوادر تستوعب الافكار الجديدة، او تجتهد في مجالات بعيدة عن بناء التنظيم من الفقة الى الاعلام، مروراً بكل ما يمكن ان يقدمه تنظيم كبير للحياة عموماً من افكار اقتصادية او اجتماعية.
القطبيون حافظوا على التنظيم بعدما افقدوه حيويته، او قوته الناعمة، وبقيت الكوادر المتوسطة، او التي لديها مهام في ادارة الماكينة، ومن هنا كان الشطار هم الجزء المكمل للقطبيين. الشطار هم وكلاء ادارة الماكينة المالية للتنظيم، وهم هنا يطبقون رأسمالية التجار القائمة على اقتصاد التوكيلات والمساهمة في المشاريع الصغيرة، مثل محال الالبان او الصيدليات (يكون للتنظيم فيها نسبة ٧٠٪، وفق ما هو متداول)، وهو نوع من اقتصاد لا يبني دولاً لكنّه يصنع الولاء لصاحب المفتاح الكبير في ماكينة المال، وهذا سر زعامة الشاطر وحاشيته من اخوان المال الشطار. هذه هي الجماعة التي يبدو أنّ الثورة لم تمسسها الا بما يوقظها من سنوات التقية والعمل السري او في اطار الاتفاقات والتنسيقات مع اجهزة الحكم الرئيسية (الامن والحزب الوطني) ايام مبارك. لم تفهم الجماعة انّ الثورة قامت على الفكرة الفردية، وهذا ما يجعل الاتوبيسات والحشود مشهداً خارج حسابات الثورة وفي قلب استعراضات القوة خلال حرب السلطة.
الجماعة تريد أن تقدم جديدها دائماً في اطار القديم المتصلب، وهذا ما يوسّع مساحة عبد المنعم ابو الفتوح التي كانت ضيقة في ظل سيطرة القطبيين والشطار. ابو الفتوح هو الامتداد العصري لمشروع الإخوان، والحياة القادمة للجماعة، بانفتاحها على القطاع المدني وخروجها من بناء تنظيمات السمع والطاعة.
قوة ابو الفتوح ليست في انشقاقه عن الجماعة، ولكن في انّه يضخ الحياة من جديد في مشروع «الاخوان»، ربما بما يبعدها عن المراكز القديمة ويحررها من سطوة الحرس القديم. وهذا يفتح المجال امام «جماعة جديدة» تخرج من اطار التنظيم الحديدي ورأسمالية التجار، لكن الى اين؟ هذا ما يدفع للتأمل في مشروع ابو الفتوح من اجل الرئاسة. ما هو الافق الذي يفتحه بعدما انغلقت جماعة الاخوان على نفسها؟
كيف تؤثر التيارات الليبرالية واليسارية المساندة لترشح ابو الفتوح في انفتاح مشروعه على افق حقيقي لا مجرد سراب يلهث خلف المنشق، بدون ان يعرف مدى حركته؟
ابو الفتوح يبدو محاولة في اطار تجديد التيار الاسلامي تشبه مثلاً خروج اردوغان من محارة اربكان في التجربة التركية، وهذا في حد ذاته انتصار كبير للسياسة التي يغلقها العقل العجوز في مكتب الارشاد. والمهم ايضاً انّ ابو الفتوح يستقطب شباباً لم يستوعب المرشد وتنظيم السمع والطاعة، وهو ما يعني انّ القوة الحيوية تفتح المجال الذي كان مغلقاً للمطرودين من رحمة المرشد.
واخيراً يبدو محيراً انّ في حملة ابو الفتوح ليبراليين ويساريين لم يدخلوا الحملة باتفاق سياسي واضح، وكأنّهم مجرد «مشجعين» بلا مشروع سياسي. لماذا لم يعلن عن مشروع يجمع بين المرشح الاسلامي والمساندين الليبراليين واليساريين على ارضية واضحة؟ لست من أنصار الرأي الذي يقول إنّ انفتاح ابو الفتوح خدعة، بل على العكس تماماً ارى ترشيحه والمساندة الليبرالية واليسارية له، وقد فتحت الأفق الذي كان مغلقاً. لكنّه افق متذبذب حسب الرياح الانتخابية، التي تجعل ابو الفتوح يذهب كلما اقترب موعد التصويت باتجاه السلفيين المسستميتين في اعلانه عن تطبيق الشريعة. كيف يجتمع التروتسكي مع السلفي في مرشح واحد؟ سؤال الارتباك الكبير بعد الثورة والذي يبدو فيه ابو الفتوح «فرصة» مكسب لتيارات تريد كسر هيمنة الجماعة. وهنا يجتمع اليساري والليبرالي مع جناح السلفية السياسية، مقابل الجناح السلفي المحافظ الذي يميل الى الجماعة، بينما تبتعد العلمانية الراديكالية عما يمثله ابو الفتوح من قيادة «الاسلامي» للتوافق. ابو الفتوح يلعب على التوافق ويتصوّر انّه صانعه، وهذا يدفعه الى صورة الرئيس المسيطر الذي يتكلم في كل شيء حتى في السجائر والخمر... والختان. صورته تلك تبدو اكثر ازعاجاً من توافقيته، ومن ميله الى شريحة جمهوره السلفي، خاصة انّه لا يقترب بعمق من اعادة تفكيك الدولة الامنية، ولا من تفكيك شبكات الرأسمالية المتوحشة، مكتفياً بكلام فضفاض عن التنمية الانسانية والعدالة الاجتماعية.
خسر ابو الفتوح جمهوراً ليس قليلاً عندما تكلم، بينما كانت مساحة توافقيته اكبر قبل الظهور العلني، وهذا يتعلق بقدرات شخصية لم تتدرب جيداً على الخروج من مجال الجماعة الى المجال العام. لا يزال ابو الفتوح اسير مقولة إنّ السياسة اعادة تربية للفرد، ليكون ضمن مشروع «دولة المؤمنين»، لكن التوافق على حملته ربما يدفعه الى قيادة تيار جديد ينهي استقطاب تنظيمات «الفرقة الناجية».