اتخذ الرئيس التونسي منصف المرزوقي قراراً جريئاً بمنح رعايا الجزائر والمغرب وموريتانيا «حقوقاً خمسة» تساوي بينهم وبين التونسيين في مجالات عديدة: التصويت في الانتخابات المحلية والسفر إلى تونس ببطاقة الهوية (دون حاجة إلى جواز السفر) والإقامة والعمل على ترابها دون شروط (بطاقة إقامة، إذن من وزارة التشغيل، إلخ) والاستثمار وشراء عقارات فيها دون قيود خصوصية. وقد استثني الليبيون من هذه الامتيازات في انتظار توضّح الوضع السياسي والأمني في ليبيا. كثيراً ما يُوصف منصف المرزوقي بأنّه «طرطور» لا صلاحيات فعليةَ له، ويُعاب عليه أنّ بعض تصرفاته وتصريحاته لا تليق بـ«مقام رئيس دولة». ومن شبه المؤكد أنّه لن يعرف الخلودَ كخطيب يسلب قلوب الجماهير. لكن الحكمةَ في أيامنا قد يُؤتَاها «الرُعناءُ» قبل أصحّاءِ العقول، وهو إذا لم يخلد كقائد شعبي عظيم، فقد يذكره التاريخ كأحد المؤمنين القلائل بالوحدة المغاربية في عصر بُعثت فيه الشوفينيات القومية العربية باسم الاستقرار، تارة، وباسم الثورة، تارة أخرى.
ولا مبالغةَ في القول إنّ هذا القرار أحدُ أهمّ أحداث تاريخ الاتحاد المغاربي منذ ميلاده في 1989، وأنّه، إذا اتخذت الجزائر والمغرب وموريتانيا قرارات مثيلة، فسيكون منطلقَ مسار فدرالي حقيقي. ربما سيُمكننا آنذاك أن نقول إنّ هذا المشروع الوحدوي لم يولد ميتاً، وإنّ إغلاق الحدود البرية بين الجزائر والمغرب في 1994، وإن طال أمده وتراكمت آثاره السلبية على البلدين، ليس سوى قطرةٍ في محيط الماضي المغاربي الطويل.
ليس قرار الرئيس التونسي، في الحقيقة، سوى ترجمة «من طرف واحد» لمعاهدة مراكش (17 فبراير/ شباط 1989) التي أسّست للاتحاد المغاربي، والتي تنص مادتُها الثالثة على وجوب «العمل تدريجياً على تحقيق حرية تنقل الأشخاص والخدمات والبضائع والرساميل» بين البلدان المغاربية الخمسة. رغم ذلك، يواجه انتقادات كثيرة في تونس، خصوصاً في الأوساط التي تفضّل استمرار الاقتصاد التونسي في أداء دور تابع للاقتصاد الأوروبي على مغامرة بناء اقتصاد إقليمي يجب علينا الاعتراف بأنّه لا يزال غيرَ واضح المعالم.
من الصعب تقديرُ حجم المعارضة الداخلية للتوجّه المغاربي لمنصف المرزوقي، لكنّها حقيقية لا شك فيها، وهي تبدو نابعة من «خوفين» اثنين: انتقال التمرّد الإسلامي المسلح من الجزائر إلى تونس، وتلاشي المنظومة الاقتصادية التونسية في منظومة أكبر ستكون الجزائر نواتَها بحكم موقعها الجغرافي وبوصفها أكبر دولة مغاربية.
وتبرّر هذه المعارضةُ رفضَها إعطاءَ الرعايا المغاربيين حقّاً غير مشروط في دخول تونس والإقامة فيها بخطر تحوّل هذا البلد إلى ملاذ للمجرمين والإرهابيين، كذلك تنتقد عدمَ تقييد حقهم في العمل على التراب التونسي بخطر منافسة اليد العاملة المغاربية (الجزائرية خصوصاً) لليد العاملة المحلية. وباسم «السيادة الوطنية»، لا تريد منحَهم حق التصويت في الانتخابات المحلية، فيما تُصوّر عدمَ تقييد حقهم في امتلاك عقارات تونسية كمقدمة لـ«بيع التراث المعماري الوطني للأجانب».
من السهل الردّ على بعض هذه المزاعم التهويلية: إطلاقُ حريّة تنقّل المغاربيين وإقامتهم في كل الدول المغاربية يمكن أن يُرفق بإنشاء منظومة مشتركة لمكافحة الجريمة، ورفعُ القيود عن حقّ الملكية لن يؤدي إلى انتقال التراث المعماري المحلي إلى «أياد أجنبية» إذا حُمي بقوانين تمنع الاتّجار به. لكن من الصعب الردّ على المزاعم الأخرى ما لم تبادر الجزائر والمغرب وموريتانيا إلى اتخاذ إجراءات شبيهة لصالح التونسيين، تطبيقاً لقاعدة «المعاملة بالمثل».
لن يؤدي منحُ المغاربيين حريةَ العمل في تونس إلى «غزوهم» لهذا البلد (العمل، في آخر المطاف، سوق تخضع لقانون العرض والطلب)، لكنّ التونسيين لن يقبلوه (وسيكونون في ذلك على حق) ما لم يستفيدوا من إجراء مماثل في الدول المغاربية الأربع. الأمر نفسه يصحّ على السماح للجزائريين والمغاربة والموريتانيين بالتصويت في الانتخابات المحلية التونسية: لن يستساغ أبداً ما لم يُعطَ التونسيون الحق نفسه في الجزائر والمغرب وموريتانيا.
المشكلة الرئيسية في هذه الاعتراضات على قرار منصف المرزوقي لا تكمن في تذكيرها بأنّ نجاحَه مرهون بردّ فعل إيجابي من الحكومات الجزائرية والمغربية والموريتانية. المشكلةُ في أنّها ليست سوى رفض مقنّع للوحدة المغاربية نفسها أياً كانت أشكالها أو ظروف تحقيقها، وهو رفض نابع من اقتناع صلب بأن تونس هي «سويسرا المنطقة»، وكأنْ لا حركةَ سلفية فيها ولا عزمَ لفلول النظام البائد على العودة إلى السلطة بأقنعة جديدة ولا استمرارَ لهجرة الشباب التونسي السرية بسبب استمرار تسيير الاقتصاد بما يتماشى ومصالح الأقلية المتنفذة لا الأغلبية الكادحة. وهنا يحق لنا أن نتساءل: ما الفرقُ بين رفض تسهيل إقامة المواطنين المغاربيين في تونس ورفض اليمين الفرنسي تسهيل إقامة الرعايا الأوروبيين في فرنسا؟ لا فرق: الذرائعُ ذاتُها، حماية الأمن القومي والاقتصاد المحلي، والأساطير الشوفينية هي أيضاً ذاتُها، أسطورة «التفرد القومي» ولازمتُها أسطورة «الخطر الخارجي».
* كاتب جزائري