يبدو من حرب الرئاسة انهم يتصارعون على شكل دولة الاستبداد.. من سيصبح السيد الجديد.. من سيحقق استمرار المصالح..«الاستمرار» هو «ايديولوجية» الدولة العميقة، تسميها شعبياً الاستقرار، وتعني بها تجديد شبكات المصالح المستقرة والمتراكمة منذ قيام جمهورية الاستبداد. وهذا ما يلعب عليه المرشحان اللذان بقيا في السباق، بعدما تهمشت القوة الفعالة. المفارقة ان جمهور المرشحين في الهامش بينما الايقاع يسير على حركة الميدان.

الحركة عفوية ولديها وعي سياسي يفاجئ الجميع ويتقدمهم بخطوة واسعة، تحركهم اشواق واحلام دفعوا من اجلها فاتورة الدم، وأدركوا ان الحكم على مبارك ليس سوى مسكّن رغم انه حدث تاريخي. كان الانتظار هو عنوان السياسة. الآن هناك انتظار الانتخابات وانتظار المحاكمات من محكمة مبارك الى قرارات تفعيل قانون العزل ضد شفيق، او حل مجلس الشعب في المحكمة الدستورية.
انتظارات هي حواجز وضعها المجلس العسكري في طريق الثورة ليبدو معها الميدان هاجساً لدى سلطة لم تتعود ضغط الشارع، ولدى جمهور يظنونه ملّ ويفاجئهم بموجة جديدة تفرض حضوراً هو الضمانة الوحيدة تقريباً لبناء جمهورية بلا استبداد ولا تسلط… ولا اقنعة مدنية لتخفي تحتها حكم المماليك.
الاخوان يسابقون الفلول ويتصورون انهم يمكن ان يتخذوا من الثورة والميدان جسراً جديداً ليصنعوا دولتهم التي بشّر بها حسن البنا.
دولتهم كما كانت دولة مبارك دولته باعتباره العسكري المنتصر.
هذا ما نرفضه في الانتخابات وما سمعه الاخوان في الميدان.
ليس هذا مساواة بين المرسي وشفيق. نعرف الثاني، فهو من سلالة منقرضة تحتال لتعود وتتمكن من جديد بعدما اظهرت الثورة هشاشتها بل وموتها. هذه سلالة تحاول مصالح العصابة بث الروح فيها من جديد. لكن الاخوان في نفس الوقت قبيلة.. تتعامل بهذه النفسية المغلقة.. لها لغتها السرية، ووجهها العلني والآخر الذي لا يراه سوى مجمع الاسرار او مكتب الارشاد. لا تعرف اذا اتفقت مع احد منهم اليوم، الى اي مدى سيلتزم، لأن قانون القبيلة اكبر منه.. اقوى من قدراته على الوفاء. قانون القبيلة يعطل التفكير خارجها.
انتخاب مرسي طبعاً افضل من شفيق، لكن ليست هذه مشكلتنا، ولن ندخل في استقطاب تاهت فيه مصر كل سنوات مبارك وما قبله. المهم هو رفض دولة الاستبداد، وتحويل الدولة الى دولة الجماعة المنتصرة. العسكر احتلوها بالقوة. والاخوان يريدونها بالصناديق. لا فرق في الاستبداد، كانت بلاد العسكر، وستصبح بلاد الاخوان.
والثورة قامت ليكون البلد بلد كل فرد فيه ولو لم يكن من الاغلبية، او من الاقوياء، دولة تمنح حق السعادة للجميع بلا تمييز بحسب اللون او الدين او الجنس او الحساب في البنك.
الثورة ليست حيلة للوصول إلى السلطة، عكس ما حصل في يوليو ١٩٥٢ عندما استولى الضباط الصغار على السلطة.
ثورة يناير هي اعادة المجتمع الى الحياة والمشاركة، وهذا ما يزعج كل مستبد حتى لو كان يوماً في المعارضة. الثورة قطيعة مع حالة الاستفراد بالسلطة او التعامل معها وفق الصورة القديمة للحاكم الاستثنائي.. البطل او المعبر عن حقوق فوق السياسة.
عودة المجتمع تعني اعادة العلاقة بين الحاكم والشعب لا استبدال حاكم بحاكم يبدأ صالحاً ورقيقاً وينتهي متعجرفاً سخيفاً.
كانوا يتعاملون مع البلد على انه مزرعة كبيرة يستمتعون بالنظر اليها ويشكون من تعبهم في ضغط أزرار الآلة الضخمة.. ومن اضطرارهم الى توفير الاكل لكل العمال المحشورين في هذه الآلة التي تصب في حساباتهم وتصنع اهرامات سلطتهم.
لهذا بكى مبارك او قال: «حسبي الله ونعم الوكيل»، او «دي آخرتها..»، او حتى اطلق شتائم كنا نسمع انه يوجهها لجميع حاشيته من اصغر موظف الى اكبر وزير.
كيف نفخت السلطة مبارك ليصبح طاووساً بعدما كان مجرد ضابط (بيروقراطي/ محترف في الحيلة لا في الخطط) يرتدي البدلة السفاري صنع المحلة الكبرى؟ يوزع ويمنع و يمنح، وحاشيته تخرج على الناس تقهرهم بنشر الرعب، وهذا يمنحه، لو كان اعدل العادلين، شعوراً بالاستبداد، فهؤلاء رعايا وليسوا مواطنين ولا يمكن مساواة من يمنح بمن ينتظر المنحة. وهذا ما يجعل دفعنا لاختيار بين شفيق ومرسي، كارثة، لأنه بين دولة قديمة لها عقل استبدادي، وبين قبيلة تصورت ان الدولة بعد سقوط مبارك اصبحت خالية من السكان، وعليهم الآن شغلها، بنفس هيكلها، لكن مع محو كل ما ينتمي للنظام القديم، وكتابة كل ما يوحي بانتصار قبيلة الاخوان.
لا مجال هنا للمزايدة بأن الهجوم على مرسي هو اعلان خفي لاختيار شفيق. ولا مجال لتحويل الميدان الى ساحة انتخابية تصطاد فيها الاصوات. المجال هنا لإعلان اننا لا نريد دولة مستبدة باسم الثورة.
الثورة ستظل مستمرة ضد كل استبداد، وليس معنى رفض شفيق اختيار الثورة لمرسي.. لأن الثورة تريد أن يكون البلد بلدنا والدولة دولتنا، وقد قطعنا عقود الإذعان ولم تعد المزرعة ملكاً لأحد.
المجال هنا للتفكير بأن الرئيس القادم ولو كان مرسي، هو النظام، والثورة ستستمر ضده.
نحن نذرنا مصارعة الطغاة، وسقف طموحاتنا اعلى من كل ما حققناه. من الخارج، يمكن اعتبار أن المؤبد لمبارك انتصار كبير، وان الشعب بايد عارية وبدون عنف، سجن الرئيس في نفس السجن الذي كان يضع فيه معارضيه. لكنه انتصار صغير بعدما اصبح سقف طموحاتنا اكبر.. ليس الانتقام ولا التشفي، بل بناء دولة محترمة لا نستعبد فيها بعد اليوم لا من كتيبة ولا من قبيلة.
يتصارع شفيق والمرسي الآن على اصوات الكتلة الثالثة. وهذا في حد ذاته مسمار كبير في الوعي الذي لم يكتمل نموه للكتلة الثالثة. الكتلة في حالة دفاع عن حلم او عن طبيعة حياة وافكار، لكنها لم تتبلور بعد في مواقف من السياسة والحياة وإن عبرت عن نفسها في اختيارات عاطفية ربما، لكنها ليست عاطفة خالية من الوعي.
الكتلة الثالثة اصلاً هي الاكبر، لكنها لم تنل شيئاً الا الإعلان عن وجودها الذي فاجأ الجميع. الفلول حصلوا على ٢٤٪ من مجموع الاصوات و١٠٪ من مجموع الذين يحق لهم التصويت، وهذه ارقام هزيلة اذا ما قورنت بجبروت الشبكة القديمة للحزب الوطني وعقلها الامني المسيطر على مفاتيح التصويت المستهلكة، ودعايتها التي اعتمدت بذكاء على النفخ في الرعب ليصبح شفيق، الجنرال، الموظف هو رمز «المدنية» في مقابل «غزوة الارياف» التي انتجتها انتخابات مجلس الشعب. الغزوة الريفية بمعناها السياسي هي انقلاب ضد شكل الدولة وحكامها.. منذ ثورة ١٩١٩ وما حملته معها من احلام الافندية ممثلي الطبقة الوسطى.
الجنرالات اصبحوا افندية ما بعد يوليو ١٩٥٢، وأزاحوا قيم الطبقة الوسطى، بغزوة ريفية، لكنها مطمئنة الى الانفراد بوجود السلطة، فأعطت القشرة المدنية للنظام المدني. وهذا ما فشل فيه الاخوان وحليفهم السلفي، ومنحوا لوصولهم البرلمان طابع الغزوة، بما خلق طيفاً واسعاً من القلق اعطى بعضه الصوت لشفيق ممثل الدولة القديمة ومعظمه لحمدين صباحي، وهذا ما تكشفه نسب التصويت في المدن او الحضر، والتي تنافس فيها حمدين مع شفيق بنحو يستحق التأمل.
اللعنة اذن أن تعود الكتلة الثالثة الى الاستقطاب.. لأن هذا يعني أنها ستصبّ غالباً لصالح احمد شفيق، وهذه هزيمة لروحها ووعيها قد تصنع الاحباط الكبير وتستهلك وعيها في الذهاب الى اسوأ الاختيارات.
وهناك من سيعود الى «بالونه» الشخصي منتظراً اقل الخسائر وهذا سيصب ايضاً في صالح شفيق الذي سيعيد ما كنّا فيه حسب الوعي غير المجرب لعودة الديكتاتوريات كما حدث في رومانيا مثلاً. الجزء الصغير من الكتلة الثالثة الذي سيذهب الى المرسي اغلبه مسيّس وينحاز بنحو واع الى الرفض الكلي لنظام مبارك وكل من يحمل رائحته.
اللعنة اذن هي ما تبقى من الانتخابات. ما زالت الثنائية سيدة السباق الرئاسي رغم أن السباق نفسه صناعة الثورة. لم يستطع طرفا الثنائية الفرح، لكن الثورة مرت بتيار انتقالي من الفرح الى الحزن مروراً بالانتظار.
الثورة متحركة بينما الثنائية اللعينة ثابتة.
هو صراع بين الامل واليأس، تغادر القوى الجديدة مواقعها مرة لتحارب في الانتخابات ومرة لتقاطعها، مرة لتدافع عن حق التظاهر ومرة لتواجه حكم العسكر.
الثورة ظلت تدافع بكل عفويتها عن عدم عودة الماضي، والدولة كلها تحارب من اجل اعادة المسار القديم، والانتخابات عكست الصراع، فقد حققت الثورة خطوات في اكتشاف الكتلة الثالثة، والدولة حققت ايضاً خطوات بإعادة الصراع الى لحظة الاستقطاب بين النظام والجماعة.. الفلول والاخوان.
شفيق هنا عنصر محفّز، وليس قائداً، واجهة وليس مشروعاً، فقرة وليس نهاية الحفلة.
سيؤدي شفيق وعصابته الدور المطلوب في نشر اليأس، ثم يغادرون الى ارض السراب، سراب عودتهم في ظل سيطرة العسكر، الجناح الرافض لوجودهم في تركيبة مبارك.
الثورة اتت والنظام منقسم الى جناحين، العسكر والحاشية الملتصقة بجمال مبارك، الشق بين الجناحين دخلت بينه الثورة ووسعته الى ان ازيح جناح المال/العائلة/ الشهوة في الوراثة خارج تقاليد العسكر.
كيف يعود الجناح المهزوم في نظام مبارك الى الحياة بعدما اصبحت القيادة للجناح المنافس؟
هل هي الديموقراطية التي تقتل الثورة؟



راعي الخفافيش يشيطن «الاخوان»

شفيق ليس كوميديا. إنه حامل رسائل من جمهورية الاستبداد ودولتها العميقة. الصورة التي يرسمها للثورة: شعب طيب غضب قليلاً، لكن جماعة الاشرار حوّلت هذا الغضب الى مسرحية قامت بها بكل الادوار. قتلت الثوار وفتحت السجون، واستعانت بعناصر خارجية.. كل هذا وشاركت في استمرار الغضب حتى سقوط الديكتاتور.
هذه هي الصورة: جماعة الاخوان هي صانعة الشرور، اما الشعب الطيب فسنوزع عليه منحاً مدهشة ليست العلاوات فقط كما كانت الحال ايام مبارك، بل تقنين وضع المخالفين الذين يبنون على الارض الزراعية.
صور يبدو معها شفيق مثيراً للسخرية لكنه يخاطب بها كتل تصويت بعيدة عن القاهرة والمدن الكبرى، يستدعيها لتحل مشاكلها الصغيرة، ويخرب وعيها لتوافق على شيطنة الاخوان بهذه الطريقة المستوحاة من سيناريوهات ١٩٥٤. وهي طريقة تختلف تماماً عن المسافة السياسية بين الثورة والاخوان، والتي تتسع منذ ١٩ مارس، اي الاستفتاء الذي نجح العسكر في تحويله الى يوم اسود على الثورة.
شفيق يلعب على صورة الاخوان المثيرة للرعب ويضخمها ليبدو انه الفارس القادم على حصان ابيض من زمن الجمهورية الاستبدادية.
ويروّج شفيق الى خرافة انه «الدولة المدنية» وهي الخرافة التي عاشت بها
جمهوريات عبد الناصر والسادات ومبارك، وكلها مع الاختلاف بين نبل عبد الناصر وحنكة السادات وانحطاط مبارك، لكنهم جميعاً ابناء جمهورية
الاستبداد المحكومة بقانون عسكري خفي، وشرعية الغالب مسيطر، وثقافة
الثكن التي تبحث عن «الاصطفاف» الوطني خلف الزعيم او القائد، لهذا كان كل رئيس قائداً حتى لو مبارك الذي لم يكن له ذكر إلا في عالم البيروقراطية العسكرية.
شفيق خرج من اطلال هذه الجمهورية توجهه علامات ضرب الاحذية، ليبشّر
الناس بأنه سوبرمان المدني الذي سينقذ المدينة من شياطين الطائفية.
باسم الرعب من الاخوان يبيع شفيق كوميديته بعد ان يداعب احلام المواطن الذي عاش سنوات طويلة بالتحايل على الدولة فيأتي من يقترب من رئاسة هذه
الدولة ويقول له سأغمض عين الدولة وسأجعل تحايلك قانونياً.
غواية مثيرة للدهشة السياسية، تشير الى ان هذا ما تبقى من جمهورية
الاستبداد بعدما صنعت شعبيتها بقوانين الاصلاح الزراعي مع عبد الناصر،
ها هي تنادي على آكلي الارض الزراعية لتمنحهم رخصة مخالف مقابل صوت في الصندوق.
هذه اخلاق عصابة تسرب للجمهور المحروم من كل اهتمام والمقيم على هامش النشاط السياسي والاقتصادي، سنتذكركم معاً بقطعة من الكعكة.
شفيق يوقظ المصالح النائمة التي تعوق التغيير الحقيقي، ويحوّل عناصر مقاومة الثورة الى ترسانة قوية بعدما عاشت ايام الشتات في ظل مجلس عسكري اراد الحفاظ على استقرار المصالح بأقل قدر من التغيير الاضطراري. حاكم مبارك، لكن بدون ان يحاكم بارونات الدولة الامنية. حل جهاز أمن الدولة لكنه اعاد تشكيله.. الى القبض على لصوص الثروات لكن محاكماتهم شكلية وعلى السطح، وتطارد المسروقات، بينما البنية الاساسية لدولة الفساد ما زالت مستمرة.
المجلس العسكري حافظ على استقرار المصالح ومنحها قوة باجراءات دعائية لم تلمس اعمدة الاستبداد، وها هو شفيق يبشر الخفافيش أن وقت الظلام سيعود من جديد، وستعلن دولتهم من جديد.
شفيق ليس كوميدياناً.. لا تضحكوا عليه.



دفن الثورة بالقضاء: انتصار بارونات الأمن



الرئيس مجرم.
هذا ما قالته محكمة اختارها المجلس العسكري بعناية لدفن الثورة بالقضاء.
المجلس العسكري وضع مسار القضاء العادي ليوقف الصورة ويحشرها في نفق طويل.
هندسة القانون والقضاء في عهد المستبد لا بد انها تحميه، كيف تحاكمه؟
اسئلة منطقية لكنها كانت تلبي طلبات الشعب بالمحاكمة لتسكت الشعب احتراماً او إذعاناً لأحكام القضاء.
الرئيس مجرم، لكن الدولة الامنية انتصرت بخروج باروناتها براءة، ساهمت في ذلك اجهزة طمست الادلة، واجهزة رتبت القضايا لتهدئة الشارع لا للوصول الى العدالة.
لم تكن مفاجأة اذن.. تحول محاكمة القرن الى مهزلة.. القرن أيضاً.
لم يتوقع احد أن تحقق محاكمة القرن العدالة.. لكن الانتظار كان احدى ادوات
السيطرة على الثورة في المرحلة الانتقالية.
مفاجأة الحكم في انها تأكيد على وجود خطة موديل مصري تستفيد من الموديل الروماني الشهير في قتل الثورات الشعبية وتتفوّق عليه.
الحكم يمنح تصريحاً بالقتل لأجهزة الامن في المظاهرات. يعني ان هناك قراراً بأن يكون مبارك هو «الدمية» التي يلقيها النظام للشعب لكي يستمر النظام.
هذه جريمة شهودها كل سكان مصر.. لكن احداً من المجرمين تمت معاقبته.
هذا الحكم اعلان عن وجود احدى العقائد الحاكمة في نظام مبارك: الجريمة تفيد.
براءة بارونات الدولة الامنية هي رسالة تطمين الى القتلة الجدد: اقتل فالدولة في ظهرك.. تمسح الادلة وتخفي كل ما يمكنه ادانتك.. ثم تحصل على براءة من قتل الشهداء؟
هذه جريمة رأيناها جميعاً، لكن المحترف الماهر في تستيف القضية جعل الشهيد يُقتل مرتين.. مرة حين ضربته رصاصات حرس مبارك، ومرة حين اختفى القاتل: «فص ملح وداب» كأنه قتل من كائنات فضائية.
القتلة وحدهم يحتفلون. الثوار خرجوا بوعيهم الى الشوارع بينما الفرعون مندهش: ماذ يريدون اكثر من حبسي؟
انهم يريدون ما لا يعرفه ولا يفهمه. يريدون العدل والحرية والكرامة.
ماذا يحدث عندما ترى الجريمة ولا ترى العقاب؟
هذه جريمة لا يمكن السماح بالوصول الى نهايتها، ستظل معلقة لأن فيها سر حياة الطبقة المهيمنة على الحكم.. ودولتها العميقة تهندس الطرق لتبدو مفتوحة لكنها مسدودة لمن ينظر بوعي جديد.
الثورة كلها في ادراج النائب العام.. نفسه الذي كانت ادراجه تحمي النظام.. انها المعجزة اذن ان تحمي النظام وتنصر الثورة بنفس الماكينة. والمعجزة الاكبر ان تجد من يصدقك.
المظاهرات عادت لنداء الشعب: انزل. وعادت للهتاف بسقوط النظام.. اما القاضي فقد اغلق الباب على نفسه اسابيع ليكتبة خطبة انشاء فات مدرس اللغة العربية شطبها من المنهج.
مبارك كالتمساح غيّر نظارته.. وترك شعرات قليلة بدون صبغة. وما زال ملتصقاً بالسرير.. لكنه سيدخل المرحلة الزرقاء ويرتدي بدلة المسجون.
هو مجرم كما قالت محكمة تحدثت عن عصور الظلام والفساد، لكنها في الوقت نفسه منحت البراءة لبارونات الدولة الامنية ومؤسسي جمهورية الخوف في عصرها الثالث (بعد عصور حمزة بسيوني وصلاح نصر ثم ممدوح سالم النبوي اسماعيل).
لم يكن امام المحكمة سوى ما حكمت به، او التنحي وفضح اللعبة، لكنها اختارت الحكم بالأوراق، وهو ما كشف بدون نية مسبقة عن خطة تكريس الدولة الامنية عبر حماية لاعبيها الكبار.
كل دولة امنية مصيرها واحد: الكباريه.
تسقط في ظل جبروت اسطورتها.
استخبارات صلاح نصر لم يبق منها الا حكايات منشورة على حبال النميمة ومواقع الجنس الرخيص.. واجهزة حبيب العادلي، ورغم ان خزائنها لم تفتح بعد، الا ان حكايات روب الحمام الوردي والبيوت السرية في مقر جهاز امن الدولة اثارت خيال الثوار رغم اننا في زمن الحياة المصورة على الهواء.
الرئيس مجرم، هذا ما شهدت به محكمة لم تصلها الأدلّة في قضية تعمّد صانعها أن تكون «فشنك» بلا رأس ولا قدمين.. ورغم هذا اثبتت هذه المحكمة اجرام مبارك المومياء الذي يصارع الاحياء بوجهه وصبغة شعره ونظارته المستوردة وسريره الملتصق به.
مومياء تحارب لتمنح بعض النبل لجريمتها، والسفاح عادة يتصور أنه ينقذ
ضحاياه من عذاب الحياة، واللص يتصور أنه يمارس اعادة توزيع الثروة.
بمثل هذه الاوهام العقلية لا بد ان يرى مبارك انه خدم مصر، وان ما تعرض له مؤامرة خارجية، فهذه حدود معرفته وأفق خياله، والمدى الذي يمكن لتصوراته ان يدركه من خلال العتمة المسيطرة على عقله وتترك مساحات النور فقط للحيلة والتحايل.. باعتبارهما مفاتيح الذكاء.
الهدف الآن هو اعادة نشر العتمة لكي نرى ما رآه مبارك، قبل رحلة خروجه من القصر، لنراه حكيماً طيباً تعرض لخديعة عائلته وحاشيته.
لكن حتى هذا الهدف حطمته محكمة كان الغرض منها تمويت ثورة بتغييرايقاعها وإجبارها على الدخول في نفق القضاء، بقواعده وقوانينه التي تصلح لمحاكمة قاتل عادي او لص غسيل محترف.
المحكمة حكمت رغم ان اجهزة الدولة الامنية اخفت معالم الجريمة، اي ان دولة القانون اهتزت من حراسها، واللعب كان مكشوفاً في ساحات يريد من دنّسها ان نعلنها مقدسة.
انه عقل المومياء ان كان لها عقل، تنشر جراثيمها رغم انها تكاد ان تتصلب من فرط غضبها المكتوم، لكنها تعاني مما صنعته عندما كان المكياج والصبغة وحقن الفيتامينات وشعور السلطة تمنحها حياة.
مبارك بلاحياة.. لكنه ما زال قاتلاً.
تعلم قتلنا ببيروقراطية مدهشة.
يقتلنا بالقانون.
لكنه هذه المرة كان الضحية لينقذ بارونات دولته الامنية.. لتعيش وتنمو في غير ارضها. لتعود الى حياة لم تعد كما كانت، لتنهي ثورة لم تزل روح غضبها في الميادين.
الروح الثقيلة لمبارك تتبدي اذن من خلف قضبان الزنزانة ومن حكايات الحاشية التي تشاهد الرئيس المنفوخ بسلطته المزهو بما لا شيء تحته. تشاهده في استعراضات النهاية.
دفع مبارك ثمن دولته الامنية للمرة الثانية. وسيظل يدفع كلما اصرت الدولة الامنية على البقاء.
الدولة الامنية لا بد ان تأكل المومياء.. لتعود الى الحياة.