نشبت ثلاث حرائق داخل بيوت مجاورة للبيت السوري: لبنان (1975-1990) وتركيا (1984-1999) والعراق (2003-2008). لم يمتد أي منها إلى الداخل السوري، بل استفادت دمشق من تلك الحرائق لإنشاء دور اقليمي غير مسبوق بعدما كانت ملعباً للآخرين في الأربعينيات والخمسينيات من القرن العشرين.عندما نشبت الأزمة السورية، وعلى مسار زمني ممتد لخمس سنوات مضت، كان الحريق مختلفاً عن الحرائق المجاورة: لم تحصل حرب أهلية كما حصل في لبنان والعراق عندما تفككت الدولة والسلطة وحملت المكونات المجتمعية السلاح ضد بعضها البعض، أو في تركيا عندما تحوّل تمرد حزب العمال الكردستاني إلى صراع بين قوميتين بدلاً من أن يكون صراعاً بين سلطة وحزب متمرد عليها. في فترة «ما بعد درعا» ظل النزاع السوري في إطار مجابهة بين سلطة ومعارضة مدنية سلمية، قبل أن يتجه الكثيرون إلى حمل السلاح منذ أيلول 2011. ما منع نشوب حرب أهلية هم «سُنَة سوريا العرب» الذين انقسموا بين ثلاثة مواقف في السنوات الخمس الماضية متساوية الحجم: موالاة ومعارضة وتردّد، ولم يتصرفوا كطائفة بل كجسم اجتماعي تحركه الدوافع الاقتصادية - الاجتماعية - الثقافية – السياسية، فيما كانت الطوائف الاسلامية والمسيحية السورية الأخرى (ومنهم الأكراد الذين تصرفوا كجماعة قومية لم تعارض السلطة بل استغلت الأزمة لفرض أمر واقع على الأرض) في حالة شبه اجماع وأكثرية كاسحة مع السلطة. كان هذا الدعم من سُنَة سوريا للسلطة السورية، عند تجار ورجال أعمال وصناعيي مدينتي دمشق وحلب والفئات الوسطى بهما، هو الذي منعها من السقوط وليس الآخرون، ولو كان هذا غير موجود لكان دعم الآخرين من الطوائف الأخرى وأيضاً ولاء الجيش والدعم الخارجي والاقليمي في موسكو وطهران، غير كاف لمنع تكرار ما جرى مع حسني مبارك يوم 11 فبراير 2011.
كانت القاعدة الاجتماعية للمعارضة السورية في «الريف السني» وفي مدن تضررت اقتصادياً من تحوّل الطرق عنها ومن درجات قياسية في فساد الإدارة المحلية الحكومية (حمص) أو هُمشت ولم تستفد مما كانت تقدمه من موارد عبر النفط والفرات والزراعة (دير الزور) أو عاشت في حالة تهميش مديدة (مدينة ادلب وبلدات محافظة ادلب)، فيما كانت حركة الإخوان المسلمين في مجابهتها أعوام 1979 -1982 مع السلطة تستند لمدينتي حلب وحماة وإلى مدينة ادلب وبلدات محافظة ادلب، بينما وقف الريف السني، ومدينة دمشق، مع سلطة الرئيس حافظ الأسد آنذاك.
هنا، يلاحظ أن قادة الفصائل المسلحة المعارضة كلهم من الريف في فترة 2011-2016، بينما كان العمل المسلح للإخوان المسلمين في السبعينيات والثمانينيات يقوده قياديون من أولاد المدينة في حماة وحلب (مروان حديد - عبد الستار الزعيم - عمر جواد - حسني عابو - مصطفى قصار - مع استثناء عدنان عقلة الذي كان من نازحي الجولان ثم مقيماً في مدينتي الطبقة وحلب). كان خراب وتدهور الزراعة في فترة 2004 -2010 هو المفتاح إلى الخريطة الاقتصادية – الاجتماعية – الثقافية – السياسية للمعارضة في فترة «ما بعد 18 آذار 2011»، وهو السبب في تسيّد السلفية الاسلامية على «الإخوانية» بخلاف فترة 1979-1982 حيث السلفية حركة ريفية أساساً من حيث القاعدة الاجتماعية بينما الأصولية مدينية القاعدة الاجتماعية في الغالب. بينما كان صعود حزب البعث في الخمسينيات عبر أرياف حماة وحلب وادلب والساحل وحوران عندما لم يكن التيار الاسلامي قد دخل حالة المد التي بدأت مع هزيمة حزيران 1967.
انخفض مستوى المعارضة من
ناحية الحرفية السياسية أعوام 2011-2016

أظهر سوريون في الأزمة (والأزمة كتعريف هي استعصاء توازني في نزاع داخلي يمنع أحد طرفيه من التغلب على الآخر، وفي الوقت نفسه لا يستطيعان لوحدهما الوصول إلى تسوية بينهما) ميولاً إلى استعمال العنف وصلت الى حدود عالية من دون وسواس وقائي داخلي مضاد عندهم، وذلك في طرفي الموالاة والمعارضة فاقت ما ظهر في الجزائر 1992-2002 والعراق 2004-2008. كان هذا مفاجئاً بالقياس إلى الصورة النمطية العامة للسوري: تسووي وغير قصووي ليس لديه خشونة العراقي ويحاول استعمال دهاء التاجر الدمشقي وكياسته وليونته في تحقيق ما يريد. ويقال بأن هذا ما كان يخشاه نوري السعيد من تغلّب الشامي على البغدادي لو تحققت وحدة «الهلال الخصيب». في هذا الإطار كان ملفتاً للنظر عدم قدرة السوريين في الأزمة على إقامة جسور بين القوى المتنازعة والتيارات السياسية وعدم قدرتهم على انتاج تسوية داخلية. وهو ما كان مدخلاً إلى أقلمة الأزمة منذ أيلول 2011 ثم إلى تدويلها مع مبادرة عنان في آذار 2012، فيما كان هناك في الخمسينيات صداقة وودّ بين أمين عام الحزب الشيوعي خالد بكداش ومراقب عام جماعة الإخوان المسلمين مصطفى السباعي، وقد ربطت صداقة قوية بين بكداش والمفتي أحمد كفتارو امتدت من المدرسة الابتدائية إلى يوم وفاة بكداش عام 1995. وفي يوم 16 تشرين الثاني 1970 كانت محصلّة حركية تلاقي القوى أن اجتمع وراء وزير الدفاع السوري حافظ الأسد في حركته ضد سلطة 23 شباط 1966 كل من خالد بكداش وجمال الأتاسي (أمين عام حزب الاتحاد الاشتراكي) وتجار دمشق وجماعة الإخوان المسلمين.
من جهة أخرى كان ملفتاً للنظر، أيضاً، انخفاض مستوى المعارضة السورية من ناحية الحرفية السياسية أعوام 2011-2016 بالقياس لفترة أحداث 1979- 1982 في بلد كان الأفضل عربياً من حيث تقديم المؤسسين للتيارات الفكرية السياسية العربية: رشيد رضا (الطرابلسي رئيس المؤتمر السوري العام الذي نصب الملك فيصل ملكاً على سورية عام 1920، وهو أستاذ حسن البنا مؤسس جماعة الاخوان المسلمين) - محب الدين الخطيب: مؤسس السلفية كتيار فكري سياسي هو ودمشقي آخر هو الشيخ ناصر الدين الألباني - ميشال عفلق - ياسين الحافظ). وكان بلداً أفرز قامات سياسية عربية كبرى (خالد بكداش - أكرم الحوراني - مصطفى السباعي - رشدي الكيخيا). على الأرجح كان سبب هذا الانخفاض هو اتجاه المجتمع السوري إلى الصيام عن السياسة بعد حماة في شباط 1982 قبل أن يكسر صيامه هذا في درعا ـ آذار2011 ، جعلته في حالة شبيهة بنزول لاعب كرة القدم للملعب بعد انقطاع مديد عن التدريب والمباريات. أكثر ما لوحظ هذا الضعف في المستوى والحرفية السياسيتين عند المستقلين والشباب الذين أتوا بعد 18 آذار 2011 إلى النشاط السياسي فيما كان أفضل مستوى من كان في الأحزاب المعارضة أو من أتى منشقاً عن السلطة من الجهاز الإداري أو الدبلوماسي. في الغالب كان هذا هو السبب في النزعة الشعبوية عند المعارضين عام 2011، مستقلين وأحزاباً. نزعة اتبعت رسم السياسة على أساس مبدأ «ما يطلبه الجمهور» وليس مثل ما فعل لينين بعد ثورة عفوية في شباط 1917 لما قدم برنامجاً في «موضوعات نيسان» كان ضد أكثرية الحزب البلشفي وضد القوى المشكلة للحكومة المؤقتة التي أتت بعد سقوط القيصر من أحزاب «الكاديت» و«الاشتراكيين الثوريين» و«المناشفة». ولولا ذلك ما كانت لتحصل ثورة أكتوبر 1917. هذا أيضاً قاد عند سياسي يشعر بضعف جذوره الداخلية الاجتماعية أو خارج من السجون أو الصمت القسري في أحزاب محطمة بعد الضربات الأمنية، إلى التنظير لسياسة رسم السياسة على ايقاع مبدأ «الشعب يريد»، فيما كان واضحاً من الأسابيع الأولى وبالتأكيد من الأشهر الأولى بأن الشعب السوري (وهذه حالة ما زالت حتى عامنا الحالي) هو مقسوم بين ثلاثة أثلاث متساوية هي الموالاة والمعارضة والتردد... ولو أن هناك ميولاً اجتماعية كبرى عند هذه الأثلاث تجمعها لتصب في «نهر التسوية» تلاحظ في عامي 2015 و2016. أيضاً هذا الضعف في الجذور الداخلية هو الذي قاد معارضين كثيرين منذ 2005 ومن ثم منذ خريف 2011، بعد نزعة قصيرة عند هؤلاء للاتكاء على حراك داخلي يكون رافعة لتحقيق الهدف، نحو نزعة الاستعانة بالخارج من أجل حسم نزاع داخلي. وكان هؤلاء منذ صيف2011 من أكثر المتشددين في رفض «التسوية» التي طرحتها «هيئة التنسيق» يوم تأسيسها في 25 حزيران 2011، ثم في مؤتمر حلبون يوم 17 أيلول 2011.
في المجتمع السوري تُلاحظ حالات أرقى من سياسيي السلطة والمعارضة ومن المثقفين في مواضيع «الاندماج الاجتماعي العابر للأديان والطوائف» و«النزوع نحو التسوية»: ما زالت العروبة قوية وهذا يمكن تلمسه في اجتماع مثلث السلطة – الائتلاف – هيئة التنسيق، على رفض «فيدرالية الرميلان» التي أعلنها بعض الأكراد يوم 17 آذار 2016، ولو أن هناك انزياحاً يمكن تلمسه هنا أو هناك نحو «وطنية سورية نابذة للعروبة» ما زالت جنينية وضعيفة وغير واضحة المعالم.
في المقابل يمكن تلمّس، منذ عام 2014، حالة طلاق بين شرائح واسعة من السُنة العرب والاسلاميين في حركة تاريخية مفصلية على الأرجح تدل على بداية الجزر وانتهاء مد التيار الاسلامي البادئ منذ عام 1967. كذلك هناك انتهاء لموجة فكرية - سياسية مثلتها «الليبرالية الجديدة» عند ماركسيين متحولين بعد سقوط وتفكك الاتحاد السوفياتي، على الأرجح كنتيجة وبالترافق مع ذيلية أظهرها هؤلاء تجاه الاسلاميين في «اعلان دمشق» و«المجلس الوطني» و«الائتلاف»، ولكي يكون هناك تراجع وانتهاء في المد عند هؤلاء بالتوازي مع بداية تراجع وانتهاء مد التيار الاسلامي. من المرجح أن تؤدي هذه التطورات التراجعية عند «الاسلاميين» و«الليبراليين الجدد» إلى بداية انتعاش في التيار الماركسي السوري وإلى بداية موجة يسارية سورية مثل التي شهدتها دمشق في فترتي 1945-1947 و1955-1958.
* كاتب سوري