في مثل هذه الأيام قبل 53 سنة، استشهد القائد الشيوعي الكبير فرج الله الحلو تحت الضغط الإجرامي لآلة القهر والتعذيب الاستخبارية، وبعد ساعات من اعتقاله في غرفته الصغيرة في دمشق. قبل ذلك بحوالى عام كان فرج الله قد كتب في جريدة «النور» في دمشق أيضاً: «أهلاً وسهلاً بعبد الناصر». ورغم ذلك فقد اغتيل، لكن جرى إنكار اعتقاله، ثم تذويب جسده بالأسيد لإخفاء كل أثر للجريمة.قصة هذه الجريمة النكراء ظلت تُحيل على الدوام إلى التباسات لا يزال بعضها ماثلاً حتى الآن: لماذا جرى اغتيال الشهيد بهذه السرعة القياسية؟ هل توفي فجأة و«بشكل طبيعي» كما يذكر الصحافي والكاتب المعروف محمد حسنين هيكل؟ هل جرى إبلاغ جمال عبد الناصر رئيس «الجمهورية العربية المتحدة» بالاعتقال؟ قبل ذلك: لماذا ذهب فرج الله الحلو إلى دمشق، لماذا هو دون سواه، وفي تلك الظروف الصعبة، حيث غادر دمشق كل أعضاء القيادة تفادياً للاعتقال وملحقاته، وفي المقدمة منهم خالد بكداش الأمين العام للحزب الشيوعي السوري؟
وفي امتداد هذه الأسئلة، أسئلة «خاصة» أيضاً: ماذا كان دور خالد بكداش، الأمين العام والقائد البارز آنذاك، في إرسال فرج الله إلى دمشق! هل هو من طلب؟ هل هو من ألحّ بعد ما ذُكر عن تأفّف فرج الله من مهمة ليس من المناسب أن ينفذها شخص معروف وملاحق (تُراجع بهذا الصدد كتابات لكل من الرفاق يوسف خطار الحلو وكريم مروة وجورج حداد ...)؟
في الجواب عن أسئلة «الموت الطبيعي» أو الاغتيال، يقدم سامي جمعة، مسوؤل مفرزة المباحث السورية التي اعتقلت فرج الله الحلو آنذاك، أجوبة قاطعة بشأن الاعتقال وتأكيد الموت تحت التعذيب. أما معرفة القائد الكبير جمال عبد الناصر بالأمر، فقد تلعب مسألة قصر المدة ما بين الاعتقال والاغتيال لمصلحة تبرئته من المسوؤلية المباشرة... وبشأن دور خالد بكداش فلا بد من عودة سريعة إلى موقفه السلبي من الوحدة الاندماجية بين مصر وسوريا، ومقاطعته جلسة التصويت على قرار الوحدة، وكان نائباً في البرلمان السوري، ومن ثم سفره وعودته حاملاً «البنود الـ13» التي تطالب بإعادة النظر في الوحدة وتضع الكثير من الشروط والمطالب. أدى ذلك إلى صراع تصاعد بين أجهزة دولة الوحدة والحزب الشيوعي السوري، واللبناني استطراداً. وقصة ذلك، رغم انفصال الحزبين الشيوعيين في سوريا ولبنان رسمياً منذ عام 1943، أن خالد بكداش ظل متسلطاً على قيادة الحزب الشيوعي اللبناني، وظل عملياً يقود عمل الحزب في البلدين ويستخدم ذلك في تعزيز نفوذه في سوريا ولبنان على حدّ سواء.
لقد طبعت نزعة التفرد والتسلط كلّ سلوك خالد بكداش وعلاقاته. وهو سخّر في سبيل ذلك مواهبه القيادية وعلاقاته الأممية، كما استغل طيبة أجيال متعاقبة من المناضلين وبراءتهم، والتي كانت تذهب إلى التضحية يوجّهها إيمان عميق بالقضية وثقة عمياء بالقيادة.
فرج الله، القائد هو الآخر، المتواضع والمحبوب والمبادر والمتفاعل حتى الجذور مع بيئته وناسه، أزعج تسلّط خالد بكداش. أزعجه أكثر حين أعلن مواقف متمايزة عن مواقف «الرفاق السوفيات» بشأن قرار تقسيم فلسطين، الذي أيّدوه في مجلس الأمن. كذلك كان فرج الله بتقاريره وسلوكه يقدم مواقف ونماذج، برز فيها الفرق هائلاً ما بين الأسلوبين والكثير من مواقفهما. فلم يتردد فرج مثلاً في 1937 وفي اجتماع قيادي في دمشق، وبحضور بكداش نفسه، في تضمين تقريره فقرة تقول: «لا يحق لغير الهيئات الحزبية المنتخبة بالطرق القانونية أن تتخذ القرارات. ولا يقبل الحزب الشيوعي وجود هيئة أو زعيم فرد فوق قانون الحزب العام، كما يحصل في الكثير من الأحزاب الأخرى».
طارد خالد بكداش فرج الله منذ أن تمكن من ذلك: حرّض عليه، اتهمه، أبعده إلى الخارج، لفّق له ملفاً استمر إعداده وتعظيمه بـ«الاعترافات»، طيلة ثلاث سنوات. وأخيراً جرى وضع فرج الله أمام خيارين: إما «الإقرار « بـ«أخطاء» لا تخطر إلا على بال متآمر ومتجنّ، أو الطرد من الحزب. وهذا الأمر استخدمه بكداش مع كثيرين قبل وبعد: مع الشهيد جورج حاوي، وحتى مع عضو قيادة الحزب آنذاك حسن قريطم الذي أورد تقرير المؤتمر الثاني «اعترافات» له هي على الأرجح أيضاً ملفقة، وأدت وظيفتها في تطويع الرجل، بينما رفض مثلها آخرون. الغريب أنّ تقرير المؤتمر الثاني مارس إزاء ذلك تمييزاً غير مبرر.
الاغتيال على يد المباحث السورية لم يكن الاغتيال الأول إذاً، بل كان الثاني في الواقع. وكان طبعاً «ظلم ذوي القربى أشد مرارة». ففرج الله عانى القهر والإذلال والإقصاء والإبعاد والتهميش والإساءة من كل نوع، على أيدي بعض من كانوا له رفاقاً وقادة.
«رسالة سالم» التي فُرضت على فرج الله كتبها فعلياً خالد بكداش ومعاونوه، وتضمنت تحقيراً فظيعاً لكاتبها ومدحاً أفظع لبكداش. هي صفحة سوداء نُسجت على المنوال الستاليني. وقد أشارت إلى ذلك الخلل الفادح في تجربة قادة ساهموا من خلال أخطائهم في تدمير أعظم تجربة في تاريخ البشرية. والبكداشية، الابنة النجيبة للستالينية، استمرت للأسف. وهي ماثلة الآن في تجربة «ورثة» بكداش في تقسيم الحزب الشيوعي السوري وتحجيمه.
لقد ألهمت تجربة فرج الله الحلو وأفكاره وتضحياته وعذاباته تغييرات عميقة في صفوف الحزب الشيوعي اللبناني. ومثّل المؤتمر الثاني (الثالث تاريخياً) في تموز 1968 ما يشبه الانتفاضة على النهج البكداشي. وأسس ذلك لوثبة وتطور كبيرين في نضال الحزب الشيوعي اللبناني، فغدا في السبعينيات أحد أكبر الأحزاب اللبنانية وأكثرها حيوية ومبادرة.
لقد استلهم المؤتمر الثاني المذكور أفكار فرج الله الحلو في ممارسة الديموقراطية في الحزب، واستند إلى مواقفه ومبادراته في اشتقاق البرنامج من صلب الواقع اللبناني وحاجات التغيير فيه. كذلك أقام تفاعلاً خلاقاً ما بين قضايا التحرر الاجتماعي والتحرر الوطني وما بين القضايا القومية والقضايا الوطنية والقضايا الأممية.
لكن الأمور لا تجري على هذا النحو الآن، ويعاني الحزب الشيوعي اللبناني اليوم من تسرب النزعة البكداشية إلى مستويات أساسية في مواقعه القيادية. إن عملية منهجية تجري منذ حوالى عقد من الزمن لتصفية الإجراءات والتوجهات الديموقراطية والتحررية التي انطلقت منذ المؤتمر الثاني في 1968 وتكرست في نجاحات وفرت للحزب رصيده الذهبي الذي كوّنه سابقاً. إن مبدأ تداول السلطة في الحزب، والذي حان تطبيقه بعد تكرار الوعد بذلك خلال ثلاث مؤتمرات، هو ما يُستهدف الآن، بذريعة أنّ «الديموقراطية هي التي خربت الحزب»!
هذه وسواها من المسائل الخطيرة (عزلة الحزب وتدمير تحالفاته، خطأ الأولويات والعمل بالشعارات والعصبيات بدل البرامج والملفات...) هي ما يجب أن يواجهه المؤتمر الحادي عشر الذي يجري الإعداد له على الطريقة البكداشية: تلفيق الاتهامات والفصل والترهيب... فيما يجري تعطيل الهيئات وتكريس العمل الفردي بأكثر الصيغ فجاجة وابتذالاً.
هل لأجل ذلك لم يجرِ حتى مجرد تذكّر موعد استشهاد فرج الله الحلو؟
عفواً وعذراً أيها الكبير في حزبنا وفي بلادنا!
* كاتب سياسي لبناني