إذا تحدثتَ في عمّان عن التصوّر التقليدي الذي ينظر إلى فلسطينيي الأردن بوصفهم ـــ كفلسطينيي سوريا ولبنان ـــ جزءاً من الشعب الفلسطيني، ستتّهمها أوساط فلسطينية، منها مثلاً قياديون في «حزب الوحدة الشعبية»، بالعنصرية. لكن حالما تتبنى وجهة نظر هؤلاء في المواطنية الكاملة لفلسطينيي الأردن، يتهمك رفاقهم من قياديي الجبهة الشعبية في بيروت أو الشام، بالتفريط في حق العودة والضلوع في مؤامرة التوطين. وبين هؤلاء وأولئك، سيكون على الأردنيين الانكفاء عن أي برنامج لبلورة هويتهم وكيانهم، وبالتالي، تأجيل استحقاقات التغيير الوطني الاجتماعي في الأردن.
لكن، لم يعد ممكناً إخضاع مشكلة الانقسام الأهلي في الأردن، للنقاشات الفلسطينية؛ فهي مشكلة أردنية، أولاً وأخيراً، مشكلة معيشة متعددة الأبعاد، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وثقافياً وأمنياً. وهي أبعاد حاضرة في الراهن، وتشل التنمية والديموقراطية والتحديث والثقافة، وتنزل بالقوى الاجتماعية إلى الاصطفاف في عصبيّتين، تتجاهلان، بدورهما، حقيقتين لا بد من مواجهتهما، هما:
1) أنّ مستقبل البلد كله مرتبط ببناء الدولة الوطنية الديموقراطية الموحدة، وتالياً ذات القدرة الدفاعية الفاعلة في مواجهة لا مفر منها مع التوسعية الإسرائيلية،
2) أنّ للأغلبية الشعبية في البلاد، بغضّ النظر عن أصولها، قضية مشتركة أخرى، هي قضية تنظيم قواها في منظمات نقابية وسياسية قادرة على الدفاع عن مصالحها، وقادرة على تكوين الكتلة الوطنية الاجتماعية اللازمة لانتصار مشروع تنموي مضاد للكمبرادورية والفساد والأمركة.
وأمام هاتين الحقيقتين، وما تفرضانه من مهمات، فإنّ أول نقطة منهجية ينبغي تسجيلها لتنظيم حوار جدي حول الوطنية الأردنية، هي ضرورة الفصل بين مشكلة الانقسام الأهلي في الأردن، من جهة، ومشكلات «الحل النهائي» للقضية الفلسطينية، من جهة أخرى. وهذا يعني أنّ علينا أولاً التوقّف عن تأجيل البحث عن حل للمشكلة الأولى بأبعادها المتعددة، وعلينا ثانياً بناء تصور مشترك لهذا الحل يقوم على أساس أولوية المصالح الوطنية المحلية، لا على أساس أولوية تسهيل ما يسمّى العملية السلمية.
النقطة المنهجية الثانية اللازمة، هنا، هي أنّه لا مناص أمام طرفي المعادلة الأردنية من اعتماد مبدأ الحلول الوسط أساساً لبناء وحدة الشعب والدولة، لا على أساس المحاصصة، ولكن بالنظر إلى تلك الوحدة بوصفها سياقاً اجتماعياً ـــ سياسياً مديداً ومتصاعداً للاندماج الوطني. على هذه الخلفية، تكون البداية الوحيدة الواقعية لبناء نموذج وطني لتجاوز الانقسام الأهلي، هي الاعتراف المتبادل بواقعتين تاريخيتين، هما:
أولاً، أنّ الأردنيين من أصل فلسطيني لما قبل فك الارتباط في 1988 أصبحوا أردنيين بالمعنى القانوني، وأنّ قسماً كبيراً منهم أصبح، بحكم عوامل اجتماعية وسياسية وثقافية، جزءاً لا يتجزّأ من التكوين التاريخي الأصيل للشعب الأردني. وعلى النخب الشرق الأردنية القبول الواعي والمرحّب بهذا التكوين الأساسي للوطنية الأردنية، وتمكين هذا القسم من الشراكة ـــ بالتدريج ولكن بثبات ـــ في العملية السياسية الوطنية، بلا عقد من أي نوع. ولتأكيد هذه الناحية، ومن دون أي مسّ بمواطنة الجميع قبل 88، علينا أن نلاحظ أنّ أكثر من نصف الأردنيين من أصل فلسطيني قد تأردنوا بالمعنى الجذري الشامل، أي أصبحوا أردنيين بالمعنيين القانوني والاجتماعي السياسي. ومن هؤلاء:
ـــ من خدم في أجهزة الدولة الأردنية المدنية والعسكرية والمؤسسات العامة، وخصوصاً من المتقاعدين.
ـــ الفعاليات المندرجة نهائياً في الحياة الاقتصادية والمهنية والاجتماعية والثقافية والنقابية والأحزاب السياسية الأردنية.
ـــ أبناء العشائر الممتدّة عبر النهر ومركزها في الأردن.
ـــ الأنسباء... وهنالك حالات أخرى فاتتني حتماً، لكن القصد هو الإشارة إلى أنّ عملية التأردن هي عملية اجتماعية وسياسية حقيقية، وآن الأوان لترجمتها في عملية التوحيد الاجتماعي الوطني.
ثانياً، إنّ العلاقة الخاصة بين الأردن والضفة الغربية، قد انتهت بالانفصال. وهو ما يتطلب العمل على تأطير هذه الواقعة السياسية، من الجانب الأردني، دستورياً وقانونياً، من جهة، وتضمينها في اتفاقية شاملة بين عمّان ومنظمة التحرير الفلسطينية، من جهة أخرى. ولعله ذو مغزى أنّ النظامين، الأردني والفلسطيني، توافقا على انفصال البلدين، سياسياً، منذ 1988، من دون أن يدوّنا ذلك في اتفاق حتى الآن. وهو ما أراه ضرباً من التواطؤ يتضمن السكوت على أجندتي التدخل المتبادل.
يستنكف النظام الأردني، من جهته، عن الاستجابة لمطلب الحركة الوطنية بإصدار قانون جنسية جديد يلحظ فك الارتباط مع الضفة الغربية ويوحّد معايير المواطنة وينهي دراما سحب الجنسيات ومنحها بالرشى والنفوذ. بالمقابل، تستنكف السلطة الفلسطينية، عن إبداء أي قلق حيال هجرة مواطنيها أو تنظيم إقاماتهم في الأردن أو البحث عن أسباب هجرتهم وتوخي معالجتها. فالفاسدون والمتنفذون هناك يريدون، أيضاً، التخفّف من ضغط الديموغرافيا الفلسطينية.
إنّ المزيد من الأردنيين من أصل فلسطيني (يشكلون نحو 40 بالمئة من المواطنين) باتوا يدركون اليوم أنّ السعي إلى تجنيس نحو مليون مهاجر جديد من مواطني الضفة الغربية وتوطينهم في البلاد هو سعي غير واقعي وتفجيري، فضلاً عن كونه جزءاً من المشروع الأميركي ـــ الإسرائيلي لتفريغ الأراضي المحتلة من سكانها.
منذ 1988، تكونت جالية فلسطينية في الأردن من مهاجرين ليسوا لاجئين ولا نازحين؛ إذ إنّهم مواطنون معترف بهم في الضفة، لكنّهم هاجروا منها طوعاً. وليس حل مشكلة هذه الجالية في تجنيس أفرادها، بل في تصميم برنامج اقتصادي اجتماعي يشجعهم على العودة إلى الضفة، كما يشجع الغزيين على العودة إلى غزة، وإعادة توطينهم فيها، لكن الحكومة الحمساوية، هي الأخرى، مشغولة، كنظيرتها في رام الله، عن مواطنيها، حتى ولو كانوا في وضع «البدون» البائس في المهجر الأردني.
تقترح الحركة الوطنية الأردنية، إطاراً قانونياً وسياسياً لوحدة الشعب الأردني على أساس معيار واحد للمواطنة، ووحدة كيانه وهويته الوطنية. وكما دمج الشعب الأردني، في تكوينه الذاتي، الشركس والشيشان والشوام وفلسطينيي ما قبل 48 والحجازيين، فتأردنوا، وأصبحوا جزءاً من الوطنية الأردنية، كذلك، تواجهه، اليوم، مهمة دمج القسم المتأردن موضوعياً في صفوف الأردنيين من أصل فلسطيني، لا على أساس وحدة هويتين، بل في إطار الهوية الوطنية والسياسية الأردنية. والمدخل إلى هذه العملية التاريخية يتمثل في أمرين: الأول تنجزه الدولة من خلال الإسراع في إصدار قانون جديد للجنسية يتضمن تعليمات فك الارتباط ويوحّد المعايير القانونية للمواطنة، والثاني تنجزه الحركة الوطنية الأردنية من خلال العمل الكثيف على استقطاب المواطنين المندمجين، اجتماعياً وسياسياً وثقافياً، بغض النظر عن أصولهم. وبخلاف ذلك، سيظل جزء مهم من الشعب الأردني تحت التأثير المتداخل للتنظيمات الفلسطينية المختلفة، وفي حالة عزلة سياسية عن الحراك الشعبي من أجل التغيير، كذلك سيظل قسم كبير من الكادحين الأردنيين، ملتحقين، سياسياً، بالكمبرادور تحت تأثير عصبيات الأصول الديموغرافية.
صار ضرورياً التحديد القانوني للجنسية وللعلاقة مع الكيان الفلسطيني، ومنح جميع مواطني الدولة، المساواة القانونية والفعلية، والفرصة الحقيقية لكي يصبحوا أردنيين سياسياً، من خلال الانضواء في صفوف الحركة الوطنية الأردنية، وفي إطار برنامجها الوطني الاجتماعي المربع الأركان، الاستقلال وتنظيم القدرات الدفاعية في مواجهة العدو الإسرائيلي، إسقاط الطبقة الكمبرادورية والنهج النيوليبرالي،الديموقراطية الاجتماعية وتنمية المحافظات والحكم الدستوري.
الغائب التاريخي في المعادلة الأردنية، أي العامل الوطني الشعبي، حضر منذ 2010، ويعزز حضوره السياسي والتنظيمي والمعنوي في حركة وطنية اجتماعية تعيد بناء المعادلة كلها. لذلك، لم يعد مقبولاً اليوم أن يكون الأردني فلسطينيّ الأصل، أردنياً بالجنسية، وفلسطينياً في السياسة؛ ذلك أنّ تلك الشيزوفرينيا ستعرقل مشروع التغيير الوطني الاجتماعي في البلاد أو تحوّله إلى حرب أهلية. وستكون هذه كارثة على البلد والمنطقة، على القضية الأردنية والقضية الفلسطينية معاً. اندراج فلسطينيي الأردن في وحدة الشعب الأردني ووحدة حركته الوطنية، لا يلغي، بالطبع، الحق الثابت بالعودة والتعويض للاجئين والنازحين منهم. ومع الأخذ بالاعتبار أنّ قسماً من فلسطينيي الأردن أصبح، بغض النظر عن مآلات القضية الفلسطينية، جزءاً لا يتجزأ من التكوين الأردني، فإنّ قضية العودة هي في النهاية قضية نضالية لكل الأردنيين، ولا يمكن حذفها من مهمات النضال الأردني ضد إسرائيل. (وتشمل تلك المهمات تحرير أراض أردنية مغتصبة أو مؤجرة أو مملوكة من قبل الإسرائيليين، واسترداد الحقوق المائية الأردنية في نهر الأردن وعروبة القدس... الخ).
وضّحنا سابقاً بعض ملامح الإطار الوطني الديموقراطي لإعادة بناء الدولة الأردنية على أساس وحدة الشعب والهوية والمصالح. وهي ليست مجرد دعوة، بل توصيف لعناصر أساسية في عملية توحيد وطني جذرية متشعّبة المجالات السياسية والإدارية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، تمثّل معاً مشروعاً وطنياً مشتركاً يستند إلى التراث الوطني التقدمي المحلي والعربي. لذلك، لا يمكن أن تكون متعجلة أو معدة وفق وصفات جاهزة أو في خدمة قوى انتهازية.
ولا يمكن تحقيق الصهر الوطني من دون إعادة الاعتبار إلى السياسة كتعبير عن الحداثة، أي كممارسة يستطيع من خلالها المواطن والمجتمع، السيطرة على حياته وتطوّرها. ولا سيطرة كتلك، من دون السيطرة على الاقتصاد لمصلحة المجتمع والسيطرة على العلاقات الخارجية لمصلحة الدولة. الحداثة هي قدرة الفرد على المشاركة الفاعلة في تقرير مصيره ومصير مجتمعه وبلده في عملية ديموقراطية في سياق مشروع وطني ودولة وطنية. وأول عناصر الحداثة، اندراج المواطنة في دولة وطنية موحدة. وبالمقابل، إنّ المواطنة المستندة إلى المحاصصة تلغي وحدة الدولة وتحوّل الديموقراطية إلى سياق يخدم المشروع الأميركي ـــ الإسرائيلي.



الفلسطينيون ـ الأردنيون والجالية الفلسطينية

بخلاف سوريا ولبنان، حيث يحتفظ اللاجئون الفلسطينيون منذ 1948، بهويتهم السياسية والاجتماعية، ويتحدد وجودهم كلاجئين موجودين خارج البنى المحلية، تحوّل الفلسطينيون اللاجئون في الأردن منذ 1950 إلى مواطنين أردنيين، بالنظر إلى قيام وحدة اندماجية بين الأردن والضفة الغربية. وهي الأراضي التي استطاع الجيش الأردني الاحتفاظ بها من الأراضي الفلسطينية في حرب 1948. وقد اعتبر مواطنو الضفة الغربية ـ واللاجئون إليها واللاجئون إلى الأردن نفسه من مناطق 48 ـ مواطنين في الدولة الاندماجية التي جرى بناء كامل مؤسساتها الدستورية والسياسية والعسكرية والمدنية على أساس المناصفة في ظل الاندماج.
حتى 1964 ـ حين جرى تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ومن ثم تأسيس فتح في 1965 ـ كانت القوى الوطنية والشعبية الفلسطينية قد اندمجت في أحزاب موحدة على مستوى المملكة. وعلى سبيل المثال، اتحدت عصبة التحرر الوطني الفلسطينية مع المجموعات الشيوعية الأردنية في حزب واحد، كذلك فعل البعثيون والقوميون العرب، بينما اندمجت النخب السياسية والاجتماعية والاقتصادية للدولة الجديدة، اندماجاً كاملاً.
بعد هزيمة 1967 ووقوع الضفة الغربية تحت الاحتلال، وجدت دعاوى فتح الانفصالية ـ التي كانت معزولة قبل ذلك ـ آذاناً صاغية لدى أقسام واسعة من فلسطينيي الدولة الاندماجية الذين بدأوا يؤيدون الانفصال الفلسطيني عن الأردن، مبرزين هوية فلسطينية مستقلة عنها. حتى القوميون العرب التحقوا بهذا الاتجاه، مؤسسين الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ـ بتفرعاتها اللاحقة ـ في حين رفض هذا الاتجاه قسم آخر من الفلسطينيين شمل النخب السياسية وكذلك الشيوعيين والبعثيين. مقاومة مؤيّدي الدولة الاندماجية ظلت فاعلة حتى صدامات 1970 بين الجيش الأردني ـ الذي أيدته غالبية الشرق أردنيين ـ والمنظمات المسلحة التي أيدتها غالبية الفلسطينيين. وهزمت المنظمات، بسرعة وسهولة، لسبب سياسي أولاً، إذ تحوّلت من قوى مقاومة شرعية تعبر عن الدولة الاندماجية إلى منظمات انفصالية تقاتل على أرض الإقليم الذي تريد الانفصال عنه.
أحدثت صدامات 1970 شرخاً عميقاً بين الشرق أردنيين والفلسطينيين الذين ظلوا مواطنين، لكنهم أصبحوا الآن مؤيدين بصورة حيوية وشبه كاملة للانفصال الفلسطيني تحت شعار «منظمة التحرير هي الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني». ونشأت بذلك مشكلة التناقض بين الهوية والمواطنة.
في 1988، رضخ الملك حسين لمطالب الانفصال الفلسطينية ـ والأردنية والعربية ـ وصدر بالتالي قرار فك الارتباط مع الضفة الغربية، وكان ذلك مقدمة لإعلان المجلس الوطني الفلسطيني في العام نفسه «الدولة الفلسطينية» في مناطق 67 بما فيها، بالطبع، الضفة الغربية والقدس الشرقية. وبموجب تعليمات فك الارتباط، فإن الفلسطينيين الحاصلين على الجنسية الأردنية والمقيمين في الأردن بصورة دائمة قبل 1988 ظلوا مواطنين. وبذلك نشأت جماعة الفلسطينيين ـ الأردنيين في الدولة الأردنية، وهي تشكل حوالي 40 بالمئة من المواطنين الأردنيين.
لم تطرح هذه الجماعة مطالب سياسية خاصة بها، وتعاملت مع مواطنيتها في دولة أخرى، غير الدولة الفلسطينية، كصيغة عملية مؤقتة. لكن اتجاه الأحداث بعد أوسلو، وخصوصاً لجهة تعثر الحل واستبعاد شموله اللاجئين، وتعثر نشوء دولة فلسطينية وانكشاف ضعف قدرتها حتى لو نشأت في استيعاب اللاجئين والنازحين، أوجد تياراً قوياً بين الأردنيين ـ الفلسطينيين للتصالح مع واقعهم. وبدأت نخبهم تطرح مطالب سياسية صريحة داخل الدولة الأردنية. وقد نجم عن ذلك توتر عميق أصبح أحد المحاور الرئيسية في الحياة السياسية في الأردن، منذ أواخر التسعينيات من القرن العشرين.
الفلسطينيون الأردنيون الذين تحوّلوا ـ في الآن نفسه ـ إلى جماعة خارج العملية السياسية الفلسطينية وذات هوية منفصلة داخل الدولة الأردنية، أي مندمجين ولا مندمجين معاً، أصبحوا يشكلون ظاهرة فريدة في صفوف الشعب الفلسطيني، من المهم دراستها من حيث الحضور الديموغرافي الاجتماعي واتجاهات وآليات المشاركة الاقتصادية والسياسية والثقافية في ضوء مشكلات الهوية والاندماج.
وقد أدى انطلاق الحراك الشعبي الأردني، منذ 2010، والصعود غير المسبوق للحركة الوطنية الأردنية، إلى طرح مسألة المواطنة والاندماج الوطني على بساط البحث، خصوصاً أنّ القسم الرئيسي من الأردنيين ـ الفلسطينيين، اتخذ استراتيجية النأي بالنفس عن الصراع السياسي ـ الاجتماعي المحتدم في البلاد.
منذ 1988 وحتى الآن، هاجر إلى الأردن، بشكل طوعي، ما يزيد على المليون من مواطني الضفة الغربية. ونشأت، بالتالي، جالية فلسطينية كبيرة، تم تجنيس حوالي 94 الفاً منهم من خلال الرشى أو ضغوط المتنفذين. وبالإضافة إلى الولايات المتحدة، وُجد تيار محلي بين الأردنيين ـ الفلسطينيين، يطالب بمنحهم، مع حوالي ثلاثماية ألف من النازحين الغزيين، الجنسية الأردنية.
في حالة ما، إذا تم تجنيس مهاجري الضفة لما بعد الـ88 ونازحي غزة، سوف يرتفع المكوّن الفلسطيني من المواطنين الأردنيين إلى حوالي 60 بالمئة، مما يهدد التوازن الداخلي، ويؤدي واقعياً، لقيام صيغة ديموغرافية للوطن البديل. وهو ما يواجه معارضة قوية من قبل الحركة الوطنية التي تقترح صيغاً لمعالجة المشكلة الإنسانية للجالية الفلسطينية من خلال تأطير وجود أفرادها قانونياً كمقيمين فلسطينيين، وإعتماد حوافز اقتصادية لضمان عودتهم إلى ديارهم.






بين «الأسد الجريح» و«الأسد المتأهّب»: عمّان ترنو إلى بغداد



إذا جمعنا الرغبة الأردنية العميقة في قيامة الأسد الجريح في دمشق، مع براغماتية عمّان التي بلا حدود، فإنّ اليوم الذي يتغيّر فيه الموقف الأردني من الصراع في سوريا، سيشير إلى أنّ النظام السوري بات ضعيفاً جداً.
هذه المرونة الاستثنائية في السياسة الأردنية ـــ التي يعود إليها الفضل حتى الآن في تلافي آثار الصدمات الكبرى ـــ هي التي تكمن وراء دهشة المراقبين من الموقف الأردني المتحفظ إزاء الأزمة السورية، كما تفسّر الشكوك حول درجة صدقيته. لكن ما إن ندقق في المعطيات الخاصة بالبلد، حتى ندرك أنّ للدولة الأردنية مصلحة أساسية في تلافي الفوضى الأمنية وتوطّن المنظمات الإرهابية في سوريا (المتداخلة، مع الأردن،جغرافياً وديموغرافياً) أو قيام حكم إسلامي فيها، أو حكم يفرّط بالممانعة ـــ التي يفيد منها الأردن لمواجهة الوطن البديل من دون أن يدفع تكاليفها ـــ أو قيام وضع يدفع الفلسطينيين ـــ السوريين إلى هجرة جماعية صوب البلد المكتظ باللاجئين والنازحين.
وحتى يتضح وضع الأسد الجريح، يمكننا أن نثق بما يقوله العسكريون الأردنيون من أنّ مناورات «الأسد المتأهب» ليست موجهة إلى السوريين، أو ــ للدقة ــ أنّها لا تعني أنّ الجيش الأردني سيتدخل أو يسهّل تدخلاً عسكرياً في أراضي جاره التوأم. لكن هذا التدخل قد يحدث، فقط، إذا توافر شرطان متلازمان: سقوط النظام السوري فعلاً، وحدوث فوضى شاملة. وذلك لتحقيق مهمتين محددتين، هما: تأمين الحدود المشتركة وضبط حركة الميليشيات وحركة اللجوء، وتأمين الأسلحة البيولوجية والكيميائية السورية، لئلا تقع في أيدي ميليشيات أصولية.
لكن دوائر القرار في عمّان، لا تزال ترى أنّ نظام الرئيس بشار الأسد باقٍ، بينما ترجّح، بالمقابل، فترة طويلة من عدم الاستقرار الأمني والعمليات الإرهابية. لذلك، يظلّ الهمّ السوري، بالنسبة إلى الأردن، هماً أمنياً بالدرجة الأولى؛ كالخوف من انتقال العدوى، ونزوع إسلاميين محليين نحو استراتيجية إرهابية، ومراقبة تسلل الإرهابيين، وخصوصاً من جماعة «فتح الإسلام» التي قد تجد لها حاضنة مهيأة في المخيمات الفلسطينية المتأسلمة في البلاد. وكل ذلك يقتضي السعي إلى تفكيك الشبكات الإرهابية الموجهة نحو سورية، لا العكس.
يؤكد رئيس هيئة العمليات في الجيش الأردني، اللواء الركن عوني العدوان، أنّ مناورات «الأسد المتأهب»، المقررة منذ ثلاث سنوات، تجري تحت سيادة البلد المضيف وقيادته، وأنّ مشاركة الجيش الأميركي فيها تماثل سواها من المشاركات من 19 دولة، نافياً بشدة أن تكون المناورات تستهدف سوريا «التي نحترم سيادتها».
لكن طبيعة التدريبات على سيناريوات «حرب غير تقليدية» تعنى بـ«مكافحة التمرّد وأمن الحدود والإسناد الجوي واستيعاب هجمات بأسلحة غير تقليدية»، لا يمكن فصلها عن الاحتمالات الممكنة للتطورات في المنطقة، بما فيها الخليج وسوريا.
بين الأسدين، تتطلع عمان إلى الخروج من الضغوط المتعاكسة، إلى أفق يكفل لها، أيضاً، التعامل مع معطيات الضغوط الداخلية، الإقتصادية ـــ الاجتماعية. والأفق، هذه المرة، ينفتح شرقاً نحو العراق.
لا أظن الملك عبد الله الثاني، قد ندم على تصريح مثل ندمه على تصريح أطلقه، أواسط العقد الماضي، عن مخاطر قيام «الهلال الشيعي». فلم يكن مساعدوه المغرورون، وقتذاك، بالدعم الأميركي ـــ السعودي المزدوج والسخي، وبالدعم الشعبي الداخلي للمقاومة العراقية السنية الطابع، يدركون أنّ الأردن ـــ رغم تسنّنه ـــ يقترب من أن يكون عراقياً، وبالتالي «شيعياً» بالمعنى السياسي.
في بغداد، صرح رئيس الوزراء، نوري المالكي، بأنّه أبلغ وفداً أردنياً رسمياً، زاره الخميس الماضي (17 أيار 2012) «باستعداد العراق لتحقيق مستويات أعلى من التعاون مع الأردن في مجالي الطاقة والاقتصاد». لكن المالكي، للمفارقة، لم يكن يتحدث مع الوزراء المعنيين بهذين المجالين، بل مع مستشار الملك وسكرتير مجلس السياسات، عبد الله وريكات، ورئيس هيئة الأركان المشتركة للقوات المسلحة الأردنية، الفريق الركن مشعل الزبن. ونلاحظ، هنا، مفارقة أخرى تتعلق بقائد جيش تنعقد مناورات دولية كبرى في بلده، لكنّه يتركها، ليناقش في بغداد، شؤوناً اقتصادية!
لا يعني ذلك أنّ التعاون النفطي والاقتصادي بعامة، بين البلدين، لم يكن، فعلاً، على جدول أعمال الوفد، بل يعني أنّه مطروح في سياق أشمل، سياق تجديد العلاقات الاستراتيجية التي كانت قائمة بين عمّان وبغداد، قبل الاحتلال الأميركي في 2003.
هذه، كما يظهر، هي وجهة السياسة الأردنية في المرحلة المقبلة. وهي تسعى، هنا، إلى تحقيق ثلاثة أهداف، هي:
أولاً، السعي إلى الخروج، عبر العراق، من الأزمتين الخانقتين، المالية والاقتصادية؛ فالفاتورة النفطية أصبحت عبئاً لا يطاق على البلد، وتبيّن أنّه لا حل لها، في المدى المنظور، إلا بنفط عراقي رخيص كالذي كان يحصل عليه الأردنيون من عراق صدام حسين، بينما البديل هو إزالة الدعم الحكومي كلياً عن المشتقات النفطية والكهرباء، ما يهدد بموجة تضخمية وردود فعل اجتماعية لم تعد مأمونة العواقب، في ظل حراك شعبي مثابر ومتصاعد الراديكالية. ومن جهة أخرى، اكتشف الأردنيون أنّ السوق الأكثر مرونة والأكبر حجماً بالنسبة إلى كل القطاعات الاقتصادية (الزراعة والصناعة والتجارة والنقل والخدمات والبنوك إلخ) هي السوق العراقية التي ظلت، لعقود، السوق الرئيسية للحيوية الاقتصادية الأردنية الفائضة عن ضرورات البلد الصغير.
ثانياً، السعي إلى الخروج من مأزق الأحادية في العلاقات الإقليمية المحصورة الآن في السعودية والخليج. وقد راهنت عمّان، في عام الربيع العربي، على نوع من العلاقة الخاصة مع دول مجلس التعاون الخليجي، لكنّه رهان انتهى إلى صيغة قَطرية تساوم الأردن على الامتثال لخططها الإقليمية، سواء لجهة التدخل في سوريا أو لجهة تشكيل حكومة إخوانية أو لجهة التمكين لحماس. وحين توصّل رئيس الوزراء القَطري، حمد بن جاسم، إلى استحالة الخضوع الأردني لمتطلباته، انتقل إلى موقف عدائي، بما في ذلك عرقلة مشروع العلاقة الخاصة التي أملها الأردنيون مع «مجلس التعاون»، بل والشروع في الحديث نصف العلني عن ضرورة تغيير النظام الأردني.
علاقة عمّان بالرياض متينة. لكن السعودية ـــ التي تمثّل الداعم المالي الرئيسي للبلاد ـــ تجد نفسها اليوم في مواجهة مآزق داخلية وخارجية، تجعلها تترجرج بوصفها حليفاً يمكن الاعتماد عليه. ويمكن القول إنّ المملكة ـــ ذات الإمكانات الضخمة ـــ تظهر نوعاً من الحرص الذي يقترب من البخل، إزاء الاحتياجات الأردنية، المتصاعدة والملحة، للدعم المتنوّع الأشكال. وهي، إلى ذلك، أرادت، وتريد من عمان، أدواراً سياسية وأمنية لا تأخذ بالاعتبار المعطيات والضغوط ـــ وخصوصاً الداخلية ـــ التي يواجهها النظام الأردني. ويقوم الأخير ـــ وإنْ يكن بالحد الأدنى ـــ بالتساوق مع المطالب السعودية، إلا أنّه بدأ يرى في هذا النمط من العلاقة مع السعودية، قيداً على حركته وخياراته. إلى ذلك، علينا أن نتذكر، دائماً، في أي تحليل للعلاقة الأردنية ـــ السعودية، الخلفية التاريخية للعداء التقليدي بين الأسرتين المالكتين.
ثالثاً، السعي إلى الحصول على الدعم السياسي من العراق، وعبره، من خلال تفاهم، ولو ضمنياً، مع إيران وحلفائها، لتلافي الوقوع تحت رحمة التطورات السياسية في إسرائيل التي ربما وجدت الفرصة سانحة، في المدى المنظور، للقيام بكسر الستاتيكو الحالي في الشأن الفلسطيني، واستغلال الفراغ الحاصل في المنطقة، وفرض خططها الخاصة بتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن.
ولا يتناقض هذا المسعى الأخير، مع التحليل الذي يرى أنّ زيارة الوفد الأردني، فوق العادة، لبغداد، تأتي في سياق يتعلق بالمواجهة المحتملة بين الولايات المتحدة وإيران. بالعكس، إنّ الوساطة الممكنة هنا، تحمل، في مضمونها، معاني ودية أكثر مما تحمل من «رسائل».
هل يسعى المالكي، بدوره، إلى تقليد استراتيجية صدام حسين القاضية بضمان مستوى عال من النفوذ العراقي في الأردن، انطلاقاً من رؤية تجد أنّ هذا البلد يظلّ ـــ بغض النظر عن السياسات اليومية ـــ مجالاً حيوياً للعراق، أم أنّ فتح الباب العراقي موارباً أمام عمان، لا يزيد على مداخلة مؤقتة وجزئية من المالكي للضغط على معارضيه السنّة وداعميهم السعوديين؟
سننتظر لمعرفة الإجابة عن هذا السؤال، لكنّنا نستطيع التأكيد أنّ عمّان تحاول، على الأقل، تنويع خياراتها الإقليمية، بينما تدرس بغداد العرض والمعلومات والرسائل.