لم يقد الغزو السوفياتي لأفغانستان في 27 كانون أول 1979 إلى انقسام الأفغان حوله، بل إلى توحّدهم ضده، إذ لم يكن بناءً على تشجيع أو استدعاء من أيّ من الأطراف المحلية، بل قام على حسابات سوفياتية لم تر مصلحة في تقارب السلطة الشيوعية الأفغانية، بزعامة حفيظ الله أمين، مع المعارضة الإسلامية المسلحة لنظامه، إلى حدود كادت تصل إلى اتفاق معها. هكذا أتى غزو الكرملين الذي كان أول تداعياته إعدام أمين في قصره من قبل السوفيات، والإتيان بحكم دمية شيوعي بزعامة بابراك كارمال المقيم في تشيكوسلوفاكيا، ثم انطلاق مقاومة أفغانية مسلحة، لاقت تأييداً داخلياً كاسحاً، هزمت موسكو في 1989 وأسهمت في حفر قبر الدولة السوفياتية التي انهارت في 1991.في الغزو الأميركي لأفغانستان البادئ يوم 7 تشرين الأول 2001 لم يكن الأمر كذلك: ساهم «تحالف الشمال» في تشكيل ظهير سياسي ــ عسكري للغازي، وهو الذي يضم مكونات سياسية ذات امتدادات قوية بين قومية الطاجيك 27%، والهازارا (الشيعة) 9%، وقومية الأوزبك 9%،. في المقابل، كانت حركة طالبان الحاكمة في كابول والتي توجه الغزو نحو إسقاطها، ذات امتدادات قوية لدى قومية الباشتون 42% (أرقام «روزنامة العالم»الصادرة بنيويورك في2010، ص 749)، إلى درجة دفعت جورج بوش الابن إلى تكرار ما فعله ليونيد بريجنيف مع كارمال (وهو طاجيكي، قبل أن يستبدله السوفيات بباشتوني في 1986 هو محمد نجيب الله) من خلال الإتيان بباشتوني مقيم في الولايات المتحدة، هو حامد كرزاي، لينصبّه رئيساً بالباراشوت على كابول.
هنا، كان الانقسام حول الغازي بين الأفغان مؤدياً إلى انقسام حول المحتل، وبالتالي إلى انقسامهم إزاءه بين متعاون معه وبين مقاوم له، وعلى أساس كان فيه المربع الثاني (المقاومة) متحدِداً بما كان عليه المربع الأول (أي الموقف في فترة الغزو والاحتلال)، ومن دون وجود أيّ انزياحات عن هذا القانون السياسي (وجد أيضاً مثيل له في فرنسا المغزوة والمحتلة بين عامي 1940و1944) خلال أحد عشر عاماً التي تفصلنا عن يوم الغزو الأميركي لأفغانستان. ولم تنفع في هذا ذكريات النضال المشترك لـ«المجاهدين الأفغان» ضد السوفيات، الذين توزعوا بين ضفتي التعاون مع الأميركي (برهان الدين رباني مثلاً) والمقاومة (مثال جلال الدين حقاني الذي أصبح تنظيمه ضمن إطار تحالفي مع مقاومة حركة طالبان).
قاد ذلك إلى أن تؤول الأمور إلى حرب أهلية، إذ أصبح التعاون مع الغازي استعانة بالخارج من قبل قوى داخلية لحسم صراع داخلي ضد قوة محلية أخرى، وظهر الاحتلال ككسر لقوة محلية من قبل أخرى عبر قوة خارجية. كما كان الاحتلال مدخلاً إلى مكاسب فئوية لفئة أفغانية معينة وصلت إلى السلطة عبر المحتل، وإقصاءً لفئة أخرى عنها، فيما أصبحت المقاومة ليست فقط ضد قوات الاحتلال، بل أيضاً (وفي الأغلب) ضد قوات المتعاونين معه وسلطتهم. هذه الحرب الأهلية لم تكن في أفغانستان ما بعد الغزو الأميركي بين قوى سياسية، كما في الحرب الأهلية الإسبانية (1936-1939)، بل كانت حرباً أهلية بين «مكوِّنات اجتماعية» أخذت شكلاً سياسياً، ما دام كل مكوِّن منها مهيمَن عليه سياسياً وتقوده تنظيمات لا يوجد منافس لها يعارضها في الموقف من المحتل داخل «المكوِّن الاجتماعي». عملياً، أدى مسار أفغانستان 2001 ــ 2012 إلى تفكك البنية الداخلية، ليس فقط سياسياً، بل اجتماعياً، بحيث أصبح البلد في معسكرين بين التعاون والمقاومة، بكل ما يعنيه كلّ منهما سياسياً واجتماعياً، وما يترتب على هذين الحقلين ثقافياً في النظرة إلى البلد والذات والمواطن «الآخر».
في العراق المغزو والمحتل في 2003 حتى الانتخابات المحلية في الشهر الأول من 2009، كان الوضع العراقي مشابهاً لأفغانستان المغزوة والمحتلة أميركياً أيضاً: المتعاون مع الغازي قوى سياسية شيعية وكردية، ثبت من الانتخابات البرلمانية والمحلية المتعاقبة حتى 2010 أنّها ذات قاعدة اجتماعية كاسحة في الوسطين الشيعي والكردي، من دون قوى سياسية تمثِّل وزناً يذكر في الوسط السنّي العربي تعاونت مع الغازي الأميركي أثناء غزوه وحتى احتلال بغداد وسقوطها في 9 نيسان 2003. بين عامي 2003و2005 كان الوضع هكذا في العراق المحتل، بحيث ظهرت السلطة المتعاونة مع الاحتلال بوصفها ذات طابع ثنائي شيعي ــ كردي، وكانت المقاومة مستندة إلى قاعدة اجتماعية في الوسط السنّي العربي. في هذه الفترة الممتدة من شهر آب 2003 حين استهدف مرقد الإمام علي في النجف، حتى استهداف مرقد الإمامين في سامراء في شباط 2006، حاول «تنظيم القاعدة»، من خلال تركيزه على أهداف شيعية، إشعال نار حرب أهلية ربما رأى فيها وسيلة لإحراق الأرض العراقية تحت أرجل الأميركي. وربما أيضاً من أجل استراتيجية أبعد من عراقية تؤدي إلى «فسطاطين» داخل مسلمي العالم بين سنّة وشيعة، كما «الفسطاطان» الذي تحدث عنهما أسامة بن لادن عقب ضرب برجي نيويورك، بين المسلمين والآخرين.
في 2006 كسر «الحزب الإسلامي العراقي»، وهو التنظيم الإخواني المحلي، شيئاً من هذا المسار العراقي عبر مشاركته في الحكومة. وفي 2007 بدأت «الصحوات»بسحب البساط باتجاه محاولة كسر احتكار الثنائية الشيعية ــ الكردية للسلطة. في الانتخابات المحلية في 2009، ثم في انتخابات برلمان 2010، كانت مشاركة العرب السنّة الكثيفة في الانتخابات مؤشراً على هذا الاتجاه، وهو ما ترافق مع الضعف المتزايد، منذ 2007، للمقاومة العراقية حتى وصولها إلى حدود الفشل والتلاشي (بخلاف تجربة مقاومة حركة طالبان) بالتوازي الزمني مع انخراط السنّة العرب الكثيف في عامي 2009-2010 في «العملية السياسية» التي دشنها بول بريمر في «مجلس الحكم» في 13 تموز 2003.
منع هذا الاتجاه عند السنّة العرب وقوع حرب أهلية عراقية، إلا أنّه لم يقد إلى تثليث الثنائية الشيعية ــ الكردية في سلطة حكومة نوري المالكي، كما تثبت تجربة مشاركة «قائمة العراقية» في الائتلاف الحكومي منذ خريف 2010، أو إسقاطها كثنائية صلبة قائمة كمعادلة عراقية جديدة منذ 13 تموز 2003، أو لتزعمها، كما حاول إياد علاوي (وهو شيعي يتزعم قائمة العراقية ذات الغالبية السنية العربية الكاسحة) في ربيع وصيف 2010 بعد نيل قائمته المرتبة الأولى بالمقاعد في انتخابات برلمان 7 آذار 2010، أو أن يزيح المالكي، بالتعاون مع مسعود البرزاني ومقتدى الصدر، كما جرت المحاولة في ربيع 2012.
لكن مرحلة 2003 ــ 2009، ومن ثم ما بعد ائتلاف حكومة المالكي في خريف2010، تظهر تفككاً في البنية الداخلية العراقية من خلال قوى سياسية فئوية تعكس، منفردة أو مجتمعة، «المكوِّن الاجتماعي» فقط، سواء الطائفي أو الإثني. ويمكن القول بأنّ مرحلة التسع سنوات ونيِّف، التي تفصلنا عن يوم سقوط بغداد بيد المحتل الأميركي، لم تستطع أن تفرز مكوّنات سياسية خارقة وعابرة للطوائف والإثنيات العراقية، كما كان الأمر في «حزب الاستقلال» و«الحزب الشيوعي» و«حزب البعث»، الذين توزعوا زعامة الحياة السياسية العراقية في العهدين الملكي والجمهوري في العراق، قبل أن تبدأ نذر التفكك المجتمعي ببلاد الرافدين مع صعود نجم الأحزاب الدينية والإثنية العراقية منذ ثمانينيات القرن العشرين. وصلت هذه النذر إلى الذروة في 9 نيسان 2003 لما كان سقوط عاصمة الرشيد مترافقاً مع انقسام عراقي تجاه الغازي والمحتل، لا يتوزع على كتل أو شخصيات سياسية، كما في فرنسا في 1940 بين ديغول وبيتان، بل بين كتل اجتماعية، طائفية وإثنية. وترجم ذلك سياسياً في السنوات اللاحقة من عمر «العملية السياسية»، من خلال إلباس هذا الانقسام شكلاً سياسياً عبر حركات وتنظيمات وكيانات صعدت عبر الانتخابات، إلى حدّ يمكن القول فيه إنّ عراق 2012 لم يتجاوز حتى الآن انعكاسات تلك المشهدية التي كانتها بغداد يوم الأربعاء 9 نيسان 2003.
* كاتب سوري