تقلق النفس البشرية من المجهول، ويقلق الكثيرون مما بعد التخلص من السلطة وإسقاط النظام. ويقلق الكثيرون كذلك من سير الحراك الثوري ومن منسوب وعي شباب الثورة وقدرة الشعوب على حماية حراكها وتطويره وتحمّل مسؤولية التغيير. ولا يثق الكثيرون بقدرة الشعب من السير أماماً في الثورة وقدرتهم على إسقاط النظام ودخول مرحلة تاريخيّة جديدة أكثر تقدّماً.تمرّ منطقتنا في مرحلة تحوّل شاملة لا نعي ولا نفهم تماماً كيفيّة حركتها وتطورها، ولا نعي قوانينها الطبيعية التي تسيّرها. والمستقبل المجهول مخيف للكثيرين. من الطبيعي والمبرّر الخوف من التغيير والثورة، بعد كل ما عانيناه من تغييب وتضليل وتخدير مارسته علينا الأنظمة باحترافيّة.
لا شك في أن هذه المخاوف وكل هذا القلق مبرّر ومفهوم، إلّا أنّه لا ينبغي أن يتحول إلى عائق أمام الثورة وتقدّمها. بل يجب تحويل هذا الخوف والقلق إلى قوّة دافعة تحفزنا على العمل الجاد من أجل ابتكار الوسائل والطرق التي تحمي حراكنا الثوري وتطورُه بالاتجاه الصحيح، نحو تحقيق التحوّل الذي تسعى إليه القطاعات الشعبيّة المنتفضة.
الثورة عملية تغيّر وتطوّر طبيعيّة ومعقّدة، تدفع بالطبيعة تقدميّاً إلى الأمام، إلى حالة متجاوزة للماضي، أكثر تطوّراً وتقدماً. وفي الحراك الثوري للمجتمعات البشريّة، يرى الناس حقيقة الأنظمة الحاكمة التي ثارت عليها، وحقيقة الثورة وحتميتها. إذ تكسر الجماهير كل قيود الإخضاع التي عملت السلطة على تكريسها لعقود، وتتخلص من أوهام الخنوع والخوف التي كانت تمنعها من رؤية الحقيقة، وتستعيد الثّقة بالقدرة على تغيير النّظام والتقدّم للأمام. إنّ مجرّد تمرّد الإنسان العربي على كل الحواجز النفسية والعقلية وإدراكه بضرورة الثورة يُعد بمثابة لحظة وعي تاريخيّة هامّة، تؤذن بولادةِ إنسان عربي جديد.
الثورة، بممارستها وحركتها، تُطوّر الوعي الجمعي. وأسباب ذلك متعدّدة، منها تجاوز الناس لكل أدوات السيطرة التي كرستها السلطة في نفوسهم، كالعزل والتقسيم والذاتيّة والخوف وتزييف الوعي وتخديره، ويحل محلها ــ في الثورة ــ التضامن والتوحّد والتعاون والضحية التي دمّرتها السلطة عبر التاريخ. فترى الشعوب قوّتها الحقيقيّة في تجمّعها وتكاتفها صفاً واحداً في أشكال الاحتجاج الشعبي المختلفة من أجل إسقاط النظام وتغييره. وفي الثورة أيضاً تُجبَر الشعوب على تحمّل مسؤولياتها في سدّ الفراغ الذي يحدثُه غياب السلطة، فتتعلّم كيف تنظّم وتدير حياتها وأمورها اليوميّة دون الحاجة إلى الدولة. فالشعب ــ في الثورة ــ يمارس ويتعلم أعلى أشكال التنظيم والإدارة الذاتيّة، وهو ما يعمل على تراكم الوعي وإحداث نقلة نوعيّة فيه، كتشكيل لجان حماية شعبيّة لحفظ الأمن والدّفاع، ومجموعات مراقبة ومجموعات إغاثة وإمداد ومشاف ميدانيّة... وغيرها من الأمور الضرورية للاستمرار. في الثورة، يبدأ الناس العاديون بالتعاطي بموضوعيّة ومسؤوليّة مع الواقع الصعب، محاولين إيجاد المخرج والحل. ما يعمل على تطوّر وعيهم، تحديداً فئة الشباب التي انتفضت على الماضي، وتسعى إلى مستقبل مختلف يلبي طموحاتهم، فالانفتاح على المجتمع والآراء والحوارات اليوميّة المكثفة عن الثورة والصراع والمطالب وشكل التغيير، والاهتمام بالسياسة ومحاولة الفهم... كل ذلك، يراكم الوعي ويعمل على إعطاء دفعة قويّة للوعي والعقلانيّة. ففي الثورة يتحرّر الناس من أوهامهم ومن قيود الماضي. إن عقل ما بعد الثورة مختلف تماماً عن عقل ما
قبلها.
عندما تقوم الثورة الشعبيّة، يدخل الناس في صراعٍ قاس وعميق وحاد مع السّلطة التي تعمل بأساليبها البشعة على إرهاب المجتمع وتقسيمه. صراع كثيف يُكسب الشباب الثائر خبرات هائلة في مجالات مختلفة، اجتماعية، سياسية، ثورية... وقيماً ومفاهيم إنسانية وثوريّة غيّبتها السلطة، كالتضامن ورفض الظلم والسعي للحريّة والثقة بقوة الشعب وبإمكانيّة وحتميّة التغيير والتقدّم والثورة.
في الثورة، يُفرز الشعب طليعة شبابيّة ثوريّة واعية، تمتلك وعياً وخبرات سياسيّة واجتماعيّة فرضتها قساوة الصراع وكثافته وتعدّد مستوياته. شبابٌ متعطشٌ للفهم وللتقدّم وتخليص الشعب من نُظُم القهر والاستغلال الحاكمة، ساعٍ إلى المعرفة من أجل فهم عميق لطبيعة الصراع الذي يخوضه ويتفاعل مع تفاصيله، وقادر على بلورة مطالب شعبه، ويمتلك الوعي الكافي لكشف المتسلّقين والانتهازيين ومناورات الأنظمة، واستغلال الخارج واحتوائه للثورة، فالتجربة والاختبار والممارسة العملية للثورة هي الشرط الأساسي لتطور الوعي.
الثورة تحرّر البشريّة من الأوهام، وتؤسّس لوعي جمعي أقرب إلى الحقيقة والواقع، وأكثر تقدّماً وتحرّراً. الثورة خطوة نحو الوعي والعقلانيّة.
الطبيعة تتطوّر بالثورة، والإنسان هو وعي الطبيعة، والمجتمعات البشريّة ــ كالطبيعة ــ تتطوّر ويتقدّم وعيها بالثورة... الثورة حقيقة علميّة ثابتة لا يمكن تجاوزها أو الالتفاف عليها... وبين الوعي والثورة، علاقة جدليّة واضحة. والتطوّر البشري حقيقة تاريخيّة يفرضها الصراع المتواصل حتى القضاء على كل أسبابه جذريّاً، على كل أشكال استغلال الإنسان للإنسان، واستغلال الإنسان للأرض وما عليها، وصولاً إلى مجتمع بشري عقلاني متقدّم.

* كاتب اردني