بدأت الدبلوماسية الروسية بالنهوض في عهد بوريس يلتسين، في أواخر القرن الماضي، وأكمل تفعيلها فلاديمير بوتين في القرن الحالي، بعد فترة من الارتباك جراء تفكك الاتحاد السوفياتي. وقد اعتمدت هذه الدبلوماسية في نهضتها على الواقعية السياسية التي مثّلت المصالح القومية الروسية المنطلق لها. وكانت إرادة القادة الروس استرجاع نفوذ بلادهم كقوة عظمى في القرن الحادي والعشرين، مع العلم بأنّ بعض الخبراء يعدّون الاتحاد الروسي حالياً قوة عظمى ناشئة في القرن الحادي والعشرين. وقد حاول ديميتري ميدفيديف، ومعه بوتين إعادة التوازن في الشراكة العالمية مع الولايات المتحدة بحزم وصلابة. وهذا ما يؤكده بعض المحللين كستيفن روزفيلد من جامعة «نورث كارولاينا» الذي يقول: «إنّ بوتين سيحاول إعادة روسيا إلى وضعها كقوة عظمى، وهذا الهدف سهل جداً؛ لأنّ روسيا لديها مساحة كبيرة وجيش لا يزال عديده كبيراً ومجمعات صناعية ضخمة». كذلك إنّ المحلل العسكري ألكسندر غوتس يقول بأنّ القوة العظمى النائمة حالياً ستنهض من كبوتها، وما السياسة الخارجية التي تنتهجها روسيا حالياً تجاه جيرانها خاصة، وفي العالم عامة، إلا دليل على عودتها كقوة عظمى. فروسيا تعدُّ مليوناً ومئة وأربعين ألف جندي في الخدمة الفعلية، ومليوني رجل احتياطي، والقوى المسلحة الروسية هي الرابعة في العالم مع موازنة تتعدى 700 مليار دولار سنة 2010. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال روسيا قوة نووية كبرى موروثة من الاتحاد السوفياتي السابق. لذلك نستطيع القول إنّ روسيا دخلت بقوة إلى الساحة الدولية جراء كل هذه المعطيات، وكانت الشرارة الأولى إعلان استقلال كوسوفو عن صربيا، حليفة روسيا، والتي اعترفت باستقلالها الولايات المتحدة وأوروبا ودول أخرى. عندئذ صرَّح الرئيس الروسي ميدفيديف بأنّ السياسة الخارجية الروسية تنبع من 5 مبادئ هي: أولوية القانون الدولي، التعددية القطبية في العالم، إبعاد روسيا عن الأزمات والعزلة، حماية المواطنين الروس أينما وجدوا، واعتراف روسيا بوجود مناطق امتياز تابعة لها في العالم، وخاصة في الشرق الأوسط. فبعد غياب عن هذه المنطقة لأسباب داخلية، حاول بوتين عودة النفوذ الروسي إلى هذه المنطقة من خلال استقباله لوفد حماس في 2006، ومدَّ سوريا ببعض الأسلحة الدفاعية والمضادة للطيران. مع العلم بأنّ علاقة روسيا بإسرائيل تنافسها عليها الولايات المتحدة الأميركية.وبعد سقوط العراق، وعدم وجود علاقات قوية مع دول الخليج العربي، لم يبقَ لروسيا في المنطقة إلا إيران وسوريا. وهذه الأخيرة هي الحليف التاريخي لروسيا وتشتركان بوجهة نظر واحدة ضد الهيمنة الأميركية في المنطقة، وخاصة في العراق. على الصعيد الاستراتيجي ترى روسيا أنّ سوريا محور ومرتكز لا يُستغنى عنه في سياستها الشرق أوسطية. فهي تستعمل القاعدة البحرية في طرطوس كانطلاقة لنفوذها العسكري في المنطقة أو لأي انتشار لأسطولها البحري في المنطقة. لكل هذه الأسباب لا تزال روسيا تدعم سوريا في المنطقة العربية لأنّها الحليف الاستراتيجي الوحيد لها في المنطقة، ولم تترك روسيا سوريا في معركتها بمواجهة أميركا وأوروبا وبعض العرب في مجلس الأمن، وتحاول الآن التفتيش عن مخارج سياسية لفرض الحوار بين النظام السوري ومعارضيه. من هنا لا بد من طرح السؤال التالي: لماذا لا تزال روسيا تدعم دمشق؟
إذا ترك الكرملين حليفه السوري، فإنّه سيخسر ثقة كلّ شركائه في العالم. ذلك ما يؤكده الخبراء في السياسة الدولية. من هنا جاء الفيتو الروسي الصيني ضد مشروع القرار الأميركي ـــ الأوروبي ـــ العربي ضد سوريا لإزاحة بشار الأسد. وقد عدّ الروس هذا القرار بمثابة بداية لتدخل عسكري شبيه لما حصل في ليبيا السنة الفائتة، وعدّته روسيا طعنة في الظهر وخيانة لها من الأميركي في السياسة الدولية. كذلك إن الفيتو الروسي في مجلس الأمن كان انطلاقاً من مبادئ مبنية على جيواستراتيجية روسية لقراءة دورها المحوري في العالم. لذلك نذكر الأسباب التي دفعت روسيا إلى استعمال حق النقض الفيتو ضد القرار المتعلّق بسوريا ولم تستعمله إبان العدوان على ليبيا، وهي:
1. إن سوريا هي الحليف الأساسي لروسيا في العالم العربي، وبالتالي إذا أدارت موسكو الظهر لسوريا، فستخسر من رصيدها العالمي أمام شركائها.
2. سوريا من أهم الدول الحليفة لروسيا على الصعيد التجاري، فعقود التسلح التي تمت بين البلدين في السنتين الأخيرتين وصلت إلى أربعة مليار دولار، وحجم الاستثمارات الروسية في الاقتصاد السوري وصلت إلى 20 مليار دولار. وحالياً تقوم إحدى الشركات الروسية ببناء مصفاة للغاز. كل ذلك سينتهي إذا وصل المعارضون لبشار الأسد إلى السلطة.
3. روسيا قلقة جداً بشأن قاعدتها البحرية وبعض قطع أساطيلها الموجودة في طرطوس شمال سوريا، هذه القاعدة هي ربما الوحيدة الموجودة حالياً خارج الاتحاد الروسي.
4. روسيا تخاف من موقف المعارضة السورية المتناغم والقريب من تركيا ودول الخليج العربي وأميركا وأوروبا والبعيد عن روسيا، بالإضافة إلى أنّ الإخوان المسلمين الذين لهم التأثير الكبير في المعارضة؛ لهم موقف إيديولوجي عقائدي من روسيا ووجود المسيحيين والشيعة والعلويين في سوريا الموالين للنظام سيؤدي ربما إلى حرب أهلية كبيرة تودي بالنظام السياسي الموالي لروسيا.
5. إنّ المسؤولين الروس، وعلى رأسهم بوتين وميدفيديف، لا يثقون حالياً بالمسؤولين الأميركيين والأوروبيين عندما يؤكدون لهم أنّ التصويت على قرار في مجلس الأمن لن يكون تدخلاً عسكرياً في سوريا؛ إذ يرى الروس أنّ الغربيين يلعبون على الكلام في هذا الموضوع ويذكرونهم بالسابقة الليبية، فدول حلف شماليّ الأطلسي بدأوا بقصف قوات القذافي في ليبيا مباشرة بعد صدور القرار رقم 1973 عن مجلس الأمن في آذار 2011.
6. يقول بعض الخبراء إنّ انتخاب بوتين لرئاسة روسيا سيزيد من إصرار موسكو على المضي بموقفها لمصلحة سوريا؛ لأنّ بوتين يريد أن يظهر بمظهر الرئيس القوي أمام ناخبيه وأمام شركائه في العالم ولن يترك حليفاً له منذ سنين طويلة. كذلك، لم يهضم الروس بعد القرار رقم 1973 ضد ليبيا الذي سهَّل سقوط القذافي على أيدي حلف شماليّ الأطلسي.
لذلك، إنّ وصول الأسطول الروسي الشهر الفائت إلى المياه الإقليمية السورية لم يكن فقط إظهار قوة ضد الدول المعادية لسوريا من حلف شماليّ الأطلسي، وإنما كان على متنه صواريخ روسية مع خبراء روس للدفاع عن سوريا من أي اعتداء.
هذه العقيدة الجديدة للسياسة الخارجية الروسية هي تأكيد لقوة روسيا ونفوذها؛ فمن جهة تريد القول للغربيين، وخاصة حلف شماليّ الأطلسي إنّها عادت قوية كقوة عظمى ولن تقبل من الآن فصاعداً أن يُفرض عليها سلوك معين، فروسيا لن تقبل المسَّ بمصالحها الاستراتيجية، وهذا ما حصل عندما واجهت توسّع حلف شماليّ الأطلسي نحو بولونيا وتشيكيا، من ثم نحو أوروبا الوسطى والشرقية، وصولاً إلى دول البلطيق في 2004 أو أخيراً عندما اعتُرف باستقلال كوسوفو عن صربيا في 2008. وحاولت نشر منظومة الدرع الصاروخية في بولندا وتشيكيا وعارضت ضمَّ أوكرانيا وجورجيا إلى حلف شماليّ الأطلسي. ومن جهة أخرى أرادت روسيا من موقفها الجديد تحذير جمهوريات الاتحاد السوفياتي السابق من أنّها لن تتردد في استعمال القوة للدفاع عن الروس أو عمن هم من أصل روسي أو الإثنيات الغربية والحليفة والدفاع عن مصالحها الاستراتيجية مثلما فعلت في أوسيتيا الجنوبية، وأبخازيا وجورجيا وغيرها...

* أستاذ في كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية