عندما يثور الشعب، فإنّ تغييراً ما على السلطة إحداثه. هذا ما لم يرد النظام السوري أن يفهمه، فتعمقت الثورة وطال عمرها، وتعاظمت أزمة النظام، وبعد أن كانت بجذرها الأساسي اقتصادية، صارت أزمة سياسية بامتياز، وأزمة أمنية كذلك، وبذلك أصبح على النظام الرحيل. هذا ما قاله الشعب، حينما ردّد على كل بقاع سوريا: الشعب يريد إسقاط النظام.في الأشهر الأخيرة، تصاعدت الثورة في ريف حلب وريف دمشق بشكل لافت، وبعد أن كانت درعا وحمص وحماه ودير الزور ومئات البلدات والقرى في مختلف المناطق، قد خرجت في أوقات مختلفة عن سيطرة السلطة، انضمت حلب وكثير من أحياء دمشق أخيراً إلى هذا السياق، عدا أنّ كثيراً من المناطق يسيطر عليها النظام نهاراً، ويسيطر عليها الشعب ليلاً. وقد أخذت هيئات الثورة على عاتقها القيام بأعمال الدولة، وتأمين حاجات المواطنين الأساسية. يذكر هنا، أنّ أكثر من سبعين بالمائة من جغرافية سوريا، خارج السيطرة، وهو ما يشير بوضوح شديد، إلى اقتراب زوال السلطة وانتصار الثورة؛ ثورة بهذا الاندفاع، لا يمكن أن تخسر، ومن الضحالة الفكرية إلصاق تهمة الطائفية
بها!
شكلت الهجمة الهمجية للسلطة على جامعة حلب، استفزاراً قوياً للحلبيين، عدا ارتفاع عدد الشهداء في ريف حلب والتدمير المستمر له، مما أدخل أحياء جديدة في الثورة. وباعتبار أنّ النظام لا يتقن سوى لغة القمع واجتثاث الآخر، فقد واجه المنتفضين بالطريقة ذاتها، فتعاظمت الثورة فيها. ليستنتج أيّ متابع يمتلك عيناً موضوعية، أنّ الثورة الشعبية الوطنية وبعد انحياز المدن الكبرى لها، بدخول حلب وأحياء متسعة من دمشق فيها، قد أصبحت بلا حدود مناطقية، خصوصاً أنّها ظلت تحمل في شعاراتها مضامين وطنية جامعة، منذ الأشهر الأولى
لها...
خطة كوفي عنان أتت تتويجاً لقوّة الثورة، وليس بسبب رحمانية الدول العظمى كما يلهج النظام وتتمنى أوساط مهزمة من المعارضة. كذلك روسيا، لا تقاتل إلى جانب النظام، رغبة في الحفاظ على السلطة الحالية بأي ثمن، بل دفاعاً عن مصالحها، ومحاولة بذلك إعادة صياغة العالم بدئاً بسوريا، إذ اصبحت دمشق الآن مسألة تنازع دولي ومركز إعادة هيمنة على العالم، وبالتالي ما يريده كوفي عنان، هو انتقال السلطة إلى سلطة جديدة مضمونة، وتأمين مصالح الدول العظمى، وإنهاء حالة العنف، التي قد تمتد إلى المنطقة وتشعل حروباً قد لا يستفيد منها كثير من تلك الدول، وهو ما ترغب به أوساط من المعارضة في داخل سورية، وتصرّ أنه خيار جيد! وبالطبع، نقاط خطة كوفي عنان، رفعتها تنسيقيات الثورة منذ الأشهر الأولى، لذلك هي لا تحمل جديداً على الاطلاق، ولا يعول عليها بحال، رغم أنّ تطبيق واحد من نقاط تلك الخطة، قد يكون كفيلاً بإسقاط النظام، وذلك بفعل اندفاع شعبي، سيكون كبيراً حالما يحدث ذلك. الضغوط الدولية، لم تفعل شيئاً لايقاف ممارسات النظام الهمجية... نعم، الثورة تطورت بفعل ذاتي، وستنتصر بقوة الطبقات الشعبية، وبمشاركة بقية طبقات المجتمع.
الحل اليمني، الذي يركن عميقاً في خطة كوفي عنان، وفي رؤية بعض قوى المعارضة في الداخل، والأول يستند فيها إلى الثانية، وإلى مصالح الدول العظمى، لا يوليه النظام أيّة أهمية، وهذا متضمن في الخطاب الأخير للرئيس السوري، حيث الممكن الوحيد هو حوار تحت قبة البرلمان، ومع معارضة وطنية رمادية اللون لا تزال خارج تلك القبة، أي عليها إعادة حساباتها بما يتوافق مع إصلاحات النظام. هذا الفهم يعني أنّ النظام سائر في طريقه الخاص: أولاً، عبر اصلاحات مؤسسات الدولة، وثانياً، عبر الخيار الأمني في مواجهة الثورة، وبالتالي كلّ تصوّر لحل سياسي ومرحلة انتقالية تنطلق مع خطة كوفي أو حل آمن أو مرحلة انتقالية، ليس مطروحاً للنقاش، لدى السلطة. إذن، هي فقط أوهام بعض قوى المعارضة، الذين لا يجدون مستقبلاً للثورة سوى بحلٍ سياسيٍّ يكررونه ليل نهار، وآخرين يمتلكون العقلية المهزمة ذاتها، فيقولون: ما دام هذا ما في جعبة النظام كما قيل في جلسة «مجلس الشعب»، فليس من حلٍّ لقمع النظام المنفلت، سوى التدخل العسكري. وهؤلاء لم يتعلموا الإصغاء للوقائع المختلفة، ولو كانت صادرة عن الدول العظمى التي تقول: ليس من تدخل عسكري في سوريا، وأما ما يصدر عن هذا الرئيس أو ذاك، أوروبياً كان أو عربياً، فليس سوى أقاويل إعلامية تُباع في الصراعات السياسية الداخلية والدولية...
بخلاف ذلك، فإنّ تنسيقيات الثورة ومختلف أشكال تمثيلها الداخلية، فهموا الدرس جيداً، فهم يعتمدون على أنفسهم في تطوير الثورة وتوسيعها، وصولاً إلى إسقاط النظام؛ فهم من دفع الدم، وهم من أُدخل السجون، وهم المفقرون. هؤلاء، يصغون جيداً للنظام وللمعارضة، وبتجربتهم، استوعبوا أنّ المعارضة بتياريها الرئيسيين عاجزة عن فهم الثورة، والنظام بدوره، يأبى الرحيل، وهو الوحيد الذي يعرف قوة الثورة، وممثلوها يعرفونه جيداً، لذلك يثابرون على تنويع أشكال النضال، ويستخدمونها كلّها، وأحياناً يقدمون بعضها على بعض. ولكنّها وإن بدأت شعبية ولا تزال في ثقلها الأساسي، فقد تطورت إلى عسكرية أيضاً بشكل وازن، وهي الآن تأخذ أشكالاً متنوعة بما لا
يحصى.
تصاعد الثورة، والدخول القوي لحلب، ومجزرة الحولة المشينة، وإضراب تجار دمشق أخيراً ولأيام متتالية، حدث جديد ودليل أكيد على دخول قطاعات بشرية جديدة للثورة، أصبحت تجد مصلحتها في فك تحالفها التاريخي مع النظام، بالضد من الشعب المفقر، وتريد ضمان مصالحها في النظام القادم. هذا الفعل السياسي، هو فعل موضوعي، وسيصعد من تطوّر وتوّسع الثورة، وسيكون له مضاعفات على الثورة في كل أرجاء سوريا، وسيعمل على تشققات أكبر في السلطة ذاتها.
الثورة ستنتصر بقواها الذاتية، الآن هي تتوسع وتتطور، وستدخل الفئات التي لا تزال متردّدة بفعل الخوف والأوهام والمصالح فيها كما دخل قسم من التجار، بفعل تصاعد قوتها وتعمّق شعبيتها وبروز وطنيتها الجامعة. سيتم ذلك رغم كل محاولات النظام وبعض الأطراف المعارضة العاجزة عن أن تكون في قيادتها، حرفها نحو الطائفية.
* كاتب سوري