نحن اليوم على مشارف المحطة الثالثة التاريخية من حياة الكيان السياسي اللبناني، ونقف على أعتاب حالة تتقدم فيها بوادر تفكك الكيان، وانحلال الدولة والنظام، اللهم الا اذا طرأ ما يكبح ذلك مما هو غير مرئي. إذ منذ نشأة الكيان اللبناني كإحدى حلقات اتفاقية سايكس ـ بيكو في 1918، وإعلانه رسمياً على صيغة 1943، تعرض لمحطتين سابقتين من التفكك، وانحلال الدولة. الاولى، محطة 1958، والثانية، محطة الحرب الاهلية التي تهيأت عند دخول الثورة الفلسطينية بقوة الى لبنان عقب حرب 1967، ثم بعد احداث ايلول الأسود 1970، الى ان انفجرت على مصراعيها في 1975. في اتفاقية سايكس ــ بيكو، طرح سلخ لبنان عن سوريا، واقامة دولة لبنان التي عُرفت بداية بلبنان الكبير، وبدأ الكيان الحديث يتأسس على تركيبة عمادها التسوية المارونية ــ السنية. في خضم قيام الكيان عقب سلخ أجزاء من سوريا وضمها إليه، رفض السنّة الانسلاخ عن تاريخهم وتراثهم وأمّتهم. لكن التطوّرات دجنت المجتمع السنّي، وجعلت فئات واسعة منه تتقبل الفكرة، وإن على مضض، ويبقى أنّ سلخ التاريخ على الورق غير سلخه من الذاكرة الجمعية للبشر.
قبِل السنّة بالتركيبة الجديدة، على أن تحافظ على عروبتها بحسب ما اشترطه مفتي طرابلس عبد الحميد كرامي عقب اعلان الكيان 1943، ومشوا فيها على قاعدة أن لا يكون لبنان لـ«الاستعمار ممراً ولا مستقراً» بحسب رياض الصلح ــ اول رئيس حكومة استقلالية لبنانية.

المحطة الاولى: مصر

في 1958، كان لبنان برئاسة كميل شمعون قد دخل حلف بغداد بمواجهة حركة جمال عبد الناصر العربية الناهضة التي أحيت لدى السنّة، وبعض ممن حولها من فئات قليلة من بقية الطوائف، روح الانتماء الى عالمهم العروبي ــ الاسلامي، فانتفضت الطائفة انتصاراً لعروبتها، وواجهت الدولة الذاهبة الى التحالف مع حلف بغداد، وتصدت للجيش والسلطة، واندلعت احداث 1958 التي استمرت نحو خمسة أشهر، وانتهت بانتهاء ولاية كميل شمعون، وبالتسوية الأميركية ــ الناصرية التي أثمرت إعادة انتاج التركيبة اللبنانية على صيغة 1943، وبالدستور عينه. ونجم عن تسوية لا غالب ولا مغلوب، انتخاب رئيس جمهورية جديدة هو فؤاد شهاب ممثلاً لما عرف بـ«النهج» في تلك الفترة، وهو صيغة فضفاضة قيل فيها إنّها توازن بين القوى العربية (الناصرية) والغربية (الأميركية).
يومها رفض السنّة توجهات النظام المعارضة لشروط قبولهم بلبنان الكيان والدور ــ أي عربي الانتماء ــ فلم يتوانوا عن تفكيك الكيان لتناقض موقفه في تلك اللحظة السياسية مع ذاكرتهم التاريخية.

المحطة الثانية: فلسطين

في 1967، نزح فلسطينيو الضفة الغربية وقطاع غزة الى لبنان عقب هزيمة ذلك العام. تعاطف السنّة، وبعض من بقية الطوائف معهم، وهزوا الكيان مجدداً بحملهم السلاح الى جانب الثورة الفلسطينية والدفاع عنها، وفرضوا بذلك اتفاق القاهرة. أثار الموقف السنّي طرف التسوية الكيانية الآخر، أي الموازنة، فراحوا يتسلحون ويشكلون ميليشياتهم. لم يكترث السنّة لما يتهدد الكيان، ومضوا في دفاعهم عن الثورة الفلسطينية. وبين 1968 و1989، كانت واحدة وعشرين سنة مليئة بالاضطرابات والتوترات الكبيرة، أتت على جسد الكيان المتهالك، والضعيف بتركيبته اساساً.
في 1989، حان وقت اعادة التركيبة بسبب اتفاق عربي ــ دولي لإدخال لبنان مرحلة جديدة من اللبرلة الاميركية ــ السعودية، فوضع اتفاق الطائف، نازعاً الكثير من صلاحيات الرئاسة المارونية، ومعززاً الموقف السنّي في السلطة ممثلاً برئاسة مجلس الوزراء، والمجلس بصورة عامة. انتهت محطة انهيار الكيان اللبناني الثانية باتفاق الطائف على قياس حريري، واستمرت حتى الأمس القريب.
واذا كانت المحطتان الاولى والثانية حصلتا تعاطفاً مرة مع مصر ومرة مع فلسطين، فإنّنا اليوم نقف على عتبة المحطة الثالثة على خلفية انتصار الشريحة الأكبر من السنّة، ومجموعات أخرى حولهم، مع الحركة السورية المعارضة للنظام.

المحطة الثالثة: سوريا

منذ بدء الحراك في سوريا منذ عام وربع العام، بدأ تأييد فئات سنّية وبعض من الفئات الاخرى، بالوقوف الى جانب المعارضين للنظام، وراحوا يمدون النازحين بالمؤن، وفي ظلال ذلك بالمال والسلاح والمقاتلين، ولم تخف قياداتهم وقوفها ضد النظام. ولئن لعبت العوامل الداخلية اللبنانية، وتوجهات قوى الرابع عشر من آذار دوراً في الوقوف ضد النظام السوري، فإنّ منحى آخر كان يتشكل في خضم الصراع. فقد تشكلت قاعدة حاضنة للجيش السوري الحر وعناصر المعارضة السورية في لبنان، تحتضنها القوى المناهضة للنظام في ما عرف بالتيارات السنّية، خصوصاً منها السلفية، والاخرى المرتبطة بالاخوان المسلمين، اضافة لتيار المستقبل، تجتذب في حماوة تعبئتها المذهبية دون هوادة ولا تردد، الكثير ممن تحمسوا لنصرة اخوتهم في المذهب الواحد، في سوريا ولبنان، من داخل البلدين ومن خارجهما، حتى اذا بلغت الاوضاع مرحلة اللاعودة، والصدام والتفجر، اندلعت التوترات الأمنية وامتدت في كل اتجاه.
في خضم هذا التفجر، وهنا بيت القصيد، برزت الدعوات إلى سحب الجيش اللبناني من الشوارع. واللافت أنّ المطلب سرعان ما جرت تلبيته، ووضعت منطقة واسعة من لبنان، وهي عكار، خارج سلطة الجيش، وبالتالي خارج سلطة الدولة، تذكر بتولي قوى الامن الداخلي ما امكن لزمام الامن خلال الحرب الاهلية في ظل التفكك الذي اصاب المؤسسة العسكرية في 1976. أما في القاعدة الأكبر، طرابلس، فلا يختلف اثنان على حساسية موقف الجيش في ما لو تصاعد التوتر الامني على خطوط التماس التقليدية.
ونحن لا نزال في بداية تفجر الاوضاع اللبنانية، تظهر ارهاصات تفكك الكيان بانسلاخ قضاء، وترشح مدينة الانسلاخ، وغياب الدولة فيهما بغياب جهازها الحامي للكيان والنظام والدولة، أي الجيش. فما جرى في عكار على خلفية مقتل الشيخ عبد الواحد، والاسراع بالمطالبة بسحب الجيش من الشوارع، يشي بأنّ أموراً تتفاعل في خبايا الواقع وترتب في كواليسه، وتتواصل الاعتصامات مترافقة مع التهديد بالعصيان والمواجهة، يقابلها تراجع من السلطة تحت ضغط التهديد، ينبئ بأنّ المحطة الثالثة لتفجر الكيان، والدولة، قد تؤسس، كما في السابق، على خلفية تعاطف أهل السنّة مع الحركات العربية من الناصرية الى المقاومة الفلسطينية إلى المعارضة السورية.
الكل ينتظر ما تخبئه الأيام أو الأسابيع المقبلة، لكن ما جرى حتى الآن، وفي المهلة الزمنية القصيرة، ان دل على شيء فإنما على أنّ الكيان والدولة هما في سرعة اندفاع نحو الهاوية الثالثة.
ثمة عناصر متوافرة اليوم تدعم وجود الدولة ومؤسستها العسكرية، يمكنها أن تلعب دوراً في لجم الاندفاع الى الخراب، لكن ما هو غير مؤكد قدرتها على المبادرة والنجاح.
* كاتب لبناني