في مثل هذه الأيام، تحديداً، في الثامن عشر من أيار 1987، امتدت يد الغدر الطائفية، لتغتال المفكر الكبير مهدي عامل، الذي تحل ذكرى استشهاده، هذا العام، في ظل ثورات شعبية عربية، كان قد أشعل فتيلها الشهيد محمد البوعزيزي في تونس، وأخذ لهيبها في طريقه، أربعة أنظمة مستبدة. ثورات وصلت شراراتها إلى معظم الدول العربية، بما في ذلك لبنان. ففي تناغم مع ما بات يعرف بالربيع العربي، وتحت شعار «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي»، شهد لبنان، في العام الماضي، حراكاً مدنياً، كان من حسن حظ النظام وقواه السياسية الطائفية، أنّه لم يدم طويلاً. الأمر الذي يدفع إلى التساؤل، ألم يحن الوقت بعد، كي يعمل اللبنانيون، بجميع طوائفهم، من أجل تحويل شعار إسقاط النظام الطائفي إلى واقع ملموس؟ أما آن الأوان، لتخليهم عن القوى السياسية الطائفية، التي أقل ما يقال فيها، إنّها، أدخلت لبنان في أتون حرب أهلية حصدت مئات الآلاف من الضحايا، وإنّها، بحكم طبيعتها وارتباطاتها، تمثّل مع النظام الطائفي الذي تدافع عنه، خطراً مستداماً على السلم الأهلي والأمن والاستقرار في لبنان، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية والاجتماعية؟!
لكن، من قال إنّ اللبنانيين راغبون في تغيير طبيعة نظامهم السياسي؟ من قال إنّ الطائفية ليست مرضاً وراثياً مستعصياً، كان ولا يزال وسيبقى، ينخر جسم المجتمع اللبناني؟ إذ من أين لهذه القوى السياسية الطائفية الاستمرار، لولا تأييد اللبنانيين لها والتفافهم حولها؟ في محاولتنا للإجابة عن تلك التساؤلات، نقول بداية، إنّ وجود الأديان والمعتقدات، وانتماء الناس إليها، ليسا بالظاهرة الغريبة والطارئة على المجتمعات البشرية. فهي موجودة منذ الأزل. ولم يمثّل الدين، أو تعدد الطوائف، عائقاً أمام بناء الدولة العلمانية الديموقراطية الحديثة في العديد من دول العالم. وبناءً عليه، فإنّ جوهر المشكلة في لبنان ليس وجود الطوائف، بل تحول هذه الأخيرة إلى مؤسسات وأحزاب سياسية بفعل النظام السياسي ودولته الطائفية، الذي يسعى بكل قواه إلى الحفاظ عليها وضمان استمرارها. وهو ما كان قد عبر عنه الشهيد مهدي عامل بقوله: «إنّ تغيير الدولة التي بها تكون الطوائف طوائف، بإمكانه في شروط تاريخية محددة، هي التي فيها تقوم الدولة بتعطيل إعادة إنتاج الطوائف، ككيانات سياسية، أن يجعل من المجتمع اللبناني مجتمعاً متجانساً، حتى في تعدد طوائفه نفسه. ليس تعدد الطوائف بالمعنى الديني للكلمة، هو الذي يحول دون توحيد المجتمع وتجانسه، ودون توحيد الدولة وتجانسها، كدولة مركزية واحدة، وكأداة لتوحيد المجتمع». المفارقة أنّ قادة القوى الطائفية الأساسية في لبنان، سواء في الموالاة أم في المعارضة، لا يترددون في الزعم أنّهم ليسوا مع الطائفية السياسية، وأنّهم لا يعارضون الدولة العلمانية أو دولة المواطنة، وأنّ الواقع اللبناني، بتركيبته ودستوره، هو ما يدفعهم، رغماً عنهم، إلى الرضوخ للعبة الطائفية واستحقاقاتها. الحقيقة هي أنّه لا يمكن تصديق هذه المزاعم، لأنّ هذه القيادات هي اليوم صاحبة النفوذ والسيطرة والأمر والنهي في لبنان، وبإمكانها تغيير الواقع و الدستور، لكنّها لا تريد ذلك، لأنّ مصالحها، كما أشرنا سابقاً، لا تتحقق إلا باستمرار الطائفية كنظام ودولة وأيديولوجيا. هذه الأيديولوجيا التي لطالما كان لها الدور الأكبر في تشويه الوعي الوطني والطبقي للبنانيين، واستبداله بالوعي الطائفي، وإقناعهم، بأنّ ما يسمى فرادة المجتمع اللبناني وخصوصيته وتنوعه، يتطلب نظاماً سياسياً هو النظام الطائفي.
في هذا السياق، يمكن القول، إنّه لا يمكن الطائفية أن تسيطر كأيديولوجيا إلا إذا بنت دولة طائفية. ولما كانت الطبقة المسيطرة سياسياً هي المسيطرة أيديولوجياً، فإنّ التحرر الكامل من السيطرة الأيديولوجية لا يمكن أن يتحقق إلا بالتحرر من السيطرة السياسية لهذه الطبقة التي هي في حالة لبنان، البرجوازية الكولونيالية بشرائحها المتعددة، التي يعبر عنها، وينتمي إليها، زعماء الطوائف. من هنا يمكن القول، إنّ الهدف من تكريس الطائفية كنظام ودولة ووعي، هو الحيلولة دون ظهور قوى سياسية جماهيرية، ديموقراطية، علمانية، يسارية، جماهيرية تخوض الصراع على أساس انتمائها الطبقي والأيديولوجي. فإبقاء الوعي الطائفي هو شرط استمرار النظام السياسي الطائفي، واستمرار سيطرة زعماء الطوائف على طوائفهم. وإن بروز زعامات غير تلك الموالية للنظام الطائفي، يعدّ تهديداً لهذا الأخير. ولعل هذا ما يفسر، اغتيال زعامات من وزن الشهيدين معروف سعد وكمال جنبلاط، وربما، يفسر أيضاً، اغتيال الشهيد مهدي عامل، الذي أدّت أفكاره، ومساهماته النظرية والسياسية، دوراً مهماً في تعرية النظام الطائفي ودولته، وكشف الدور الذي تقوم به الأيديولوجيا الطائفية في تثبيت دعائم النظام، وتزييف وعي اللبنانيين.
نختم بالقول، إنّ المخرج من الأزمات المتعاقبة، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، التي يعانيها المجتمع اللبناني، يتطلب إسقاط نظامه السياسي الطائفي، وإحلال نظام سياسي جديد، يبنى على أسس ديموقراطية حقيقية، ويستبدل الدولة الطائفية، بدولة مدنية لجميع مواطنيها. فإذا كانت، شرارات البوعزيزي، التي وصلت إلى لبنان، هي شرارات قليلة، خفيفة، إلا أنّ إمكان تحوّلها إلى لهيب، كما حصل في العديد من البلدان العربية، هو إمكان قائم. فلبنان، ليس استثناءً.
* كاتب فلسطيني