قد تكون المستجدات الطارئة على الساحة اللبنانية لها من الأولوية بمكان، ما يجعلها تتقدم على ما عداها من مشاكل ترتبط بالسياق القانوني والسياسي المؤثرة على المجتمع اللبناني. لكن هذا لا يمنع من التصدي لأمور هامة، لا بدّ من مواجهتها لاحقاً، ولكي نكون على بيّنة منها عند استحقاقها. ومن بين تلك القضايا مسألة مشاركة المغتربين اللبنانيين في الانتخابات، طبقاً لما هو منصوص عليه في قانون الانتخاب رقم 25/2008.كثرت في الآونة الأخيرة التصريحات والمواقف السياسية المتعلقة بتداعيات عدم تمكين المغتربين اللبنانيين المسجلين أصولاً في لوائح الشطب من المشاركة في انتخابات 2013، خلافاً لأحكام الفصل العاشر من قانون الانتخاب رقم 25 تاريخ 8/10/2008. وأقر القانون هذه المشاركة بعد أن تكون وزارتا الداخلية والخارجية قد وضعتا الآليات التي حدّدها القانون لإجراء الانتخابات في الخارج، أسوة بكل الدول.
هذه التصريحات التي صدرت عن أعلى المراجع (لقاء فخامة رئيس الجمهورية مع الإعلاميين المعتمدين في القصر الجمهوري، والتي أكّد عليها أخيراً في حواره في برنامج كلام الناس في 24/5/2012، وكذلك حوار صحافي مع معالي الأستاذ زياد بارود)، توحي بأنّه في حال عدم مشاركة المغتربين في الانتخابات المقبلة سيعرّض العملية الانتخابية للطعن فيها (بالطبع أمام المجلس الدستوري). وبدأت هذه التصريحات تتفاعل في الوسط السياسي، ما دفع إحدى الصحف الى القول: «بعض الأوساط السياسية تسأل هل إنّ عدم تمكين اللبنانيين المقيمين في الخارج من الانتخاب يكون سبباً للطعن في نتائج الانتخابات النيابية».
بداية، وقبل الدخول في شرح موقفنا القانوني من هذا الهاجس، لا بد لنا من القول إنّنا مع وجوب مشاركة المغتربين في الانتخابات، ومن غير الجائز القبول بهذا التقاعس غير المبرر من قبل السلطة التنفيذية بعدم وضعها موضع التنفيذ الآليات التي تسهل هذه المشاركة، كما نص على ذلك قانون الانتخاب.
لا شك أنّ الدستور لم يتطرق في المادة 19 (استحداث المجلس الدستوري) الى آلية الطعن في الانتخابات الرئاسية والنيابية، ومن يحق له ذلك أمام المجلس الدستوري صاحب الاختصاص الحصري في هذا المجال، بل ترك الأمر للقانون العادي. إذ جاءت المادة 46 من القانون 243 (النظام الداخلي للمجلس الدستوري المعدّل عام 2000)، معطوفة على المواد 25-26-27-28 من القانون 250 تاريخ 14/7/1993 (قانون إنشاء المجلس الدستوري) لتحدد صراحة من له الحق في تقديم الطعن في صحة انتخاب نائب. وقد حصر هذا الحق بالمرشحين الخاسرين في الدائرة الانتخابية عينها وذلك لمخالفة النائب الشروط والضوابط الواردة في القانون والتي سهّلت الفوز له. أي أنّ المواطن العادي (مقيم أو مغترب) غير المرشح لا يحق له تقديم طعن في قانونية الانتخابات التي جرت وفق القانون المرعي الإجراء.
أضف إلى ذلك، وبما أنّ المجلس الدستوري عندما يمارس دوره كقاضٍ انتخابي يصبح أكثر تقييداً من دوره كرقيب على دستورية القوانين، إذ عليه تطبيق أحكام قانون الانتخاب والتأكد من أنّ النائب الفائز لم يخالف أحكام القانون، ما أدى الى فوزه بالانتخابات، ولهذا يطبق بشدة مبدأ Extra-petita أي تقيّده بمضمون الطعن ومقارنته مع أحكام القانون.
من خلال هذه النصوص الآنفة الذكر، نستطيع التأكيد أنّه لا يجوز للطاعن توجيه طعنه إلا في صحة نيابة نائب واحد! ولا يجوز أن يمتد طعنه هذا ليشمل العملية الانتخابية برمتها، ولا حتى بدستورية قانون الانتخاب المرعي الإجراء (لأنّ الطعن بدستورية القانون مردود لتقديمه خارج المهلة القانونية). ولنا ما يؤيدنا في ذلك إجماع الاجتهاد للمحاكم والمجالس الدستورية حول العالم بعدم قبول الطعن في العملية الانتخابية برمتها.
أضف الى هذه الحصرية خصوصية لبنانية تتحكم بالطعون الانتخابية والتي ترتكز على التوزيع الطائفي والمذهبي للمقاعد النيابية على صعيد كل دائرة انتخابية، لأن شرطَي الصفة والمصلحة يجب توافرهما في أي طعن يقدم أمام المجلس الدستوري. وإذا كان شرط الصفة لتقديم المراجعة قد حدّد صراحة في المادة 46 (المرشح أو المرشحين الخاسرين) إلا أنّه لم يتطرق الى المصلحة التي يستنبطها المجلس الدستوري من خلال التوزيع المذهبي للمقاعد النيابية، لأنّ من يقدم الطعن بوجه النائب الفائز يجب أن يكون له مصلحة في ذلك. إذ في حال أبطل المجلس الدستوري نيابة النائب الفائز يصبح المجلس أمام حالتين لا ثالثة لهما: فإما أن يقرر حلول الطاعن في المقعد النيابي الذي شغر بالإبطال، أو إعادة الانتخابات بصورة فرعية لملء المقعد الشاغر الذي لا بد من أن يكون المرشح له _ أي الطاعن _ أو أي مرشح آخر من المذهب ذاته.
لهذه الأسباب، يجب أن يكون الطعن موجهاً ضد نائب فائز _ ومن المذهب ذاته _ دون زملائه في الدائرة الواحدة بسبب خرقه (أي النائب الذي أعلن فوزه) وتجاوزه الضوابط القانونية التي حددها القانون والتي وضعت لتأمين المساواة بين المرشحين، ولتأمين الشفافية وصدقية العملية الانتخابية، بحيث يبنى الطعن على أن هذه التجاوزات سهّلت فوز النائب المطعون في صحة نيابته.
هنا، علينا العودة الى الطرح القائل بأنّه: «في حال عدم مشاركة المغتربين في العملية الانتخابية فمن شأنه فتح باب الطعن». قبل كل شيء، لا بد من التأكيد مجدداً أنّ هذا الطعن لا يسري على العملية الانتخابية برمتها. ولذا، علينا حصر الأمر بالحالة الفردية، أي أنّه يفتح الباب للمرشح الخاسر بإمكان الطعن بالفائز من دائرته ومن مذهبه. لنسأل على سبيل النقاش القانوني، ما هي التجاوزات والخروقات التي ارتكبها هذا النائب الفائز لجهة عدم مشاركة المغتربين في العملية الانتخابية؟ وما هو دوره في هذا المنع، لكي يتمسك المرشح الخاسر بهذا السند القانوني لإبطال فوزه، هل هو مسوؤل عن هذا المنع؟ كلا! أضِفْ الى ذلك هل يحق للمجلس الدستوري النظر في أسباب امتناع شريحة واسعة من اللبنانيين المقيمين من المشاركة في الانتخابات النيابية وفي خلفية الأوراق البيضاء؟ بالطبع، لا يمكنه ذلك، لأنّ الأمر خارج عن اختصاصه. إذ إن دور القاضي الدستوري، وفق ما استقر عليه الاجتهاد الدستوري حول العالم، إنما يقتصر على جمع الأصوات في حال كانت متقاربة ولا يتدخل في نسبة الممتنعين (من الداخل) أو عدم المشاركين (من الخارج) إطلاقاً.
كما أن عدم مشاركة المغتربين لا يمكن التعويل عليها لإبطال فوز أي نائب _ حتى لو أراد المجلس الدستوري توسيع اجتهاده، وهذا ما لا نتصوره إطلاقاً _ لأنّه كيف يمكن للمجلس الدستوري أن يتأكد من أنّه لو شارك المغتربون أبناء الدائرة المعنية في الانتخابات، كانوا سيصوّتون الى جانب المرشح الخاسر بالكامل؟ هذا غير منطقي لأنّه بذلك نطلب من المجلس الدستوري أن يبني قراراته على فرضيات، لا على وقائع خالفت قانون الانتخاب، بشكل فاضح، متخطياً بذلك صلاحياته. إذ إن عدم المشاركة وإن كانت خلافاً للقانون، لا يد للمطعون في نيابته بها. إذ لم يعمل هو بصفة شخصية على منع المغتربين من المشاركة، ما يحمّله وزر خرق مبدأ المساواة أو أي مبدأ آخر نص عليه قانون الانتخاب، لكي يعمل المجلس الدستوري على إبطال نيابته.
ختاماً، نقول: على السلطة التنفيذية سرعة العمل على وضع آلية مشاركة المغتربين في الانتخابات المقبلة، والعمل على تقليص الثغر التي تعتري قانون الانتخاب الحالي بهدف تحقيق المزيد من الشفافية والمساواة بين المرشحين. إذ في ظل الضوابط الحالية، نقول وبكل صدق إنّ المجلس الدستوري عاجز عن إحقاق العدالة وتأمين صدقية الانتخابات المقبلة وشفافيتها لألف سبب وسبب. وفي حال تعذر ذلك _ أي مشاركة المغتربين _ نؤكد من خلال هذه العجالة أنّه ليس هناك من أسباب قانونية أو دستورية للتسليم بإمكان الطعن في صحة الانتخابات التي جرت وفق قانون الانتخاب الحالي. إذ إن عدم مشاركة المغتربين إنما تبقى مسوؤلية تقصيرية تتحملها السلطة التنفيذية التي تحاسبها السلطة التشريعية، ليبقى الشعب في النهاية هو الرقيب عليهما، ويعمل على محاسبة السلطة السياسية _ هذا إذا قدِّر له ذلك _ وفي حال شاء من يريد تقديم طعنه على هذا الأساس ننصحه من الآن بعدم التفكير في ذلك، لأن المجلس الدستوري سيردّ الطعن، إذ لا علاقة للمطعون في نيابته بهذه المخالفة القانونية.
* أستاذ القانون الدستوري
في الجامعتين اللبنانية والعربية