طرحت المسألة الطائفية في الانتفاضة السورية منذ بدايتها بأشكال مختلفة، مستترة أحياناً وظاهرة أحياناً أخرى. وظلت هاجساً وراء تخوّف بعض الفئات الاجتماعية من الشعب السوري من النتائج التي يمكن أن تصل إليها بلادهم في نهاية المطاف. وعلى رغم أنّ الصراع السياسي الدائر في الشام هو صراع بين نظام الحكم والمطالب الشعبية، وليس بالتأكيد صراعاً بين الطوائف، لكن المشكلة تكمن عندما يتم التمييز ضد قطاع من المجتمع على أساس أي انتماء مذهبي، سواء كان هذا القطاع موالياً أو معارضاً. تختلف التحوّلات السياسية في تأثيرها على التكامل الوطني للمجتمعات غير المتجانسة مذهبياً واثنياً، فمنها ما يعزز تماسك هذه المجتمعات، ومنها ما تكون له آثار سلبية مختلفة الدرجات على وحدتها وانسجامها. وبلا شك، لا توجد انتفاضة في العالم تحظى بموافقة جميع أبناء المجتمع. ولكن تكمن خطورة الحالة الثانية عندما يكون معارضو الانتفاضة غير هامشيين، وبل قطاعات أهلية أساسية في المجتمع.
خلق الموروث الاجتماعي والتاريخي والاستبداد السياسي على مدى التاريخ السوري (باستثناء مرحلة ما بعد الاستقلال إلى حد كبير)، هويات وانتماءات فرعية في الحياة الاجتماعية، مما يعني ظهور أزمة في الهوية في المجتمع السوري. ومن الطبيعي أنّ المجتمعات التي تعاني من أزمة في الهوية عاجزة عن تحقيق تكامل وطني بين مكوناتها الشعبية، نتيجة تضارب الهويات الفرعية مع الهوية الوطنية.
لم تنجح السلطة السياسية في سوريا، خلال الأربعين عاماً الماضية، في خلق نسيج اجتماعي مدني يُحيّد الطائفية ويعزز مفهوم المواطنة، بل بقيت الطائفية الموروثة من الحقبة الاستعمارية موجودة في المجتمع السوري، من دون أن تتحوّل إلى مشكلة طائفية بسبب الوعي الشعبي والحضاري للشعب السوري. إذ لم تعمل السلطة السياسية على خلق هوية وطنية جامعة للشعب السوري، واكتفت بتركيزها في مناهج التعليم السورية على العروبة والهوية العربية، من دون توفير مناخ ديموقراطي وتنموي يغني العروبة ويشجع عليها. كما أنّ النظام الإقليمي العربي السائد قبل الثورات العربية، كان عائقاً في وجه العروبة من خلال تبنيه لمواقف مناهضة لحركات المقاومة العربية والقضية الفلسطينية.

الوعي الطائفي الزائف

تعبّر أزمة الهوية عن مخاطر نتائجها في ظلّ عدم الاستقرار السياسي الداخلي، نتيجة الشعور بعدم الأمان وعدم الاستقرار وفقدان الإحساس بالأمان، مما يسمح لبعض الزعامات التقليدية بالتأثير على الشعب بشكل سلبي يعبر عن هواجسها الطائفية أو العشائرية، خصوصاً في ظل غياب المؤسسات المدنية القادرة على التأطير السياسي والاجتماعي للمواطنين. ولذلك تجلت الحالة الطائفية الزائفة في بداية مسار الانتفاضة السورية بالحديث الطائفي الخافت، وتخلف الجزء الأكبر من الجماعات الأهلية الطائفية عن المشاركة في الاحتجاجات، وتأثر فئات واسعة من الشارع المحتج بأفكار الشيخ السلفي عدنان العرعور الذي تبنى خطاباً شعبوياً طائفياً في جوهره. كما حصلت بعض الانحرافات الطائفية المحدودة بشكل عام في بعض المناطق، مما أفضى الى نوع من الفرز الطائفي الواضح الذي عاشته بعض المدن.
إن تخلف جزء كبير من الطبقة الوسطى والطبقة المثقفة في دمشق وحلب عن الالتحاق بالحركة الاحتجاجية لأسباب متعددة، وتركز التظاهرات بشكل أساسي في المناطق الريفية والمدن الصغيرة المهمشة اقتصادياً واجتماعياً، مع استمرار النظام في تعاطيه الأمني مع الاحتجاجات، والذي نتج عنه ظهور الحركات المسلحة المناوئة للنظام، ناهيك عن زيادة حدة الأزمة الاقتصادية في سورية، كل ذلك أدى إلى انتقال درجة الطائفية من الحالة البدائية الزائفة إلى درجة العنف الطائفي المحدد مكانياً.

العنف الطائفي في حمص

تشهد مدينة حمص منذ منتصف تموز 2011 وحتى اليوم، أعمال خطف بين الأحياء المتجاورة التي تسكنها طوائف مختلفة، إضافة إلى أعمال قتل واغتيالات واستهداف لحافلات وعائلات ذات خصوصية معينة وتمثيل بالجثث تكشف عن شكل واضح من جرائم الكراهية، والتي لا تعبر إلا عن أحداث عنف طائفي. وعلى رغم أنّ مدينة حمص اتخذت هذا المنحى، إلا أن المدن الأخرى لم تسلك هذا المنحى (باستثناء ريف حماه إلى حد ما).
تعزى حالة الاحتقان الطائفي التي وصلت اليها مدينة حمص إلى الانقلاب على نمط الحياة التقليدية للمجتمع الحمصي في السنوات العشر الأخيرة، من دون أن يكون هناك نمط جديد ذو مضمون حضاري وثقافي يحفظ كرامة وحقوق المواطنين، وذلك في ظل غياب شروط العدالة الاجتماعية والتنمية السياسية والاقتصادية والثقافية.
يتلاقى ذلك مع السياسة العنفية التي اتبعها كل من القوى الأمنية والقوى المسلحة المعارضة في المدينة والتي تركت آثاراً بالغة السوء في نفوس أهاليها في ظل تركيبة اجتماعية واقتصادية معقدة. تركيبة لعب فيها العامل الجغرافي دوراً كبيراً من خلال سهولة تهريب الأسلحة من لبنان.
إنّ الاعتراف بوجود قضية طائفية في سوريا لا يعني أن نمنع التحوّل الديموقراطي بدعوى أنّ الاستبداد يضمن أمن الوطن لأنّ الحالة الطائفية هي نتيجة من نتائج غياب الديموقراطية على مدى عقود طويلة، ولكن من دون نفي الحالة الطائفية التي قد تدفع دمشق إلى خيارات غير عقلانية وغير محسوبة، بل لا بد من الإحاطة بها لمنع تفجرها واحتوائها، بدلاً من إنكارها.
في بلد مثل سوريا مكوّن من مجتمع غير متجانس من الناحية الطائفية والاثنية، من الصعب أن يحكم إلا في ظل نظام ديموقراطي يقوم على مبدأ المواطنة المتساوية لجميع المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم العقائدية، ولا بد لقيم العروبة أن تكون أحد الحوامل الإيديولوجية لبناء الدولة العربية السورية.
* باحث سوري