الخليج! إنّه اليوم وحدة جيوسياسية منتظمة فعلاً، موحدة في سياق الصراع الإقليمي ـــــ الدولي المشتعل، بل إنّ الخليج هو الفاعل السياسي الرئيسي بين بقايا النظام العربي، المنهكة والمشتتة الآن؛ يعي وحدته ومصالحه وموقعه ودوره، ويخوض حروبه. ولعل في انكفاء الكويت وعُمان وتردّد الإمارات ـــــ بسبب معطيات داخلية ـــــ ما يؤكّد وحدة الخليج بأكثر مما يطرح تساؤلات، ويشير إلى انشقاقات. ذلك أنّ المنكفئين والمترددين، يسلسون القيادة، في النهاية، إلى الوهّابيين في السعودية وقطر.
يمكننا القول إنّ الخليج كلّه، أصبح، من الناحية السياسية، وهّابياً. وهو سياق مفهوم. فالحفاظ على أنظمة احتكار العائلات «السامية» للثروة والسلطة في صيغ قروسطية بالية، لم يعد ممكناً في ظلّ التطورات الإقليمية والدولية، إلا بالعدوان.
والوهابية، منذ نشأتها، عدوانية، عقيدةً وخطاباً وقتالاً، داخل الجزيرة العربية وخارجها؛ ففي عشرينيات القرن العشرين فقط، توقفت الغزوات الوهابية المستمرة باتجاه العراق والأردن، وعادت، في خمسينياته، للتصدي السياسي والأمني الكثيف لانتشار الناصرية والشيوعية، وخصوصاً في بلاد الشام، وخاضت، في ستينياته، حرب اليمن في مواجهة الجمهورية المدعومة من جمال عبد الناصر. ومن ثمّ، في سبعينياته، وبعد انكفاء حركة التحرر العربية من جهة، وتدفق البترودولارات بين أيدي السعوديين من جهة أخرى، تحوّل الغزاة إلى دعاة تغلغلوا في دول العرب ومجتمعاتهم، وخصوصاً بين الفلسطينيين وفي مجتمعهم، ثم وضعوا منذ 1990 وحتى الآن، كل إمكاناتهم المالية والاستخبارية والإعلامية في الحرب الإمبريالية الضروس لتدمير العراق، البلد الذي يمثّل التحدي الرئيسي للسيطرة الخليجية، سواء أكان محكوماً من قبل صدام حسين أم من قبل خصومه. واليوم، يخوض وهابيو الخليج، حرب تدمير سورية ولبنان، وإخضاع الأردن لمخططاتهم التفجيرية.
الخليج في حرب مجنونة، ولا غرو... فهو يواجه، اليوم، تحدياً مصيرياً ناجماً عن جملة تهديدات راهنة، أهمها أولاً التهديد المتضمَّن في موجات الحراك الشعبي المتتالية في العالم العربي. ورغم كل المداخلات ومؤثرات القوى الرجعية ـــــ وفي طليعتها الإخوان المسلمون والسلفيون ـــــ فإنّ صحوة الجماهير العربية لها إيقاع تاريخي يشير إلى فترة من التمردات وتالياً الثورات. وقد اقتربت حركة الجماهير من حدود الخليج في اليمن والبحرين، ووصلت إلى الداخل السعودي، حيث مهمّشو الجزيرة العربية المتطلعون إلى الخلاص، بعضهم من الاضطهاد المذهبي السافر، وبعضهم من الفقر المدقع الصارخ فوق آبار البترول، وبعضهم من النير الثقيل لحكم آل سعود القروسطي الثيوقراطي السلفي الوهابي الطائفي. ثانياً، التهديد الإيراني المتخذ لبوساً مذهبياً ظاهراً، لكنّه، في عمقه، يظل يمثّل حركة قوة إقليمية صاعدة، مستقلة وتنموية ونصف ديموقراطية، وترى في الخليج، موضوعياً، حيّزاً طبيعياً لنفوذها. ثالثاً، التهديد العراقي التقليدي، المتجدّد الآن بحكومة شيعية متحالفة مع طهران، من دون أن يكون مستجداً. فالتناقض العراقي ـــــ الخليجيّ لم يتكوّن بسبب صدام حسين، بل عبّر الأخير عنه بوصفه صيرورة تناقضية قائمة بذاتها بين التقدّم العراقي والتخلّف الخليجي، بين مجتمع تهيأ ـــــ ولا تزال إمكاناته قائمة ـــــ لتنمية وطنية حديثة، تتفاعل فيها الثروة النفطية والثقافة الحديثة والتكنولوجيا، وبين مجتمعات مفرغة واستهلاكية وهشّة في تركيبها وثقافتها. رابعاً، التهديد الآتي من مصر ـــــ بثقلها الإقليمي وإمكاناتها الحبيسة ـــــ وقد انفتح باب التاريخ فيها، ولن يطول بها الزمن قبل أن تكتشف طريقها. وطريقها هو تجديد الناصرية؛ بل إنّ النتيجة الباهرة التي حققها مرشح الرئاسة الناصري، حمدين صباحي، مؤشر صريح إلى قوة الاتجاه نحو تبلور ناصرية جديدة في مصر. خامساً، التهديد اللبناني المتمثّل في المقاومة، التي أثبتت قدرتها على لجم الحليف الإقليمي الأساسيّ للسعودية، أعني إسرائيل. ونلاحظ، هنا، أنّه كلما تصاعدت قدرة المقاومة على التصدي للعصا الإسرائيلية، استبسل السعوديون في تخليق وتمويل الحراب المذهبية ضد حزب الله. سادساً، التهديد اليمني، حيث مآلات الانتفاضة الشعبية لم تُحسَم بعد لمصلحة الخليج، وحيث تشتدّ، في المقابل، الانشقاقات والنشاطات الإرهابية، لكن التهديد اليمني الماثل يتجسد في قوة الحوثيين المتحدية المحاذية للسعودية. سابعاً، التهديد الأردني الناجم عن صعود حركة شعبية متنامية نحو تغييرات ديموقراطية عميقة في المَلَكية الوحيدة الباقية على حدود الخليج. ثامناً، التهديد الدولي المستجد بظهور الحلف الصيني ـــــ الروسي وامتداده الجيوسياسي في إيران والعراق وسورية ولبنان.
كل تلك التهديدات يواجهها السعوديون، بينما يشاهدون، عن كثب، حُماتهم الأميركيين وهم يقلّصون وجودهم وينافحون عن حضورهم الآفل في المنطقة. بالأساس، علينا الانتباه إلى أنّ الأميركيين خرجوا مهزومين من عراق يُعاد تشكيله اليوم من خلال العوامل الداخلية أولاً، وفي سياق التموضع، ثانياً في التحالف الإيراني ـــــ السوري وامتداده اللبناني، الذي لا يستطيع أن يتجاهل المتطلب الجيوسياسي القاضي بمد جسوره صوب الأردن من جهة، واستعادة الملف الفلسطيني من جهة أخرى.
الحُماة الأميركيون لم يعودوا تلك القوّة الأسطورية التي يركن إليها ملوك وأمراء وشيوخ الخليج. الولايات المتحدة تهتزّ تحت وطأة الأزمة المتفاقمة للرأسمالية والنكوص الداخلي، الاقتصادي والسياسي، وتتراجع أمام صعود القوى الدولية والإقليمية الجديدة. لذا، يجد الخليج نفسه اليوم قلقاً ومضطراً إلى أن يخوض معركته من دون حُماته. وهو يدافع عن وجوده، بالمساعي اللاهثة لتخريب التغييرات الديموقراطية في مصر وتونس، لكن خصوصاً بشن حروب التفكيك في الهلال الخصيب. إنّه يعي تماماً التحدّي المرعب للكتلة الأموية ـــــ العباسية. هنا، علينا أن نتذكر ثقل التاريخ؛ لقد خرجت الدعوة الإسلامية من الجزيرة العربية، لكن الحضارة العربية ـــــ الإسلامية تخلصت من غبار الصحراء، وتشكلت وازدهرت في دمشق وبغداد أساساً، وانتكست في الانقطاع العثماني الذي، على أنقاضه، نشأت الدول الوطنية الحديثة في الهلال. اليوم، يتحالف أجلاف الصحراء مع العثمانيين الجدد، ليفرضوا ذلك المزيج البغيض من الوهابية والعثمنة على بلاد الشام والعراق.
الإخوان المسلمون والسلفية يمثّلون الطابور الخليجي الخامس في الهلال الخصيب. إنّهم، بغض النظر عن انتماءاتهم المحلية، مداخلة من الخارج. لذلك، فإنّ الصراع معهم، هنا، صراع وطني حضاري في الأيديولوجية والثقافة والرؤية حول الإسلام نفسه، كما أنّه صراع مضن مفتوح مع السلفية الجهادية التي تنتجها البنية السعودية بانتظام، وتستخدمها وتصدّرها إلى بؤر التوتّر خارجها، كما تفعل، اليوم، في العراق وسورية ولبنان والأردن، وبين الفلسطينيين، لكن ليس في فلسطين حيث الاحتلال الحليف المحصّن من الإرهاب السلفيّ بقرار من قلب السعودية.
هكذا، وبينما ننظر إلى أنفسنا، كعراقيين وسوريين وأردنيين وفلسطينيين ولبنانيين، ينظر إلينا الخليج، كما حليفه الإسرائيلي، كمدى واحد. وقد أظهرت تطورات 2011 ـــ 2012 في «سورية» (نكتبها هنا بالتاء المربوطة تمييزاً لها عن سوريّا التي لا تقتصر على الجمهورية العربية السورية) أنّ الهلال الخصيب يكوّن وحدة إقليمية مترابطة في الصميم. فالحدود الجغرافية والديموغرافية والسياسية بين سورية وكل من الأردن ولبنان، متداخلة بنيوياً، بحيث انكشف فعلاً أنّها مجرد حدود افتراضية، وتبيّن أنّه لا يمكن البلدين، «النأي بالنفس» عمّا يحدث في البلد الأمّ. تحوّل الصراع في سورية إلى صراع داخلي عميق، سلمي في الأردن ـــــ بسبب قوّة الدولة ـــــ وعنيف في لبنان اللادولة، لكن، في الحالتين، ربما آنّ للأردنيين واللبنانيين، مراجعة التصلّب الوطني المحلي في ضوء الظهور اللافت لحجم الأثر السياسي للحدث السوري الداخلي على الوطنيتين الفرعيتين.
في لبنان، ما يشبه الجنون... وما يشبه الصحوة؛ جنون المشاركة في الحرب الأهلية في سورية، على أرضها وأرض لبنان، وصحوة من وهم لبنان الكبير القادر على إدارة الظهر للبلد الأم. كم سنةً مرت على لبنان اللا ـ سوري، كم حزباً، كم كتاباً، كم حرباً، كم وهماً مذ ذاك، سقط حين وجد اللبنانيون أنّ طرابلس لا تزال جزءاً من سورية، كما تظهّر في صيرورتها جزءاً من الحرب الأهلية السورية التي تمتدّ سياسياً إلى كل المناطق اللبنانية، ويظل محورها واحداً: لمن تكون السيادة في دمشق؟
لم يلعلع الرصاص بين مؤيدي دمشق ومؤيدي المعارضة السورية في الأردن، لكن تفاعلات الصراع وعقابيله هنا أبلغ؛ أولاً، تقاطع الانشقاق حول سورية، إلى حدّ كبير، مع الانشقاق الديموغرافي السياسي الداخلي. هناك، بالطبع، عوامل عديدة سنتعرّض إليها عما قليل، تفسّر ذلك التقاطع، لكن ما يثير الانتباه أنّ وحدة المذهب (السني) لم تؤدّ دوراً حاسماً هنا؛ صحيح أنّ عناصر مؤيدين للإخوان المسلمين من بين صفوف العشائر وقفوا ضد النظام السوري ـــــ بوصفه علوياً ـــــ لكن العشائر، ككتلة سياسية، ظلت، برغم التجييش الإعلامي والسياسي، عصية على نفوذ الإسلام السياسي، وأعربت عن مواقف صارمة إزاء النشاط الإخواني المعادي لدمشق، ولجمته فعلاً. في المقابل، وباستثناء البؤر اليسارية والقومية في صفوف الأردنيين من أصل فلسطيني، نجد أنّ غالبية من هؤلاء تقع تحت تأثير النفوذ الإخواني والسلفي. وبالنظر إلى تلازم هذا التأثير المتصاعد مع مخزون التعبئة الفلسطينوية التقليدي، فإنّ الأبواب تبدو مفتوحة هنا لـ«فتح الإسلام». ولا أقصد التنظيم نفسه بالضرورة، بل الفكرة البالغة الفعالية للدمج بين الهوية الوطنية والهوية الدينية المذهبية. إنّ حضور هذه الفكرة ووجود حاضنتها الاجتماعية، يفتحان ثغرة في جدار النسيج والأمن الأردنيين، ويقودان إلى احتمالات مواجهات أمنية وأهلية خطرة، إذا قررت السعودية وقَطر أن من مصلحتهما مدّ سلسلة الحروب الأهلية والفوضى إلى الداخل الأردني أيضاً. ثانياً، إنّ مثل هذه المخاوف الأمنية، والقلق من تدفّق هجرة الفلسطينيين ـــــ السوريين إلى البلاد المهددة أصلاً بفقدان التوازن الديموغرافي السياسي، إضافة إلى التحسّب من تنامي قوة الإخوان المسلمين المحلية، وتبلور إجماع لدى القوى الوطنية والعشائرية يرفض التدخّل في سورية، كلها عوامل جعلت مثل ذلك التدخّل ممتنعاً بوصفه سياسة عامة للدولة ـــــ لكن، بالطبع، مع وجود خروق واحتمالات ـــــ ثالثاً، ووضع هذا الامتناع، العلاقات الأردنية ـــــ السعودية على المحكّ. لم يظهر للسعوديين، فقط، أنّ الأردن ليس ذلك الحليف الذي يمكن الاعتماد عليه في معركة الوجود الخليجي، بل ظهر للطرفين أنّ فكرة عضوية الأردن في مجلس التعاون الخليجي زائفة من الأساس، لأنها تتعارض مع دكتاتورية الجغرافيا السياسية؛ فالأردن ينتمي، عضوياً، إلى المدى السوري العراقي، ولا يستطيع حكّامه، كائناً ما كانت توجهاتهم، كسر ذلك الانتماء، والانضواء تحت العباءة الخليجية.
التداخل الجغرافي والديموغرافي ـــــ وما يستتبعه من تفاعلات مختلفة ـــــ بين دولتي الهلال الكبريين، سورية والعراق، حاضر بقوّة، و تخفّف، من صورته، مركزيّةُ البلدين، لكن تقاطع أزمتيهما الراهنتين أظهر الترابط الذي لا فكاك منه بينهما من جهة، وبينهما وبين الأردن من جهة أخرى؛ فمن دون تفاهم جوهري مع دمشق وعمان، لن تستطيع حكومة مركزية عراقية، شيعية التكوين، أن تتلافى، سلمياً، مشروع انفصال المثلث السني العراقي، المدعوم من السعودية. ولن تتمكن الأخيرة من تحويله إلى منطقة مضادة لحكومة بغداد، إلا إذا ربحت الجولة في سورية أو تعاون معها الأردن في هذا المجال.
في هذه الشبكة، يوجد العامل الفلسطيني المنتشر على كامل رقعة الشطرنج، في كل زاوية وكل محور؛ قَطر التي استأثرت بملفّ حماس ـــــ المُعاد تأهيلها خارج الخط السياسي للمقاومة ـــــ لأداء دور رئيسي في التفاهمات مع الإسرائيليين، تنسج، كذلك، صلات معقدة مع الإخوان المسلمين والجماعات الليبرالية التوطينية في الأردن، بينما يركّز السعوديون، جهودَهم على اجتذاب المزيد من الفلسطينيين إلى البؤر والمنظمات السلفية الجهادية.
حروب الخليج في الهلال الخصيب، دفاع مستميت عن بنى محكوم عليها بالزوال، في سياق التراجع الأميركي والغربي، والتوازن الإيراني ـــــ الإسرائيلي، وتفكك النظام العربي تحت ضربات الحراك الجماهيري الذي لم يصل بعد إلى مآله الثوري، لكنّه مفتوح الاحتمالات. وكذلك في سياق التفكك الداخلي للسعودية التي يدرك قادتها في العمق أنّ صيغة الدولة العائلية المتحكمة في ثروات كبرى، والمضادة، في تركيبها العضوي، للتقدّم، والمتفسخة ذاتياً، والمنتجة، بالتالي، وبصورة تلقائية ومستمرة، للإرهابيين، لم تعد ممكنة. وهو ما يدفع الرياض إلى جنون نراه، يومياً، منتقلاً من العراق إلى سورية، وبدأنا نراه في لبنان، وغداً في الأردن. نحن لا نستدعي، إذاً، «الهلال الخصيب»، كتكوين جيوسياسي واحد، من تراث أنطون سعادة، بل إنّ حروب التوسع الخليجي في بلدانه هي التي تضع أمامنا ضرورة النظر في راهنيّة الرد الهلالي على تحدي الوجود والتنمية والثقافة القومية والتقدم الاجتماعي.
التركيب الإثني والديني والمذهبي والاجتماعي ـــــ الثقافي في الهلال الخصيب، هو تركيب متوازن بين العائلتين، السنية والشيعية، وبين المسلمين والكتلة المسيحية الوازنة، بين البدو وأنصاف البدو والفلاحين والحضر، بين الثروات المعدنية والمائية، بين القدرات الإنتاجية والعلمية والتقنية والقتالية، وبين تراثات الحقب الحضارية، تلك المتراكمة عبر تاريخ حيوي متصل حتى في انقطاعاته. وهو ما يمنح الهلال، العمق اللازم للنهوض القومي التقدمي والهوية الإقليمية الفريدة. وما ينبغي لنا أن نلاحظه، تواً، هو أنّ الوطنيات المحلية، على شرعيتها، ستتحول وبالاً على ذاتها إذا ما تصلبت ونظرت إلى تلك الذات بمعزل عن السياق الهلاليّ، وخصوصاً في زمن الاتحاد العدواني للخليج.
مسيحيو لبنان لن يعودوا أقلية متوجسة حالما يندمجون في مسيحية مشرقية، ضُربتْ في فلسطين والعراق، وهي، اليوم، مستهدفة في مركزها السوري، وصار لزاماً عليها أن تنقذ نفسها، ربما انطلاقاً من استعادة الدور النهضوي التنويري العروبي الذي ميّز حركة المسيحيين العرب منذ نهايات القرن التاسع عشر، لكنّه غاب في العقود الأربعة الأخيرة في انكفاء طائفي مميت.
كذلك، ستخرج العائلة الشيعية من روح الغيتوات، حين تنتظم في خط يمتد من جنوب لبنان إلى جنوب العراق، حيث توجد الإمكانات الخصبة لنهوض التشيّع العروبي العراقوي، القادر على خلق التوازن الممكن ـــــ والودي ـــــ مع إيران، وتالياً على اجتذاب الشيعة العرب إلى مركز عربي. وهو طموح لا غنى عنه لكي يأخذ الهلال الخصيب موقعه الندّي في سياق الحلف الروسي ـــــ الإيراني. التمايز لا يقود، بالضرورة، إلى علاقة عدائية؛ فالتحالف بين المتمايزين ممكن على أساس التعددية والمصالح المشتركة.
وستجد العائلة السنية الهلالية، لنفسها، وفي تراثها الحضاري الخاص، إطاراً ينأى بها عن التأثيرات الوهابية الخليجية من جهة، وعن التأثيرات الإخوانية المصرية من جهة أخرى، إلى تسنّن هلالي مستقلّ يمثّل، في خصوصيته المنفتحة، دينامية أساسية في بنية بيئته التعددية.
البقاء داخل الوطنيات والعصبيات المتصلّبة، يحوّل التنوّع الاجتماعي الثقافي المتوازن إلى صيغ من أكثريات وأقليات، وبالتالي إلى ميادين للحروب الأهلية. وإنّها لمفارقة أن ترى الرياض في اتحاد الخليج، مخرجاً له من أزمته التاريخية، بينما تعمى القوى الوطنية في بلدان الهلال الخصيب، عن الإمكانات الهائلة التي يتيحها تضامنه واتجاهه نحو صيغة سياسية تحوّله إلى قوة إقليمية مستقلة وفاعلة وتضمن الوزن العربي بين تركيا وإيران.



الأردن بين الضغوط السعودية والمشروع القَطري

في الأردن، يفترق السعودي عن القَطري جذرياً. كلاهما ضغطا ويضغطان على عمان للتورّط في حربهما ضد سوريا، لكن مطالبهما تتناقض داخلياً بصورة شاملة.
تنظر السعودية إلى المَلَكية الأردنية كضمانة إضافية للمَلَكية السعودية، وكعضو في نادي المَلَكيات العربية التي تجد الرياض نفسها معنية بحمايتها ودعمها في مواجهة الحركات الشعبية الداخلية والمتغيّرات الإقليمية. ولذلك، فإنّها اقترحت، في عزّ الحراك الشعبي الأردني والعربي في صيف 2011، دمج المملكة الأردنية والمملكة المغربية في مجلس التعاون الخليجي. اقتراح جريء عرقلته قطر، وصغّرته، أخيراً، إلى مستوى مساعدات مالية، لخمس سنوات، بمعدل نصف مليار دولار سنوياً، لكل من عمان والرباط.
تهتم السعودية بالمغرب طبعاً، لكنّها بعيدة عن التأثير المباشر على الخليج. ولذلك، لم تفعل الكثير ـ وربما لا تستطيع ـ للتدخّل في الشأن المغربي، حيث استجابت المَلَكية لقسم رئيسي من مطالب التحوّل الديموقراطي، لكن انخراط المَلَكية الأردنية في الاتجاه نفسه، أثار قلق السعودية التي تريد تجميد التحوّلات في الأردن، والحفاظ على نموذج النظام المَلَكي الأوتوقراطيّ لدى هذا الجار القريب.
تريد السعودية، بترددها وبخلها إزاء الاحتياجات الأردنية، أن تضمن أنّها لا تدعم ديموقراطية أردنية ناشئة تزعجها بقوّة، خصوصاً أنّها أدركت أنّ الدور الأمني المأمول من النظام الأردني، في المنطقة والخليج، أصبح هو نفسه مقيّداً بفضل الحراك الشعبي المفتوح الاحتمالات.
ولربما تكون تلك هي الخلفية الإقليمية للتراجع المنظم للمَلَكية الأردنية إلى خندق الأوتوقراطية، وشنّ الهجوم المعاكس تحت شعار عدم المساس بصلاحيات الملك. وهو الشعار الذي رفعه، منذ مطلع 2011، السياسي المحافظ فايز الطراونه الذي تقلّد، الآن، منصب رئيس الوزراء. وهو يعتبر حتى انتقادات الليبراليين الخجولة، تعدياً مرفوضاً على «سدّة الحكم».
بالمقابل، لدى قَطر، الوثيقة الصلة بالمؤسسة الإسرائيلية الحاكمة، مشروعها الخاص إزاء الأردن. إنّها، بالعكس، سعت وتسعى وتدعم تغييرات أساسية في النظام الأردني، تسمح بزيادة نوعية في التمثيل السياسي للأردنيين من أصل فلسطيني، وتأمين سيطرة الإخوان المسلمين على الحكم. وذلك في سياق يؤدي إلى تموضع «حماس» بين جماهيرها في الأردن المتّصل مع الضفة الغربية، اتصالاً جيوسياسياً وثيقاً. وهو ما سيؤدي إلى إعادة ترتيب شاملة للمعادلة الفلسطينية، تكون فيها قَطر ذات موقع قيادي.
يفكّر القَطريون بذكاء ينبغي الاعتراف بجرأته. ففي قلب كل التحوّلات، كانت القضية الفلسطينية، وستظلّ، مركز الاستقطاب ومحور القوّة الإقليمية لأي طرف فاعل. والمشروع الفلسطيني القَطري يغدو، بالتالي، قطب الرحى في ضمان الدور القَطري على المدى البعيد. لكن، لا يمكن لقَطر ـ التي جمّعت عناصر فلسطينية عدة، وأهمها «حماس»، في جعبتها ـ أن تحتلّ الموقع القيادي في القضية الفلسطينية، إلا عبر هيمنة فلسطينية ـ إسلامية في الأردن. ولذلك، فإنّها تمارس سياسات عدائية نحو النظام الأردني من جهة، ونحو الحركة الوطنية من جهة أخرى، بينما يسعى سفيرها في عمان لتوثيق صلات التعاون والدعم مع طيف واسع من الإسلاميين والليبراليين واليسار الليبرالي.
بين الضغوط السعودية والمشروع القَطري، يكابد الحراك الأردني، ويشق طريقه الصعب المحفوف بالمخاطر.



متى الهجوم السوري المضاد؟



لا يمكننا أن ننسى لحظة واحدة أنّ الضغوط تشتدّ على سوريا، وتتصاعد، في حرب خليجية مفتوحة، ينوب فيها الوهابيون عن الولايات المتحدة وإسرائيل في مسعى تدمير الدولة السورية. لكن، في رأينا، أنّ العامل الرئيسي في تأخر انتقال هذه الدولة من الدفاع إلى الهجوم، يكمن في غياب الإرادة السياسية لتوضيح هويتها الاجتماعية والسياسية والثقافية.
بعد أكثر من سنة من المواجهات، لا تزال هوية الدولة السورية غامضة في كل المجالات:
أولاً، غاب مهندس النيوليبرالية السورية، عبد الله الدردري، لكن الدردرية، المسؤولة عن التفكك الاقتصادي ـ الاجتماعي للأرياف الفلاحية والضواحي الحرفية، لا تزال قائمة، وتعشش في مفاصل الاقتصاد والقرار والتكوين الاجتماعي للنخب المسيطرة. صحيح أنّ موجة النيوليبرالية لم تستطع القضاء على مكوّنات أساسية يمكن إنقاذها من القطاع العام والسياسات والهياكل الاجتماعية، وصحيح أنّه تم اتخاذ إجراءات، هنا وهناك، لتبريد النتائج السياسية للنهج النيوليبرالي، لكن من الواضح أيضاً، أنّ الخط الوطني الاجتماعي داخل النظام السوري والدولة السورية، لم يستطع، حتى الآن، التعبير عن نفسه سياسياً، إما لتردده وإما لعدم إدراكه أهمية تظهير الموقف الاجتماعي التقدمي لربح المعركة ضد القوى الرجعية.
لا نزال نطمح أن يعلن الرئيس بشار الأسد ـ وهو مَن وقّع وشجّع مراسيم الدردريةـ نقداً ذاتياً صريحاً، فيصف النهج ونتائجه الكارثية ويؤكد التخلّي عنه كلياً، والشروع، بالمقابل، في تدبير سياسات تقدمية صريحة على أساس ضرب المصالح الكمبرادورية وإعادة بناء ودمقرطة الدور القيادي للدولة في المجال الاقتصادي، وتعزيز القطاعات الزراعية والصناعية والحرفية، واتباع منهج شامل منطلق من الرؤية الديموقراطية الاجتماعية، وإعادة توزيع الثروة على المستوى الوطني. هذه السياسات بالذات هي التي تستطيع استعادة ملايين المفقَرين من سيطرة وكر الذئاب السلفية إلى التحالف الاجتماعي ـ الوطني.
ثانياً، إنّ واحدة من الومضات الرئيسية التي أطلقت الانتفاضة السورية هي شعور السوريين بوطأة الفساد الكبير. ما الذي أنجزه النظام السوري في هذا الملفّ؟ لا شيء. هناك، بالطبع، المخاوف من انفراط بعض التحالفات داخل النظام وخارجه، إذا ما شنّت معركة واسعة ضد الفاسدين. لكنّها، أيّ هذه المعركة، سوف تجتذب قطاعات اجتماعية واسعة إلى صف النظام، وتمنح الصدقية لخياراته السياسية.
ثالثاً، إنّ جميع المتضامنين مع سوريا، توقّعوا أن تكون الانتخابات النيابية إطاراً لتوسيع النخبة السياسية، فتشمل طيفاً من العناصر الديموقراطية المستقلة والمعارضة الوطنية الاجتماعية، وخصوصاً ائتلاف «جبهة التغيير والتحرير» والسوريين القوميين. لكن العملية الانتخابية، بالنظر إلى ثقل السلطة وراء نزعة الاستئثار البعثي، حرمت الدولة السورية من الوزن النوعي لمشاركة المستقلين الديموقراطيين والمعارضين الوطنيين الذين جرى تمثيلهم بصورة رمزية فقط. وهكذا، فإن هذه القوى المتمتعة بالصدقية، والتي أظهرت، خلال مراحل صعبة من الأزمة، حيوية سياسية مفتقدة لدى أركان النظام في الدفاع عن البلد، تلقت صفعة أربكتها وعطّلت حيويتها، بينما أُعيد إنتاج برلمان حسب المواصفات القديمة من التحالف بين النخب البعثية والنخب البرجوازية.
رابعاً، إنّ أكثر الاعتراضات جوهرية على أداء النظام السوري، هي تلك المتعلقة بحقوق الإنسان وكرامته. وفي هذه النقطة بالذات، فإنّ المتضامنين مع سوريا، لا يزالون يقفون أمام خيار أخلاقي موجع جداً لا مبرّر له بين حقوق الأوطان وحقوق الإنسان. خامساً، وقد لا يريد النظام السوري الانحياز إلى خيارات اجتماعية وسياسية صريحة تهدد تحالفاته الراهنة، ولكن ماذا عن الخيار الوطني الذي هو خياره الرئيسي؟ في 2011 جرى تصعيد شعبي سلمي ضد الاحتلال الإسرائيلي. ورغم أنّه بدا نوعاً من الدفاع عن الذات في مواجهة الرجعية، فقد فتح ذلك التصعيد السلمي أفقاً لمسار تعميق ثقافة وروح المقاومة في سوريا. هذا المسار تم إقفاله. وحتى حين قررت إسرائيل أخيراً البدء بالتنقيب عن النفط في الجولان، فإنّنا لم نلحظ سوى تعليقات احتجاجية خجولة.
هل يظن النظام السوري أنّه سيتجاوز الأزمة في تسوية ما، ليعود الوضع في البلد إلى ما كان عليه سابقاً؛ بزنس وفساد وامتيازات وقمع، بل وعلاقات طيبة مع السعودية؟ إنّه لواهمٌ مَن يظن ذلك. إنّها معركة كسر عظم، ولن تفوز الدولة السورية فيها إلا إذا تحددت طبيعة هويتها الاجتماعية والسياسية واصطفافاتها وتحالفاتها ومقاربتها الخاصة للتحوّل الديموقراطي، بما يمكّنها من شن الهجوم المضاد.