عندما اقترح علينا الصديقان العزيزان أسلم فاروق علي وبشير نافع النظر في إمكان إصدار هذه السلسلة عن نضال شعب دولة جنوب أفريقيا ضد الغزاة الأوروبيين ونظامهم العنصري المتوحش، لم نتردد على الإطلاق، بل أعربنا عن شكرنا لهما، لإطلاعنا عليها في المقام الأول. ومع أن أي معرفة علمية مفيدة، إلا أن سبب اهتمامنا الرئيس بمواضيع كتب هذه السلسلة الرغبة في الاطلاع على تلك التجربة النضالية الفذة، لشعب عانى معاناة استعمارية غير معهودة، وانتصر انتصارًا غير قابل للتراجع، رغم كل المعوقات الداخلية والخارجية التي واجهت حركاته الوطنية.
من ناحية أخرى، فإن أمتنا العربية منخرطة في نضال مشابه ضد العدو الصهيوني المغتصب، الذي لا يقل وحشية وعنصرية عن أصدقائه «البيض» في جنوب أفريقيا. ورغم كل التضحيات التي قدمتها أمتنا في هذا الصراع مع الحركة الصهيونية، فإنها لم تتمكن من إحراز أي تقدم على طريق تحرير ولو شبرًا واحدًا من الوطن الفلسطيني، الذي اغتصبته الحركة الصهيونـية المدعومة بلا حدود من الإمبريالية العالمية، التي تعبر منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) عنها تعبيرًا مكثفًا. ورغم وجود تباينات في شروط كل قضية وظروفها، إلا أن انتصار شعب جنوب أفريقيا ضد عصابة التمييز العنصري بدا في ثمانينيات القرن الماضي لأكثرية المتابعين للشأن الجنوب ـــــ أفريقي أبعد ما يكون عن التحقق. ولهذا السبب تحديدًا رأينا من المفيد أن ننقل لمتابعي الشأن الوطني، وللمنخرطين في النضالات السياسية والعسكرية والثقافية ... إلخ، التجربة النضالية لشعب جنوب أفريقيا، وكيفية تمكنه من تحقيق الانتصار الكامل على نظام بدا أنه كلي القدرة.
من ناحية أخرى، فإننا في حاجة إلى تعلم دروس نضالية وفكرية وتطبيقية، والاستفادة من تلك التجارب الكفاحية الفذة في مسيرة تحرير الوطن الفلسطيني المغتصب. ولأنه من غير الممكن تحقيق أي سلام كان في المشرق العربي مع الكيان الصهيونـي الغاصب، علينا أيضًا تعلم تجربة الرفاق والأصدقاء والحلفاء في جنوب أفريقيا، وكيفية تعاملهم مع مؤسسات الدولة العنصرية وتفكيكها سلميًا، ونقل البلد إلى دولة لجميع مواطنـيها. وهذه المهمة الكبرى تواجه أمتنا العربية في نضالها ضد العدو الصهيونـي، واستبدال الدولة الفلسطينـية العربية الديموقراطية بالكيان الصهيونـي الغاصب، وكيفية تفكيكه وخلق الأجواء والشروط المناسبة لانتقال السلطة السلمي على نحو حضاري متطور من نظام صهيونـي عنصري إلى دولة فلسطين الديموقراطية، وتنفيذ حق عودة أبناء شعبنا الفلسطينـي، الذين أخرج من بيوتهم وقراهم وبساتينهم ومزارعهم بقوة السلاح.
آخذين في الاعتبار الاضطرابات والصدامات المسلحة وغير المسلحة التي تجتاح أغلبية الدول العربية الغارقة في ما يمكن تسميته «عقد الانتفاضات»، التـي بدأت في البحرين في عام 1994، واستمرت خمس سنوات، ثم في الكويت في عام 2010، فإننا في أمسّ الحاجة إلى دراسة تجارب شعوب أخرى في كيفية الانتقال السلمي إلى دولة جديدة حقًا. هذا الكتاب، بما يحويه من تفاصيل مهمة، يعدّ مرجعًا فكريًا وتطبيقيًا مهمًا على كل ناشط في الحقل الوطنـي قراءته. في ظنّنا أنه على كل من يسعى ويتطلع إلى أوطان ودول جديدة، بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، الاستفادة من هذه التجربة السلمية الفذة، لتجنيب أوطاننا مآسي تحلل دولنا وتدميرها، ولتطبيقها تطبيقًا خلاقًا انطلاقًا من واقع كل دولة عربية وخصوصياتها.
زياد منى

■ ■ ■


نقطة اللاعودة
عندما خطا فردرك وِليَم دو كْلِرك نحو المنصة في قاعة برلمان جنوب أفريقيا المزينة بألواح خشبية في الساعة الحادية عشرة والربع من صباح الثاني من شباط عام 1992 ليفتتح أول جلسة للبرلمان كرئيس للبلاد، كان الجميع يتوقعون منه الإدلاء ببيان إصلاحي من نوع ما. كان الكلام عن إصلاح نظام الفصل العنصري يلوح في الأفق منذ عدة أشهر، وبعد سبع سنوات من الاضطرابات العنصرية اشتد الصخب والتذمر، مطالبًا بالتوصل إلى التغيير السياسي المنشود، حيث الضغوط الدولية على أشدها، والدولة تخضع لحصار اقتصادي وسياسي، والمدن السوداء في حالة غليان شديد، ومستوى حياة الأقلية البيضاء في تدهور مستمر. بعبارة أخرى، كانت هناك حالة طوارئ عامة.
تمسك الرئيس السابق بي دبليو بوتا لفترة بسيطة بوعد الإصلاح خلال بداية الثمانينيات، لكنه انسحب إلى عزلته الساخطة قبل أن يصاب بسكتة دماغية أدت إلى إزاحة حزبه الوطني له عن منصبه. كان بوتا، الملقب بـ(التمساح العجوز)، غاضبًا جدًا بعد تقاعده في المنتجع المسمى (ذ وِلدرنس)، بعدما حل الرجل الجديد مكانه، أي إن (إف دبليو) حل مكان (بي دبليو). كان هذا الرجل الأفريكاني مغرمًا للغاية بالأسماء المستعارة، وفي الثالثة والخمسين من عمره كان دو كْلِرك أصغر رئيس تنفيذي في تاريخ جنوب أفريقيا، حيث أحرز لتوه انتصارًا في الانتخابات أعطاه خمس سنوات يقضيها بأمان في مكتب الرئاسة، وهو بالتأكيد سيفعل شيئًا مهولاً.
كانت التوقعات مشوبة بالتشاؤم، لأن الماضي كان زاخرًا بالوعود التي نُكثت، ولا يزال الجميع يتذكر الإخفاق المخيب للآمال قبل خمس سنوات، عندما كان يفترض بالرئيس بوتا أن يعلن خطوة عظيمة إلى الأمام، في ما يخص التخلي عن التمييز العنصري، أي ما يسمى (الخطبة الحاسمة) بالاستناد إلى الدعاية المفرطة بالتفاؤل، التي اتضح فيما بعد أنها كانت فرقعة جوفاء خيبت آمال ما تبقى من الأصدقاء المخدوعين بجنوب أفريقيا في عدد من دول العالم، ونتج عنها بدء تطبيق العقوبات الدولية المشددة. عندما يتعلق الأمر بإصلاح التمييز العنصري فإن للحزب الوطني الحاكم سجلاً طويلاً يبين قوته في إعطاء الوعود وتخاذله في تطبيقها. ومرة تلو أخرى، اتضح أن الوعد بالإصلاح لم يكن أكثر من إعادة صياغة بلاغية. يقول رئيس المعارضة السابق فرِدرِك فان زيل سلبَرت: كان الأمر كأنه إعادة ترتيب للمقاعد على سطح سفينة التايتنك. بالمحصلة، وحتى لو كانت المؤشرات مشجعة كما هي الآن، فإن الجمهور يميل نحو تجاهل الإطراء المبالغ فيه قبل الحدث، وينتظر ليعاين النسخة النهائية.
إلى جانب ذلك، ومع أن المشاكل التي كانت تواجه الحكومة صعبة جدًا إلا أنها لم تكن مفاجئة، ولم يكن هناك أدنى شك في عدم إمكان القضاء على النظام الحاكم في وقت وشيك، حيث يسيطر الجيش والشرطة على الوضع تمامًا، ومع أن القوتين لم تستطيعا سحق المقاومة السوداء، فقد عملتا على كبتها واحتوائها. أما ما يتعلق بالعقوبات الاقتصادية التي فرضها المجتمع الدولي على جنوب أفريقيا، بسبب سياسة التمييز العنصري، فقد كانت مؤذية، لكنها قابلة للتجاوز أيضًا، ولم يكن أحد يتصور حدوث أي تدخل عسكري خارجي. كان بوسع الرئيس القوي أن يواصل نهجه لعدة سنوات قادمة، وكان الأفريكان، الذين خرج منهم معظم رؤساء جنوب أفريقيا منذ أيام انتشار المستوطنات البيضاء في منتصف القرن السابع عشر، مصممين على الاستمرار في هذه السياسة.
إضافة إلى ذلك، فقد كان من الصعب جدًا أن تستوعب الأقلية البيضاء الحاكمة في جنوب أفريقيا إصلاح التمييز العنصري، ولم يكن الأمر ببساطة مجرد إلغاء للفصل العنصري وإدماج للأقلية المضطهدة ضمن سياق المجتمع، كما فعلت الولايات المتحدة؛ فالأمر هنا يعني إعطاء السلطة للأغلبية السوداء، وهذا يعني سيطرتها على الدولة. كان هذا الأمر بمثابة الاحتمال القاسي الذي جعل الإصلاح دومًا عملية فاشلة.
لكن الأمر كان مختلفًا هذه المرة. الشيء المفاجئ هنا كان الإعلان الذي فاق توقعات الجميع، حتى إنه فاق توقعات الخط الأول وراء دو كْلِرك نفسه، الذي هيّأ جمهور مستمعيه لما هو آتٍ بقوله: (إن انتخابات 06/09/1989 وضعت دولتنا من دون رجعة على طريق التغيير الجذري). لقد استعمل محترفو الكلام المزدوج هذه اللغة قبل الآن، لكن بعد مرور خمس وثلاثين دقيقة تغير كل شيء وبطريقة حاسمة. في تلك اللحظة فإن الرئيس الجديد القصير البدين الأصلع الأنيق، لكن الذي لا يملك إلا القليل من سحر الشخصية اللافت، مال إلى أحد الجوانب كما يفعل العصفور، وضرب بقدمه اليمنى على الأرض في أثناء خطابه، وقلب رأسًا على عقب ثلاثة قرون من تاريخ البلاد.
لم يغير دو كْلِرك البلاد فقط، لكنه غيّر من طبيعتها. ففي الخمس والثلاثين دقيقة الآنفة الذكر أطلق قوى استطاعت خلال أربع سنوات جرف جنوب أفريقيا القديمة وتأسيس دولة جديدة مختلفة كليًا مكانها، دولة أخرى بدستور آخر وعلم آخر ونشيد وطني آخر، وفوق كل ذلك توج الأمر بولادة روح جديدة.
قضى دو كْلِرك على الفكرة القديمة للأفريكان البيض عن جنوب أفريقيا البيضاء التي كانت تعد دولتهم بالحق الإلهي، والتي من دونها لن يستطيعوا البقاء على قيد الحياة أمة ذات كيان، وأكد أن سكان البلاد سيقيمون دولة جنوب أفريقيا التي يقودها السود، وتكون غريبة عن الفكر الأفريكاني التقليدي كغربة حكم الأغلبية الفلسطينية للإسرائيليين.
ما يخص السنوات الخمسين الماضية على نحو خاص، كانت هذه (القبيلة الأفريقية البيضاء)، التي تتألف من حوالى ثلاثة ملايين من الأفريكان الذين كانوا يدعون بهذا الاسم أحياناً، في قبضة جنون العظمة العرقي. عاش أفرادها في الرأس الجنوبي للقارة الأفريقية منذ ثلاثة قرون ونصف قرن، حتى إنهم عدوا أنفسهم أهل البلاد الأصليين، وخلال فترة إقامتهم الطويلة في هذا المكان النائي كانت روابطهم الأبوية مع هولندا، التي أتى معظمهم منها، قد تآكلت وتلاشت وتحولت لغتهم الهولندية إلى لغة جديدة سموها الأفريكانز، كما تحولت نسختهم من الكنيسة الهولندية الإصلاحية في الواحات الأفريقية القاحلة إلى شيء متعصب ملتصق بهذه الأرض، يشبه العلاقة بين الكبريت والنار، واستطاع هذا التعصب التصدي للظروف القاسية التي جرى الصراع فيها من أجل البقاء، بمسدس في يد و(الكتاب المقدس) في اليد الأخرى.
تآزرت هذه العوامل لتوجد في هؤلاء الأفريكان إحساسًا بتميزهم وتعرضهم للخطر، بخلاف المستوطنين المستعمرين في أمكنة أخرى من العالم، لأنهم كانوا يفتقدون الوطن المتحضر الذي يمكن أن يعودوا إليه. كانوا أفريكانًا، من القارة الأفريقية، وإذا أجبروا على الرحيل إلى أي قارة أخرى، حيث لا ملجأ آخر لهم كي يتراجعوا إليه، فلا يوجد طريق مفتوح نحو الجنوب، كما حدث للمستوطنين البيض في كينيا وروديسيا والكونغو، الذين هاجروا على شكل موجات متلاحقة إلى جنوب أفريقيا، لذلك سيفقدون هويتهم الوطنية وسيعانون موتًا ثقافيًا. إلى جانب عصبيتهم العرقية نما إحساس لديهم بأنهم سلالات معرضة للخطر. ومع المزيد من تراجع الاستعمار في كافة أنحاء العالم، وأفريقيا على نحو خاص، ازداد جنون العظمة لديهم. فجنوب أفريقيا هي الوطن الذي وهبهم الرب إياه، وهو المكان الذي أعطاهم هويتهم الوطنية، وإذا ما أجبروا يومًا ما على مشاركة الأغلبية السوداء فيه فلن يكون لهم، وبذلك تتحقق نهايتهم لأنهم يؤمنون بأن أي أمة لا تستطيع النجاة من دون وطن، لذا كانوا يعتبرون الاندماج العرقي (انتحارًا وطنيًا).
ليس الأفريكان هم البيض الوحيدين في جنوب أفريقيا. هناك خمسة ملايين من البيض من بين مجموع السكان المقدر بواحد وأربعين مليون نسمة، ويمثّل40% منهم صنفًا يحوي العديد من النماذج التي تعرف (بالجنوب أفريقيين الناطقين بالإنكليزية) وهم يتألفون من أحفاد المستوطنين البريطانيين الذين بدأوا بالوصول بعدما ضمت بريطانيا مستعمرة الكاب الهولندية عام 1795، وآخرين أتوا بأعداد كبيرة بعد اكتشاف الألماس والذهب داخل البلاد في الجزء الأخير من القرن التاسع عشر، إضافة إلى خليط من المهاجرين من أمكنة أخرى من أوروبا، لكن الأفريكان هم الأساس بسبب عددهم والطاقة المنبثقة من دافع حب البقاء لديهم، الذي كان دائمًا القوة الدافعة في سياسات البيض، والذي مثّل روحها الوطنية.
لقد كان الأفريكان من طوروا فكرة التمييز العنصري التي بدأت في منتصف القرن الحالي (القرن العشرين) كسياسة بسيطة للكبت العرقي، لكن مع ظهور صيحة التحرر السوداء بعد الحرب العالمية الثانية تحول الموضوع إلى أيديولوجيا للخلاص الوطني. يتعين تقسيم جنوب أفريقيا بالاستناد إلى الأصول العرقية، حيث فُصِل السود في دول صغيرة قبلية دعيت (أوطاناً/homelands) للتخفيف من وطأة وقعها على النفس، وبذلك يستطيع الأفريكان البقاء كعنصر مسيطر في بلدهم، وعلى مصيرهم. أصبح هذا النظام بمثابة عقيدتهم الوطنية، وعلى شكل ديانة مدنية أعطت الكنيسة حق فرض العقوبات الدينية، وتطبِّق هذه العقوبات الحركة السياسية المتمثلة في الحزب الوطني. من منظور أيّ أفريكاني فإن أي انتقاد كان بمثابة الردة، وعمليًا تعدّ معارضة هذه السياسة بمنزلة خيانة عرقية.
من بين مهندسي هذه السياسة كان جان دو كْلِرك، الوزير في حكومة الحزب الوطني، الذي وصل إلى السلطة عام 1948، وتولى فيما بعد رئاسة مجلس الشيوخ. وبسبب دوره عُدَّ ((أُوم جان) العم جان كما كان يدعى في ذلك الوقت) شخصية موقرة في المجتمع الأفريكاني ذي اللحمة القوية. كان والد العم جان أيضًا من السياسيين الوطنيين البارزين، وصديقًا للعجوز بول كروغر، السياسي الوطني الأبوي للشعب الأفريكاني خلال السنين العاصفة لحرب بريطانيا مع البوير في بداية القرن، وأخت جان تزوجت هَنز سترجدُم (أسد الشمال) الذي كان يشغل منصب رئيس وزراء جنوب أفريقيا من عام 1953 حتى وفاته عام 1958، ومن غير شك كانا من أسرة القادة.
الآن، وفي 2 شباط من عام 1990، بدأ فردرك ويليم، وهو ابن جان، يدمر تقريبًا كل شيء ناضل الأب والأسرة والمجتمع من أجله، وقد كان أعطى هو نفسه، منذ أن بدأ حياته السياسية المهنية، كافة الإشارات التي تدل على أنه كان ضمن الجناح المحافظ للحزب الوطني. ومع ذلك فها هو الآن يضفي الصفة القانونية على كامل طيف منظمات التحرر السوداء ومؤيديها، التي اعتبرت خارجة على القانون خلال السنوات الثلاثين السابقة وما قبلها: أي المؤتمر الأفريقي الوطني وجناحه العسكري، ورمح الأمة (أمخُنتُ وِ سِزوِ)، والمؤتمر العموم أفريقي، والحزب الشيوعي الجنوب أفريقي. كما أعلن في الوقت ذاته الإفراج المرتقب عن نلسن منديلا، ومئات المعتقلين السياسيين الآخرين، وأعلن استعداده لدخول المفاوضات معهم للعمل على وضع دستور وطني جديد يتمتع فيه الجميع بحقوق متساوية، أي إنه بعبارة أخرى كان يدعو (إلى الانتحار الوطني).
كان وقع ذلك عظيمًا، ففي داخل البلاد نشأ مزيج من الصدمة والابتهاج وعدم التصديق، وحاولت الفئات المختلفة التأقلم مع هذا التغيير العميق. في الخارج كان هناك شعور بالتعجب والارتياح. في هذا المكان، وبعد ثورة البرسترويكا، التي قام بها ميخائيل غورباتشوف، قامت ثورة إصلاحية أخرى تمثلت في التحول السريع نحو الإصلاح، الذي شمل جنوب أفريقيا وكل ما تمثله. كانت خطبة الثاني من شباط، بالنسبة إلى العلاقات العرقية، تشابه تمامًا انهيار جدار برلين بالنسبة إلى الشيوعية لأنها رمزت إلى نهاية حكم آخر أقلية عنصرية في العالم.
مع تعمق هذا الحدث ظهرت ردود الفعل أولاً في الدول المجاورة لجنوب أفريقيا، ثم في المجتمع الدَولي ككل، حيث اعتبر هذا التحول في أكثر الدول الأفريقية تقدمًا من حيث الصناعة ذا أهمية كبيرة تتجاوز الأمور الرمزية. وهذا لا يعني فقط زوال العامل المدمر، الذي أخل بتوازن الإقليم الجنوبي لأفريقيا وأفقرها عدة عقود، وبالتالي تمتع ملايين الناس بالسلام والانتعاش، بل يعني أيضًا التحول العميق الذي جعل جنوب أفريقيا تملك الآن إمكان أن تصبح العامل المؤثر المهم الجديد في الشؤون الأفريقية.
تعد جنوب أفريقيا أهم قوة اقتصادية وعسكرية في أفريقيا، حيث يصل الناتج الإجمالي المحلي إلى 104 مليارات دولار، ويمثّل60% من ناتج سائر بقية الأقطار الأفريقية، التي يصل عددها إلى 45 دولة في النطاق الواقع جنوب الصحراء، كما يمثّل أربعة أضعاف ناتج نيجيريا المحلي، البالغ 28 مليار دولار، التي تأتي في المرتبة الثانية من حيث التطور، وتصل حصة الفرد من الدخل الإجمالي المحلية 2600 دولار، مقارنة بـ 230 دولاراً في نيجيريا. هذا الأمر يجعل من جنوب أفريقيا دولة إقليمية فائقة القوة في القارة الأكثر هامشية في العالم، وهي الدولة الوحيدة التي ربما تستطيع أن تكون المحرك الذي ينتشل أفريقيا من مستنقع الفقر واليأس. يمكن لجنوب أفريقيا الجديدة أن تؤدي دورًا مهمًا في الشؤون العالمية، كما قال القس دِزمُند توتو، الفائز بجائزة نوبل عام 1984 في ليلة منح الجائزة لنلسن منديلا عام 1993: إن جنوب أفريقيا عالم مصغر للعالم الكبير الذي نعيش فيه، وهي تجمع كافة القضايا العالمية: للبيض والسود، وللأغنياء والفقراء، وللناس المتحضرين وغير المتحضرين. وتابع توتو قائلاً: عندما تُبنى الدولة على أساس صحيح فإن جنوب أفريقيا ستكون المثال الصالح لبقية دول العالم.
على نفس الوتر طرح هربرت آدم وكُغِلا مودلي، وهما من المحللين القدامى لشؤون جنوب أفريقيا في كتاب صدر أخيرًا بعنوان (The Opening of the Apartheid Mind/ فتح عقل التفرقة العنصرية)، فكرة أن جنوب أفريقيا تمثّل مختبرًا لتسوية عالمية جديدة بين الشمال والجنوب، تدعو إليها الحاجة الملحة قبل أن يؤدي الانحدار السريع للجنوب إلى زعزعة استقرار الكرة الأرضية (1).
الحاجز بين الجنوب والشمال ربما يكون أكثر التحديات التي تواجه العالم بعد انتهاء الحرب الباردة، ويبدو أن الدول النامية لم تقدر ذلك بعد. وعلى الرغم من مرور سنين على انتهاء عهد التمحور الذاتي زمن ريغان ـــــ ثاتشر وانهيار الشيوعية، فإن سياستهما لا تزال مغلفة بإحكام في ما دعاه جون كِنِث غلبرِث (ثقافة الاطمئنان/ the culture of contentment) كي تفكرا جديًا في المأزق العميق الذي تعانيه الدول الأشد فقرًا في العالم، التي يقع معظمها في النصف الجنوبي من الكرة الأرضية، والتي يُنظر إليها كدول مستجدية مزعجة. ومنذ أن انتفت حاجة الدول الديموقراطية الغربية والدول الاشتراكية السابقة، التي كانت تدور في الفلك السوفياتي، إلى المنافسة في ما بينها على تقديم مشاريع المعونة لضمان ولاء دول العالم الثالث، نسيت هذه الدول المتقدمة هذا الموضوع، وعدّته غير ذي صلة في الوقت الحاضر، وتركت الدول المحتاجة تتخبط في يأسها المحبط. وحتى برامج إصلاح هيكلية البناء التي يقدمها البنك الدولي تبدو غير قادرة على وقف التدهور نحو عدم الاستقرار والفساد والتحلل، ما دعا دول الوفرة في العالم لأن تبتعد عنها بغضب وحنق.
لكن كما حذر آدم ومودلي فإن الشمال القوي يهمل الجنوب الذي لا حول له ولا قوة، ويدعه عرضة للأخطار المحيطة به. في هذا العالم السريع الانكماش لا توجد أمة يمكن اعتبارها مكتفية ذاتيًا، وأنها منيعة ضد الآخرين، وتتجلى أهمية الجنوب في ضعفه الشديد في ما يدعوه المؤلفان القدرة على زعزعة استقرار كامل الكرة الأرضية نتيجة عدم الاستقرار الذي يعانيه، وذلك من خلال تدهور البيئة، وانتشار الأمراض، وتيار المهاجرين، الناتج عن الأوضاع الاقتصادية السيئة، نحو العالم الغني وظهور التعصب الوطني والديني.
إن أخطر ما سبق هو ما أدعوه سياسات اليأس، فعندما يشعر الناس بتجاهل يأسهم فإنهم يدفعون لارتكاب أفعال يائسة لجذب الانتباه إلى مأزقهم، والأمثلة على ذلك كثيرة: احتجاز الرهائن، واختطاف الطائرات، ونسف مبنى التجارة العالمية في نيويورك، أو يقومون بإيجاد رؤى تتعلق بنهاية العالم، أو يتحولون إلى التطرف الديني وما يتبع ذلك من مغامرات انتحارية، والأمم اليائسة تخرج قادة متعصبين يقومون بمغامرات يائسة على المستوى الوطني. ومن بين الأمثلة على ذلك الظهور المفاجئ المربك لشخصيات متعصبة: آية الله الخميني، صدام حسين، عيدي أمين ومحمد عيديد، الذين يعدّون من المعالم البارزة لعصرنا الحاضر في عالم تنخفض فيه الرقابة على الأسلحة النووية، وبالتالي فإن سياسات اليأس في العالم الثالث المهمل ستمثّل خطرًا متعاظمًا في القرن الواحد والعشرين.
لا يمكن الاستمرار في تجاهل عدم التكافؤ في الثروة والقوة بين العالمين الأول والثالث، وهنا تكمن القيمة المستقبلية لجنوب أفريقيا في الشؤون الدولية. إن جنوب أفريقيا الناجحة التي تضم الآن واقعيًا كافة عناصر الانقسام العالمي، وتسعى إلى التغلب عليها يمكن أن تتطور إلى أنموذج للحل التدريجي للانقسام بين الشمال والجنوب، وأمام شخصية نلسن منديلا الدولية الفرصة كي تكون صلة وصل بين العالمين النامي والمتطور.
بالتأكيد، لم يكن ما ذكرناه سابقًا في ذهن دو كْلِرك عندما ألقى خطبته في الثاني من شباط، فقد كان الدافع لديه مختلفًا تمامًا، وكغورباتشوف كان في ذهنه نتيجة مختلفة عندما قرر اتباع نهج (البرسترويكا)، وكما لم يكن غورباتشوف يعلم أن إعادة هيكلة النظام السوفياتي سوف تؤدي إلى فقدان إمبراطوريته في أوروبا الشرقية وانهيار الشيوعية وتقطيع أوصال الاتحاد السوفياتي نفسه، كذلك أيضًا لم يتوقع دو كْلِرك أن تقود إصلاحاته إلى حكم الأغلبية السوداء وانتهاء العنصرية الأفريكانية قبل نهاية العقد.
أوضح دو كْلِرك في الخطب التي ألقاها بعد الثاني من شباط أنه يعارض بشدة وباستمرار تولي الأغلبية السوداء الحكم وقيام نظام (الفائز يأخذ كل شيء) لأن ذلك يعني سيطرة السود على مقاليد الأمور، وصرح أمام الدبلوماسيين الغربيين (لا تتوقعوا مني أن أفاوض على إخراج نفسي من السلطة). بدلاً عن ذلك يجب أن يوجد نظام (للتشارك في السلطة)، وهي فكرة أوضحها على أساس وجود حكومة بإجماع زعماء مختلف الجماعات العرقية، وأعلن أن جنوب أفريقيا هي (دولة مؤلفة من عدة أقليات) وأن كل قبيلة من القبائل السوداء العشر هي كيان عرقي بحد ذاته، كما هو موجود عند البيض، وهذا يعني عدم وجود مجموعة عرقية تؤلف الأغلبية المسيطرة، لذلك يجب على الجميع أن يحكموا بالتشارك عن طريق اتخاذ القرارات بالأغلبية، وفي المؤتمر التالي للحزب جرى تحويل هذه الأفكار إلى عروض سياسية.
كانت النتيجة خطة دستورية متطورة أكدت وجود مجلس نواب ينتخب عن طريق الاقتراع العام، ومجلس شيوخ يكون فيه لكافة الأطراف، إضافة إلى حد معين من الموالاة، تمثيل متساوٍ بغض النظر عن قوتهم، وعليهم أن يتوصلوا إلى اتخاذ القرار بالإجماع. وسوف يتألف الجانب التنفيذي للحكومة من كافة الأطراف على شكل مجلس (تشاركي) يجري فيه تداول الرئاسة سنويًا بين زعماء أقوى ثلاثة أو خمسة أحزاب بالاستناد إلى المقادير المئوية لأصواتهم الانتخابية، وكذلك يجب على المجلس التوصل إلى القرارات بالإجماع. تكون النتيجة أن الأغلبية السوداء في مجلس النواب يمكن أن تضع مسودة التشريعات، ثم تجري الموافقة عليها، فيما يكون للأقلية البيضاء حق الاعتراض عليها (الفيتو) في مجلس الشيوخ والسلطة التنفيذية. يمكن لحكم الأقلية البيضاء أن ينتهي، لكن السلطة السوداء يمكن أن تقيد وتكون غير قادرة على الاستفادة من مجمل عدم التكافؤ، الذي ترسخ خلال سنوات تطبيق نظام الفصل العنصري.
لكن من خلال تحرير الزعماء السود وقوننة السياسات السوداء أطلق دو كْلِرك المارد من القمقم، حيث يمكن للكتلة السوداء الضخمة في جنوب أفريقيا أن تتحرك وتضغط على الحكومة من خلال التظاهرات والإضرابات. فجأةً وجدت الحكومة البيضاء أنها لن تستطيع بعد الآن أن تقرر المستقبل وحدها، فالتزام دو كْلِرك بالمفاوضات يعني أن عليه أن يبدأ بالتسويات.
هاجم الزعماء السود خطة المشاركة في السلطة، ووصفوها بالمزيفة لأنها ستعطي الانطباع بوجود حكم للأغلبية، لكنها تكرس عدم المساواة الناجمة عن الفصل العنصري، وقد شبهها المحللون بخطة (أن الخاسر سيحتفظ بكل شيء)، وبالتدريج بدأت الخطة تتقوض: الأمر الأول كان فكرة (حقوق الفئة وتمثيلها حيث ستعمل الأحزاب السياسية كأنها ممثلة لهذه الفئات، وكذلك أفكار التحالف المدعم والرئاسة الدوارة. في النهاية جرى التخلي عن فكرة المشاركة الدائمة في السلطة.
جرى التوصل إلى الاتفاقية النهائية في تشرين الثاني عام 1993 على أساس تشكيل (حكومة وحدة وطنية) مؤقتة على شكل ائتلاف من كافة الأحزاب التي تمتلك أكثر من 5% من الأصوات نتيجة نظام انتخابات صوت واحد لكل فرد. وفي نيسان عام 1994 حصل كل من هذه الأحزاب على مقاعد في مجلس الوزراء بما يتناسب مع قوته، وأصبح من المؤكد أن زعيم الأغلبية سيصبح رئيسًا مع نائبين للرئيس، الأول من الحزب الذي أتى في المرتبة الثانية، والآخر من أي حزب آخر حصل على أكثر من 20% من الأصوات، وإذا لم يحصل أحد من الأحزاب على ذلك (وهذا ما حصل في الواقع) يقوم مجلس الوزراء بالحكم على أساس أغلبية الأصوات، لكن مع محاولة الحصول على الإجماع.
كان هذا ما حصل بالفعل، حيث تشكلت حكومة الوحدة الوطنية في أيار 1994 كي تحكم حتى الانتخابات العامة القادمة، التي ستجري في عام 1999، وخلال السنوات الخمس هذه سيكون دو كْلِرك أحد نائبي الرئيس، لكن بعد 1999 سيسقط الائتلاف الإجباري وستصل الأغلبية إلى الحكم. عندئذ سينسحب دو كْلِرك من التاريخ، ويكون واحدًا من الزعماء السياسيين القليلين الذين فاوضوا بحق على خروجهم من السلطة.