قدم تقرير التنمية الإنسانية العربية في 2002 كشفاً بمعوقات التنمية في البلدان العربية، ومنها الديموقراطية والمعرفة والحرية، واهمال تنمية القدرات البشرية. كذلك كشف التقرير تلطي الانظمة سياسياً وراء وعود بالتحرير والتنمية لم تحققها، بل ساهمت في تخلف شعوبها وتأخرها. اما التقرير الثاني في 2003، فلقد قدم كشفاً بالحلول. لكن هذه الحلول كانت غير ممكنة التطبيق داخل البلدان العربية، لا سيما أنّ الأنظمة هي من صنع هذا الواقع المتخلف، جراء انتشار الفساد المالي والاداري والاقتصادي، وسيطرة الأمن والأحزاب الشمولية التي أفرغت البلدان العربية من القوى الفكرية الخلاقة، جراء القمع والديكتاتورية. لذلك عجزت الشعوب عن القيام بالإصلاح لأنّها مجردة من الوسائل التي تستدعيها عملية مماثلة، من حرية وتعددية حزبية. هذا الواقع العربي فتح الباب امام احتمالات واسعة لتدخلات خارجية مدمرة، كما حصل في العراق. في الفترة نفسها، أي في 2003، دعت الولايات المتحدة الأميركية الى مبادرة الشراكة الأميركية الشرق ــ أوسطية، وادعت بأنّها تهدف إلى تطبيق مقترحات تقرير التنمية البشرية في الدول العربية، وأنّ هناك في هذه الدول من اصبح ينادي بالتغيير الديموقراطي والحوكمة ومحاربة الفساد والاصلاح السياسي والاقتصادي. أثار ذلك تحفظاً شديداً لدى الانظمة والحكومات العربية، خوفاً من الضغط عليها شعبياً، فكان النقد الاساسي هو محاولة هذه المبادرة الحفاظ على مصالح أميركا وتغيير بعض الانظمة التي تتنافى سياساتها مع هذه المصالح وحلفائها، والحفاظ على بعض الانظمة الفاسدة التي تحابي سياساتها. وتكاثرت حينها التصريحات بأنّ التغيير لن يتوقف عند حدود العراق، بل سيمتد ليشمل العالم الإسلامي بأكمله.
نذكر هذه الوقائع للدلالة على الواقع السياسي الاقتصادي والتنموي المتردي للعالم العربي. فهذا الواقع كان قابلاً للانفجار والتفجير، وكان يكفي احراق البوعزيزي نفسه في تونس لكي تنفجر من خلفه ازمات البطالة والحرية وغياب التنمية بوجه رأس النظام المريض الذي لم يترك مجالاً لحلفائه لتصور خليفة له.
من بادر بأشعال الانتفاضات لاقى تضامناً هائلاً من معظم فئات الشعب، واعاد خلط الاوراق في المنطقة وسمح لكافة الفئات السياسية، المبعدة منها والموجودة على الساحة، بالمجاهرة بانتماءاتها والعمل على اسقاط النظام القائم. وهذا ما حصل ايضاً في مصر حيث واجهت ازمة التوريث رفضاً من العسكر والاخوان وبعض القوى الشعبية والحزبية. وتشهد اليوم هذه البلدان صراعاً على تولي السلطة، وخوفاً من اعادة انتاج السلطة الشمولية التي كانت سائدة، لكن قدرة المنتفضين على رفض التسلط قادرة على احداث تغيير.
هل شذ المسار الليبي عما حصل في مصر وتونس؟ وهل اثر سلباً على ما حصل ويحصل في سوريا؟ لا شك بأنّ التسلل الاستخباري البريطاني، والتدخل الاطلسي بالاضافة الى الفوضى التي سادت واسلوب قتل القذافي اثرا على مسار الانتفاضة في سوريا، اضافة الى المال القطري والتدخل السعودي في مسار الانتخابات التشريعية المصرية والتدخل العسكري لمجلس التعاون الخليجي ضد الحراك البحريني. جميع هذه الضغوط والتدخلات الخارجية ساهمت في اعاقة الحراك السوري، بعد ان حاولت معارضة الداخل تقوية القواعد الاجتماعية والعمل على الارض بتوعية الناس على الاسلوب المدني للتظاهر سلمياً. لكن المجلس الوطني اوهم بعض الناس بالتدخل العسكري الغربي مما شجع البعض على حمل السلاح. الامر الذي حمل النظام على تشريع استعماله للقوة ضد المعارضة المسلحة، للدفاع عن السيادة ودرء الارهاب في ظل التمويل الخليجي المعلن.
هذه الاخطاء بالاضافة الى محاولة الاستئثار بالمعارضة من قبل المجلس الوطني من دون اي محاولة لطرح برنامج اصلاحي، جعلت المعارضة مشرذمة وعرضة للانتقاد حتى من حلفائها، في ظل مسارعة النظام الى اجراء تعديلات دستورية واجراء انتخابات. هل اخفق المجلس الوطني في قراءته للواقع الداخلي السوري؟ وهل اخطأ في تحليله لمصالح القوى الاقليمية والدولية؟ وهل وقع في خطأ التماهي مع ليبيا؟ لا شك في أنّ ارتباط المجلس الوطني بقطر وتركيا ومحاولتهما فرض اجندتهم على المعارضين والتكلم باسمهم، اضعف المجلس الوطني الذي ارتبطت بعض شخصياته بواشنطن، وبانت صداقة بعض اعضائه لإسرائيل. كما انّ ابعاد الموضوع الاسرائيلي عن التداول، والتلويح بقطع العلاقات مع ايران ومحور المقاومة، اعطى مشروعية للنظام للوقوف ضد المعارضة واتهامها بمحاولة فرض اجندة خليجية ــ اميركية ــ تركية على سوريا، مما جعل من البلاد ساحة صراع في مواجهة محور ايراني ــ روسي ــ صيني، وجعل قرار تسليح المعارضة قراراً انتحارياً للمعارضة السورية.
هل قرأ المجلس الوطني الاسباب التي يمكن ان تحول دون التدخل العسكري الخارجي قبل التلويح به؟ الم يقرأ واقع الحسابات الداخلية الاميركية من ازمة اقتصادية ومفاعيل التدخل على الانتخابات الرئاسية؟ هل راقب المجلس مآل الثورات العربية لاسيما مواقف الاخوان المسلمين في مصر الذين يحاولون احتكار السلطة بعد وعودهم بالاكتفاء بالمجلس التشريعي؟ الم يضع المجلس في حساباته موقف روسيا التي تم خداعها والصين عندما وضعت قوات الاطلسي يدها على ليبيا، وقبلها على العراق؟ ربما كان لمفعول الفيتو الروسي ــ الصيني فعل الصدمة، لا سيما انّ روسيا وايران والصين يدافع كل منهم عن مصالحه في الساحة السورية.
هذه التساؤلات لا تعني أنّ الغرب لم يتدخل. هو حرك ديبلوماسييه في الداخل، وجاهر بالتحريض وطالب الاسد بالتنحي ودعم المعارضة سياسياً، وطرح المسألة السورية في مجلس الامن مرتين، وناقش الوضع في الجمعية العمومية، وحاول الالتفاف على الفيتو. كما شارك مع الاتراك في تدريب الجيش السوري الحر، وشجع القطريين على تمويل المجلس الوطني ودعم الاخوان وتسليح المعارضة.
لقد تحوّل المجلس الوطني الى أداة في المفاوضات الاميركية ــ الروسية، كذلك تحولت سوريا الى ساحة امتحان للنيات بين الاثنين. يعود الفضل للانتفاضة السورية في إبراز مدى التحوّل في العلاقات بين القوى الدولية. كما اظهرت لنا خطة حكومة اردوغان التوق الى توسيع النفوذ التركي في الدول العربية. بدا واضحاً انّ حساباتها في سوريا كانت متأثرة بتونس ومصر، وانّها كانت غير دقيقة بالنسبة الى الواقع الاستراتيجي السوري، والى القوى المعارضة، وللتوازنات داخل الجيش. كل هذا لا يعني أنّ النظام في سوريا قد انتصر، وهو غير مقبل على تغييرات. التغيير الذي شهدته المنطقة يعتبر بمثابة تغيير جذري في أنظمة الحكم في دولة أو أكثر من دول الانتفاصات الشعبية، ولا مجال للعودة الى الوراء.
* باحثة وكاتبة في الاجتماع السياسي