في الكتابات القيّمة التي حقّقها باحثون مختلفون حول تجربة لبنان السياسية والاقتصادية المعاصرة، جرى غالباً إغفال دور التدخّل الخارجي، الأميركي بالتحديد، في تأمين استمرار النخبة ذاتها على مدى حقبة الاستقلال. يشير مايكل جونسون إلى دور التدخّل الخارجي في الحرب الأهلية اللبنانية من دون أن يبني قراءة عليه (جونسون، 2001: 223). لا تذكر أُطروحة بريسلر شيئاً عن هذا الأمر (بريسلر، 1988). وتُغفل الكتابات التقريظية للنظام السياسي هذا البعد في تأمين استمرار النظام. انفردت باحثة أميركية هي أيرين جندزير في إظهار أنه لا يمكن فهم تجربة لبنان بعد الاستقلال من دون الأخذ في الاعتبار لدور الولايات المتحدة في صنعها (جندزير، 1988 و 1997). وانفردت باحثتان هما جندزير نفسها وكارولين غيتس (1998) في تقديم قراءة متكاملة في السياسة والاقتصاد لتجربة لبنان في مطلع حقبة الاستقلال.
1. حماية النخبة

سمح رفع السرية عن وثائق السياسة الخارجية الأميركية الخاصة بلبنان والشرق الأوسط، وفيها مراسلات الديبلوماسيين وتقارير وكالة الاستخبارات المركزية، للباحثة جندزير بأن تقرأ التجربة اللبنانية، كما نظر إليها وصاغها موظفو البعثة الديبلوماسية الأميركية في بيروت التي تحوّلت إلى سفارة ابتداءً من 1952.
أعطى تقرير وكالة الاستخبارات المركزية لعام 1948 أهمية خاصة للبنان بالنسبة للولايات المتحدة، لأن نخبته السياسية كانت مع الغرب من دون شروط (جندزير، 88: 189). وعبّر تقرير لجنة القوات البحرية في الخارجية الأميركية عام 1948 عن الموقف ذاته معتبراً لبنان «قيمة ذات شأن» (valuable asset) (جندزير، 97: 76). وبدا لبنان كـ«حليف مثالي» (exemplary ally) للولايات المتحدة خلال الخمسينيات (جندزير، 88: 197). وسمّى وزير خارجية الرئيس أيزنهاور، جون فوستر دالاس، مصالح أميركا في لبنان عام 1958 «أصولاً» أو «موجودات» (assets) يجب الحفاظ عليها (جندزير، 97: 12). ومنذ النصف الثاني من الأربعينيات، أصبح الحفاظ على النظام السياسي القائم، مع متابعة المصالح الأميركية في لبنان، همّ موظفي البعثة.
قالت الباحثة إن الديبلوماسيين لم يكونوا يتردّدون في نقد النظام القائم، مظهرين استخدام أفراد الطاقم الحاكم مواقعهم لخدمة المصالح الخاصة. ونقلت رأي القنصل البريطاني عام 1942 الذي نفض يده من مستقبل لبنان، لأن لا حس وطنياً لدى أحد فيه (المصدر نفسه: 70). وعام 1952، أعدّ الديبلوماسي في السفارة كامينغهام قراءة نقدية للواقع القائم كلّفته نقله من مركز عمله في بيروت (المصدر نفسه: 197). لم تكن تلك الكتابات النقدية تجد ترجمة لها في التعاطي مع النخبة السياسية التي أخذت الإدارة الاميركية على نفسها حمايتها بأي ثمن.
اتّضح باكراً للإدارة الأميركية أن الحفاظ على الطائفية كطريقة أو نظام ممأسس لتوزيع المواقع والامتيازات داخل النخبة، يتيح تمويه التباينات الحقيقية في المصالح، ويؤمن استمرار القوى الاقتصادية والسياسية المحلية التي يمكن الركون إلى إخلاصها كائناً ما كان الظرف. صرّح السفير هير عام 1953 بأنه لا ينبغي تعريض «رأس الجسر في الشرق» الذي يمثّله لبنان للخطر من خلال تغيير النظام الطائفي فيه (المصدر نفسه: 161). وشهدت حقبة 1952-1958 مواصلة التأكيد على أهمية هذا النظام في الحفاظ على الستاتيكو في لبنان. وقد جاء في تعليمات مجلس الأمن القومي المرسلة إلى الديبلوماسيين عام 1958 أنه: «(...) على الرسميين الأميركيين حين يتحدثون في الشأن اللبناني، التركيز داخل لبنان وخارجه على لبنان كتجربة ناجحة، حيث يعمل المنتمون إلى شعوب وديانات وثقافات مختلفة معاً بصداقة وفعالية من أجل تقدّم بلادهم» (المصدر نفسه: 16).
في عهد الرئيس بشاره الخوري، كان المرتبطون بالمصالح الفرنسية الأكثر نفوذاً. عبّر عن ذلك الموقع الذي احتلّه رينيه بيسون، مدير مصرف سوريا ولبنان، وهو مصرف فرنسي كان في الوقت عينه البنك المركزي للبنان. وقد مثّل هذا الأخير الشخصية الأكثر نفوذاً في محيط الرئيس، وكان مع اثنين آخرين هما ميشال شيحا وحسين العويني، الأكثر تأثيراً في تعيين الخيارات الاقتصادية للدولة (المصدر نفسه: 82). وقد استطاعت النخبة أن تعوّل على الحماية الأميركية لها في ذلك العهد، من خلال تبدّل موقف البعثة التي أصبحت تنظر بإيجابية إلى الطائفية. وقد أدرك أفرادها أن تغيير النظام الانتخابي يهدّد التوازن السياسي القائم الذي يؤمن الدعم للغرب والأميركيين (المصدر نفسه: 75).
كان عهد الرئيس كميل شمعون، الأكثر تعبيراً عن مقاربة للسياسة الخارجية مشابهة لتلك التي نسبها كريستوفر كلافام في ما بعد إلى نخب أفريقيا، ويمكن تعميمها على غالبية نخب العالم الثالث، وتمثّلت في اللجوء إلى حماية دولة عظمى ضمن إطار الحرب الباردة لضمان بقائها في الحكم (كلافام، 1996). أعطى النظام القائم أهمية قصوى للسياسة الخارجية كوسيلة لتأمين بقائه. وسوف يختار الرئيس أن يلجأ إلى علاقة استزلام كاملة مع القوة العظمى الممثلة في الولايات المتحدة.
وهو بدأ عهده بخفض عدد أعضاء مجلس النواب من 77 إلى 44، مستعدياً إياهم، من دون أن يقترن ذلك بتنفيذ مشروع إصلاحي من أي نوع. وذهب بنفسه إلى الأميركيين واضعاً نفسه في تصرّفهم، إلى درجة قبول أن يجري الجيش الأميركي عام 1954 مسحاً للأرض اللبنانية بكاملها، بما عليها من منشآت، يُصنّف في فئة الأنشطة الاستخبارية العسكرية. وهو أمر يتعارض مع أبسط واجبات الدولة في صون سيادتها (المصدر نفسه: 187). أرسل يُطمئن السفارة بشأن دعمه اللامحدود للسياسة الأميركية، وتولّى وزير خارجيته شارل مالك صوغ مشروع يكون لبنان فيه جزءاً من منظومة إقليمية لمواجهة القوى الراديكالية كالناصرية، ولحماية المصالح الأميركية في المنطقة.
سوف يشهد ذلك العهد وصول التعبئة لمكافحة الشيوعية إلى ذروتها في ظل الرئيس أيزنهاور. تدخّلت الولايات المتحدة في ظل تلك الإدارة لدعم النظام القائم أو الإتيان بنظام موالٍ لها في تسعة بلدان على الأقل، هي بورما وكمبوديا والكونغو وغواتيمالا وإندونيسيا وإيران ولاوس والفيليبين وفيتنام. ذكرت المراسلات لقاءات ميشال شيحا مع الديبلوماسيين واقتراحه أن يجري إصدار كرّاسات بملايين النسخ تنتقد الأفكار الشيوعية وتحذّر منها (المصدر نفسه: 193). وكانت مذكّرة الديبلوماسي كامينغهام وثيقة معزّزة بالأرقام، تشرح توزّع العاملين اللبنانيين على مختلف القطاعات، للتنبيه من الخطر على النظام المتمثّل في النخب المدينية والعاملين في قطاع الصناعة الذين يسهل تأطيرهم في النقابات وتجتذبهم الأفكار الشيوعية (المصدر نفسه: 198). لم يكن الديبلوماسيون آنذاك قادرين على تحمّل أن يكلَّف بتأليف الحكومة من لا يتوافقون معه في الرأي على كل شيء، كما رشيد كرامي مثلاً. وكانت الإدارة الأميركية ترى خطراً من حجم للتبادل مع كتلة الاتحاد السوفياتي والصين لا يتجاوز 2 في المئة من مبادلات لبنان مع الخارج (المصدر نفسه: 211).
وقد توالت طلبات الحكم للمساعدة العسكرية. ولم تكن تجد استجابة في غالب الأحيان من الأميركيين. سادت مقاربة وحيدة لتسليح الجيش من خلال المساعدات الأميركية. بل أسّست لتجربة ما زالت مستمرّة حتى اليوم. لن يكون ممكناً منذ ذلك التاريخ أن يتسلّح الجيش إلا بموافقة أميركية ومن مصادر أميركية. أظهرت المراسلات أن الإدارة الأميركية كانت تفضّل تسليح قوى الأمن الداخلي وتدريبها. وأشارت دراسة لمؤسسة كارنيغي إلى أن الإنفاق على التجهيز والعتاد في موازنة الجيش لم يتجاوز 30 مليون دولار لعام 2009، مقابل 2.3 مليار دولار في الأردن و 2 مليار دولار في سوريا في العام ذاته (كارنيغي، 22 أيلول 2010). أما المراسلات الديبلوماسية الحديثة التي كشفتها ويكيليكس، فقد أظهرت أنه حين نجح أحد أفراد النخبة السياسية في حرمان الجيش من 77 دبابة قدمتها روسيا، أهدى إنجازه إلى السفارة (ويكيليكس، الأخبار، 8 / 4 / 2011).
خلال النصف الثاني من عهد الرئيس شمعون، تزايدت المعارضة لحكمه بسبب استعدائه للنخبة، وخروجه على الإجماع العربي في مقاطعة انكلترا وفرنسا بعد العدوان الثلاثي على مصر، والتزامه وثيقة أيزنهاور «التي تبيح تقديم المساعدة العسكرية الأميركية لأي بلد يتعرّض لاعتداء من دولة أو دول تقع تحت سيطرة الشيوعية الدولية» (جندزير، 97: 216). اقتضى الأمر أن يتولى ويلبر أيفلاند رئيس شعبة الاستخبارات الأميركية في بيروت نقل الأموال شنطة بعد شنطة إلى القصر الرئاسي لشراء الذمم وربح انتخابات 1957 النيابية (المصدر نفسه: 222). وقد أفضت تلك الأخيرة إلى إزاحة المعارضة وعجّلت في نشوب الحرب الأهلية.
تُركت الحرب الأهلية تستمر بأفواجها من الضحايا المدنيين الأبرياء، لأن السفير الأميركي ورئيس وحدة السي. آي. إيه. المحلية ثابرا على دعم مواقف الرئيس الرافضة للتفاوض مع المعارضين. حاول الرئيس ووزير خارجيته أن يزيلا عن النزاع طابعه الداخلي، ويضفيا عليه طابع الصراع الإقليمي (المصدر نفسه: 240).كان ثمة صعوبة في إثبات التدخل الخارجي من قبل الجمهورية العربية المتحدة لتبرير التدخّل العسكري الأميركي الذي كان يُعدّ له منذ أشهر. وهو حصل بإنزال المارينز في اليوم التالي للانقلاب الذي أطاح النظام الملكي الحليف للغرب في العراق. وهدَفَ إلى منع أي تغيير يطيح النخب الموجودة في الحكم. أقنعت الـ11 ألف طلعة طيران من ينبغي إفهامه، بقوة الولايات المتحدة التي لا تُرَد. تخلّت الولايات المتحدة عن الرئيس شمعون، الذي رأى موفد الخارجية الأميركية مورفي أنه كان ضحية تطرّفه السياسي (المصدر نفسه: 341). وحل الرئيس فؤاد شهاب محله بتزكية من الأميركيين وعبد الناصر. وعبّر تحوّل النزاع بعد انتخاب الرئيس، إلى حرب أهلية طائفية، كما طريقة تأليف الحكومات الجديدة، أن أميركا لم تفعل سوى إعادة تثبيت الستاتيكو (المصدر نفسه: 348). ضمنت تدخلات السفير الأميركي ماكلينتوك مواقع القوى السياسية الطائفية، بما يؤمن الأرضية اللازمة لاستمرار الانقسام والنزاع الطائفيين (المصدر نفسه: 355 و 370). لم يُلاحَق بعد مجيء فؤاد شهاب إلى الحكم، أحد من المسبّبين للحرب الأهلية، والمسؤولين عن تهشيم النسيج البشري الوطني، وسقوط آلاف الضحايا المدنية.

2. صورة النخبة

رسمت جندزير، انطلاقاً من تقارير الديبلوماسيين، صورة حيّة لكتلة الممسكين بالسلطة، واستندت إلى جهد الخبير الاقتصادي في السفارة، صمويل رافّ، لتقديم سيرة ذاتية لأهم ممثلي ما سمّاه الطبقة التجارية. أعطت وصفاً دقيقاً لما سمّاه كمال الصليبي «حكم الكونسورسيوم». سبق استخدام مفهوم «السلطة بمنطق الأعيان» الذي بلوره ألبرت حوراني لتعريف نخبة ما بعد الاستقلال، لجهة قدرتها على جعل السياسة الحكومية تخدم مصالحها، ولجهة ضعف الدولة تجاهها (داغر، 2012: 124-125). واستُخدِم مفهوم «أصحاب السلطة المحلية» لتعريف أفراد النخبة الذين ينطلقون من السلطة المحلية التي بنوها للتعاطي في الشأن الوطني.
أظهر كتاب جندزير بوضوح الشريحة المدينية من تلك النخبة التي لم يكن كلّ أعضائها يشاركون في الحكم، لكنهم يمتلكون قدرة فائقة على جعل القرارات الحكومية تلبي مصالحم. وقد مثّل ارتباطهم في عهد بشاره الخوري بالمصالح الفرنسية مدخلهم إلى النفوذ والانتفاع من السلطة. أظهرت الصورة أن أعضاء الدوائر الثلاث المحيطة بالرئيس في العقد الأول من استقلال الكيان، كانوا مستوردي بضائع ومصرفيين. الأكثر نفوذاً كانوا أفراداً من عائلة الرئيس وآخرين من آل فتال وكتانة وشيحا وفرعون وضومط والعويني. كان يأتي بعدهم في النفوذ أفراد من آل كرم وصحناوي والقطار وطراد والصباغ وخديج وسالم. وكلّهم مستوردون أو مصرفيون. بلغ تعداد الطبقة التجارية آنذاك 150ــ200 شخص (جندزير، 97: 82). كان الملحق التجاري البريطاني قد أطلق عام 1949 على رينيه بيسون اسم «الديكتاتور الاقتصادي للبنان». وهذا الأخير إلى انطلاقه من فكرة أن يكون لبنان «نوعاً من سنغافورة» في الشرق الأوسط، كان يستخدم موقعه كمدير لمصرف تجاري خاص هو في الوقت عينه البنك المركزي الوطني، للحصول على العقود الحكومية من تشييد الأبنية الحكومية إلى تنفيذ مشروع الليطاني، ولإفادة من يرغب بالقروض وحجبها عن المناهضين للمصالح الفرنسية (غايتس، 1998: 93). وأظهرت الصور المنشورة في الكتاب عدداً من المسؤولين السابقين كحبيب أبي شهلا وغيره، بوصفهم محامين للشركات الأجنبية، ومنها الشركات البترولية الأميركية.
عرّفت جندزير بالزعماء الآخرين، كصبري حمادة وأحمد الأسعد ومجيد أرسلان، بوصفهم ملّاك أراض كباراً ينظرون إلى النظام القائم بوصفه نظامهم. وقدمت لائحة بأسماء العائلات الموزّعة على مختلف الطوائف التي تمثّل مواقع سلطة محلية، ككرامي والمقدّم والجسر والعلي وعبود وفرنجية وحماده والأسعد وأرسلان وجنبلاط، إلخ. (جندزير، 97: 56). قالت المراسلات أيضاً إن البعض من الزعماء يستطيعون تعبئة جيوش خاصة تنافس بحجمها الجيش الوطني (المصدر نفسه: 55). لا ينبغي إغفال أن أحد موروثات الانتداب، إيكال بعض مهمات الأمن في الريف إلى الزعماء والملّاك الكبار، لخفض فاتورة حفظ الأمن على السلطة الانتدابية.
برز في الصورة ذاتها دور الرئيس حسين العويني وزيراً للمال ثم رئيساً للوزراء. وهو المصرفي الذي استمد موقعه من علاقته بالملك عبد العزيز، حين كان مديراً لمصرف الهند الصيني الفرنسي في السعودية، وعلى ارتباط بمصرف سوريا ولبنان. وهو كان أحد عناصر النخبة السنيّة المدينية التي تناغمت مع عناصر الفئة الأولى، والتحمت بها في إرساء نموذج الدولة الليبرالية. استندت تجربة الرئيس الحريري في ما بعد إلى تقليد كانت بدايته مع الرئيس العويني.
في مقابل مواقف من مثل تلك التي كانت تقول إنه لا حاجة للصناعة لكي لا تنشأ نقابات ونذهب إلى الشيوعية (المصدر نفسه: 82)، كان ثمة قائلون بضرورة تنمية الصناعة كالرئيس صائب سلام، أو الرئيس عبد الله اليافي (المصدر نفسه: 172). لكنها مواقف لم تكن تُترجَم إلى إجراءات تتّخذها الحكومات التي رأسوها.
بدا كمال جنبلاط الوحيد في الصورة التي رسمها موظفو السفارة حاملاً لمشروع مختلف جذرياً. شبّهه موظفو شركة التابلاين بمصدّق في إيران، وتدخّلوا في بداية عهد شمعون لمنع توزيره (المصدر نفسه: 163). طرح مشروعاً خلال لقائه مع الرئيس اليافي يتضمّن تأميم شركات النفط والكهرباء والأسمنت، وتطبيق ضمان اجتماعي شامل، وفرض ضريبة على الأغنياء. انتقد الرئيس اليافي مواقفه القصوية، وقال له إنه يفقد عقله (المصدر نفسه: 165).
ولعل جنبلاط كان الوحيد الذي انتبه إلى وجود شيء اسمه ريف لبنان، يتطلّب الحفاظ عليه عناية خاصة من الدولة. لكنه لم ينجح في نقل ذلك الهمّ إلى الآخرين من أفراد الطبقة السياسية. بل لعل النموذج السائد آنذاك في التغيير القائم على أن تحل الدولة محل قوى السوق، الذي نظّر له بول باران واستوحى عناصره من التجربة الستالينية وطبّقته دول عربية ونامية عديدة، لم يكن قادراً على استقطاب رأي عام واسع، أو أن تطبيقه لم يكن ممكناً إلا عبر الانقلاب العسكري. لم يكن النموذج الآسيوي للتنمية كأنجح نموذج في تحقيق التصنيع المتأخّر، الذي تتولى الدولة دور القيادة فيه ويكون القطاع الخاص محرّكه، قد عُرِف بعد.
من الأمور التي تصدم القارئ صورة حميد فرنجية كأحد زعماء الريف. منذ القرن التاسع عشر، كان أولاد أُسر الأعيان يدرسون القانون ليصبحوا محامين. كان ثمة غلبة ساحقة للمحامين في أوساط الزعماء والنخبة السياسية. ارتبط البارزون منهم، ونموذجهم فرنجية، بالمصالح الأجنبية بوصفهم محامي تلك الشركات. لم يدرِك هذا الأخير أنه تخلى عن دوره كزعيم معني بمستقبل مجموعة بشرية بكاملها. وهي مجموعة كانت تختفي من أمام ناظريه بالهجرة من الريف والاغتراب. لم يفكّر زعماء الريف آنذاك في أن مسؤوليتهم طرح مشروع بديل يقوم على التصدّي للنموذج القائم على حرية التبادل ودور بيروت كمستودع وسوق تجارية. لم يدركوا أن مصلحة الريف الذي يمثلونه لا تتحقّق إلا بدولة تدخلية تدعم المنتجين وتستخدم الحماية الجمركية وفقاً لمتطلبات بناء الاقتصاد الوطني. اندمجوا في النخبة التجارية والمصرفية، وقضوا على إمكان مشروع بديل.

3. النتائج

عكست السياسة الاقتصادية المتّبعة آنذاك العناصر الأربعة التي يمكن بها اختصار التجربة اللبنانية: 1) اعتماد نموذج الدولة الليبرالية التي تحرص على توازن الموازنة العامة. 2) اعتماد سياسة «اليد المرفوعة» التي تتيح لمسؤولي الدولة التنصّل من مسؤولية حفز الاستثمار وتلقي بعبء تحقيق النمو على القطاع الخاص. 3) اعتماد سياسة حرية التبادل التي تقوم على فتح باب الاستيراد من دون عوائق. 4) إعطاء الأفضلية لمصالح أصحاب الريوع المالية على مصالح الصناعيين ومنتجي السلع عموماً.
أظهرت الوثائق ديبلوماسيين يتصرفون خلال عقد الأربعينيات كما لو كانوا موظفين لدى الشركات النفطية الأميركية العاملة في لبنان والمنطقة. جاء توفير أفضل الشروط لعمل تلك الشركات، بما في ذلك قوانين العمل المعتمدة، وتأمين مطارات وتسهيلات للنقل الجوي، وعقد اتفاقات تجارية، وتسهيل عمل الاستخبارات الأميركية في رأس لائحة الأهداف التي سعت الإدارة الأميركية لتحقيقها (المصدر نفسه: 66). لا مبالغة في القول إن تطوير مطار بيروت الدولي بعد 1945 جاء استجابة لرغبة الأميركيين في إقامة منشآت تسهّل حركتهم في المنطقة ككل. وقد استحوذ المطار مع مرفأ بيروت وشبكة التلفون، على 60 في المئة من الإنفاق العام التنموي لحقبة 1945ــ1954 بكاملها (غايتس، 1998: 104ــ105). وعند كارولين غايتس، جاء التركيز على تحسين مرافق النقل والاتصالات لإرساء «اقتصاد خدمات منفتح على الخارج» (outward oriented tertiary economy). وهي وضعت تجربة لبنان في مطلع الاستقلال تحت هذا العنوان، في حين وضع ألبر داغر التجربة تحت عنوان إعطاء الأولوية لأصحاب الريوع المالية على حساب الصناعيين والمنتجين عموماً (داغر، 2008).
درجت الطريقة المتداولة في لبنان على إيراد حصص كل من القطاعات الثلاثة في الناتج دليلاً على ازدهار الخدمات. بدت حصة الخدمات مرتفعة على الدوام في الناتج، بسبب ضعف هذا الأخير مقارنة بما كان يمكن أن يكون عليه لو تمّ تطوير القطاعات المنتِجة للسلع. واشتمل القطاع على الخدمات المالية والمصرفية والتجارة الداخلية والمثلّثة والنقل والترانزيت والسياحة وقطاعي التعليم والصحة. بلغت حصتها 57 في المئة من الناتج عام 1952 (جندزير، 97: 46). وبلغت حصتها 62 في المئة منه عام 1960 في كتاب سليم نصر وكلود دوبار. ورأى يوسف صايغ ومحمد عطا الله أن حصة ما يُصدّر منها إلى الخارج مثّلت ثلثي الناتج في ذلك القطاع في منتصف الستينيات (دوبار ونصر، 1976: 67). وفي تقرير السفارة لعام 1952، كانت التجارة والخدمات مصدر دخل لـ350 ألفاً من اللبنانيين، مقابل 700 ألف يعتاشون من الزراعة و 190 ألفاً من الصناعة والحرف (جندزير، 97: 198). برز نشاطان آنذاك هما النقل من خلال خدمات المطار والمرفأ، والترانزيت من خلال تصدير النفط العراقي والخليجي. تنبّه المراقبون إلى محدودية قدرة ذلك القطاع على استيعاب القوى العاملة اللبنانية. وأشار الاقتصادي نعيم أميوني عام 1946 إلى أن معمل غزل للقطن واحداً، يؤمّن عملاً لـ4 أضعاف ما أمّنته شركة الـ أي.بي.سي. في طرابلس، التي انتظرها الأهالي عشرين عاماً (المصدر نفسه: 47). استقطبت نشاطات بالكاد تستفيد منها القوى العاملة في لبنان كل الاهتمام.
كان القاسم المشترك بين المؤسسات الصناعية التي أُنشئت في الثلاثينيات ضعف فعاليتها، وحاجتها إلى تدخّل الدولة بالحماية والدعم لتدعيم تنافسيتها. عرف عدد منها نمواً قوياً خلال الحرب الثانية بفعل الطلب على منتجاتها من الحلفاء. وقفت دولة الاستقلال موقف المتفرّج أمام انهيار الإنتاج في تلك القطاعات بعد انتهاء الحرب. كانت صناعة النسيج قد نمت بقوة، استجابة للطلب على منتجات الحرير من الجيوش الحليفة، وبسبب الدعم الذي وفرته لها إنكلترا. وبمجرّد انتهاء الحرب وعودة المنافسة الدولية، انهار الإنتاج في مختلف قطاعات النسيج، ولم تكن معامل الأصواف تعمل عام 1946 إلّا بنسبة 20 في المئة من طاقتها (غايتس، 97: 63). وانخفضت نسبة التشغيل إلى 20 في المئة و15 في المئة في قطاعي الجلديات والأحذية (المصدر نفسه: 71-72). واختفت صناعة أعواد الثقاب بفعل المنافسة الخارجية (المصدر نفسه: 75). ومنعت إنكلترا تحديث شركة الأسمنت في شكا التي كانت توفر حاجة لبنان وسوريا معاً، رغم الطلب الشديد على منتجاتها (المصدر نفسه: 67).
وخلال 1946ــ1952، كانت المواد الغذائية والنسيج والأسمنت تمثّل ثلثي الإنتاج الصناعي الذي انحصر في ثماني صناعات (المصدر نفسه: 118). وقد استطاع البعض منها أن يتجاوز صدمة تحرير التبادل بعد انتهاء الحرب، التي أُضيفت إليها خسارة السوق السورية عام 1950، التي كانت تستوعب 60 في المئة من الإنتاج (المصدر نفسه: 128)، وذلك من خلال تجديد التجهيزات وخفض كلفة اليد العاملة إلى مستوى الحد الأدنى للأجور، كما في قطاع النسيج، والتصدير إلى الأسواق العربية التي باتت تستوعب نصف مجموع الصادرات (المصدر نفسه: 123 و129).
وفي حين كان الكلّ يتحدّث أثناء الخمسينيات عن «معجزة»، كان الريف ينهار بوتيرة متسارعة. وإذا كان ذلك العقد قد شهد جهداً من مزارعي لبنان لتطوير زراعات تصديرية، فإن يأسهم من إمكان تحسّن أوضاعهم، أو التعويل على دعم حكومي لهم، جعل فتح شبكة الطرق التي وصلت القرى المعزولة بالساحل والمدينة خلال العقد اللاحق مناسبة تركهم أرضهم التاريخية، كما لو كانت أرضاً محروقة. لحظت الخطتان لـ1958 و1965 نسبة من الإنفاق التنموي لا تتجاوز 4 في المئة لإنماء الريف الذي كان يضم نصف القوى العاملة اللبنانية، ويمثّل الحاضنة التاريخية لشعب لبنان (داغر، 2012: 149). وذكر مسح القوى العاملة الذي أجرته مديرية الإحصاء المركزي في بداية السبعينيات أن المعنيين بـ«الهجرة الداخلية» كانوا 689 ألفاً أو ثلث السكان (المصدر نفسه: 152). كان الريف بلاداً مقهورة، لم يُتح لها حتى أن تئن. كانوا يُشعِرون أهلها بالخجل لأنهم فقراء. تشتّت في أنحاء المعمورة أولئك الناس الذين لم يكونوا يملكون غير كرَمهم، وهو بلا حدود، وكلّ تلك العاطفة التي كانوا قادرين على منحها زاداً للأجيال المتعاقبة.
استوعبت أستراليا جزءاً مهماً من أهل الريف، أولئك الذين انتزعوا من أرضهم ولم يكونوا يملكون غير خبرتهم كمزارعين. وانتزعت الحرب الأهلية، ابتداءً من 1975، 40 في المئة من شعب لبنان لترميهم في أقاصي الأرض. ووفّر غياب أي تغيير في النخبة السياسية وفي النموذج بعد 1990، شروط ذهاب ثلث القوى العاملة من فئة الشباب إلى الغربة خلال 15 عاماً فقط (داغر، 2012: 156-158).
لم يخطئ بول باران في التمييز بين الناتج المحقّق والناتج الذي يمكن تحقيقه (potential)، وفي أنه لا يمكن الركون إلى القطاع الخاص لبلوغ هذا الأخير. هذا ما برّر له إحلال الدولة محل القطاع الخاص. كان جزء من الكلام الذي انتشر منذ الخمسينيات حول «المعجزة» الاقتصادية في لبنان، ضخاً إعلامياً تدفع السفارة الأميركية ثمنه في الصحافة اليومية، لتلميع صورة النموذج اللبناني (جندزير، 97: 197). وجدت تلك الأفكار صدى لها في كتابات ما قبل الحرب. كان المشترك بينها هو أن تدخّل الدولة يعوق مبادرة القطاع الخاص. أخذ ميشال شيحا ذلك عن ملهمه فريدريش فون حايك. ورأى ألبر بدر وشارل عيساوي الشيء ذاته. وقرّر بدر أن النموذج يقوم على تبعية الظرف الداخلي لعوامل خارجية لا قدرة للاقتصاد على التحكّم فيها. وهي مجرّد إشارة لم تستدرِج أي اقتراح مناقض لذلك التوجه في السياسة الاقتصادية بل العكس. خلص بدر إلى القول إن خصائص النموذج تجعله يستحق التقريظ. ونقل صايغ تبرير النخب لعدم قبول تدخّل الدولة، وهو أن هذه الأخيرة غير فعالة، ولا تستطيع أن تملي رأيها على القطاع الخاص (داغر، 1995: 18-29). وكأن عدم فعالية الدولة أمر معزول عن طبيعة النظام القائم. ناقض مجموع تلك الآراء التجربة التاريخية للبلدان التي حقّقت تصنيعها المتأخّر.
قال روجر أوين إن إنشاء الكيان أضعف الريف تجاه النخب التجارية المدينية ( أوين، 1976: 24). وأدت التجربة بمجملها إلى دمار ذلك الريف. أما كان أفضل لأهل ريف لبنان لو لم يوجد هذا الكيان الذي كان سبب تهجيرهم؟ تثبت قراءة العقدين الأولين بعد الاستقلال، من جهة أخرى، أنه كان ثمة حتماً خيار آخر للبنان غير الذي اعتمد. استخدمت جندزير تعبير « النخبة غير المسؤولة اجتماعياً»(socially indifferent elite) في وصفها لنخبة مطلع الاستقلال (جندزير، 97: 49). كان يمكن تلك النخبة أو نخبة أخرى أن تتنبّه إلى مصالح شعبها وتفقه معنى السيادة، أن تتوحّد حول خيارات تقوم على بناء لبنان من خلال تطوير القدرة الاستيعابية للريف، وتطوير اقتصاد منتِج في الريف والمدينة. وهو خيار كان سيجعل شعب لبنان مصدر قوّة الدولة فيه، وليس الانتماء إلى حلف عالمي ضمن إطار الحرب الباردة.
كمنت المشكلة في نظرة السياسيين إلى أنفسهم التي صاغها ألبرت حوراني ونسبها إليهم، وتعكس «نموذجاً للعمل السياسي بات متداولاً منذ القرن التاسع عشر، يجري على مستويات ثلاثة مختلفة، تعكس التقاء قوى محلية مع أخرى إقليمية ومع قوى عظمى، مع ما يمكن أن ينطوي عليه ذلك من حالات سوء فهم ذات نتائج مأساوية»( حوراني، 1985: 10). أظهرت دراسة جان ــ فرنسوا بايار حول نخب أفريقيا، أن هذه الأخيرة ذهبت بنفسها لملاقاة المستعمِر، ونسجت معه علاقات شتّى، أسّست لواقع الاستتباع الذي عرفته أفريقيا على مدى القرون الماضية (بايار، 1999). بل تُثبت التجربة اللبنانية أن السيادة ليست أمراً نافلاً، وأن النخبة التي تنطلق في الأصل من فكرة أن لا حاجة إلى السيادة، وتتخلّى طوعاً عنها، تضرب مقومات البلد الذي تنتمي إليه.
المراجع
Bayart Jean-François‚ “L’Afrique dans le monde: Une histoire d’extraversion”‚ in Critique Internationale‚ n. 5‚ Automne 1999‚ pp. 97-120.
Clapham Christopher‚ Africa and the international system: the politics of state survival‚ Cambridge : Cambridge University Press‚ c1996.
Dagher Albert‚ L’Etat et l’Economie au Liban : action gouvernementale et finances publiques de l’Indépendance à 1975 ‚ CERMOC‚ Beyrouth‚ 1995‚ 222 pages.
Dubar Claude‚ Selim Nasr‚ Les classes sociales au Liban‚ Paris‚ CNRS‚ 1976.
Gates Carolyn‚ The Merchant Republic of Lebanon: Rise of an Open Economy‚ London: centre for Lebanese Studies with I.B. Tauris‚ 1998.
Gendzier Irene‚ “ The declassified Lebanon 1948-1958: Elements of Continuity and Contrast in US Policy Toward Lebanon”‚ in Halim Barakat (ed.)‚ Toward a Viable Lebanon‚ Georgetown Univ.: Centre for Contemporary Arab Studies‚ 1988.
Gendzier Irene‚ Notes from the Minefield: United States Intervention in Lebanon and the Middle East‚ 1945-1958‚ N.Y.‚ Columbia univ. press‚ 1997.
Hourani Albert‚ “Political Society in Lebanon: A Historical Introduction”‚ Center for International Studies‚ MIT‚ Cambridge‚ Mass.‚ Oct. 3‚ 1985‚ 18 pages.
Johnson Michael‚ All Honorable Men: The Social Origins of War in Lebanon‚ London: Centre for Lebanese Studies and I.B. Tauris‚ 2001.
Preisler Barry Edward‚ Lebanon‚ The Rationality of National Suicide‚ Ph.D. Dissertation‚ Univ. of California‚ Berkeley‚ 1988.
Owen Roger‚ “The Political Economy of Grand Liban‚ 1920-1970”‚ in Roger Owen (ed.)‚ Essays on the Crisis in Lebanon‚ London‚ Ithaca Press‚ 1976‚ pp. 23-32.
ألبر داغر، «كيف أُفرِغ ريف لبنان من أهله»، الأخبار، 5 و6 أيلول 2011، أُعيد نشرها في ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 2012، 224 صفحة.
ألبر داغر، «دور الدولة في المشروع التنموي اللبناني، نشرت تحت عنوان» دور الدولة التنموي: متى تجاوز «الشيحية» ؟»، النهار، 12 حزيران 2008، أُعيد نشرها في ألبر داغر، أزمة بناء الدولة في لبنان، دار الطليعة، 2012، 224 صفحة.
* أستاذ جامعي لبناني