يعيش أهل المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان في أجزاء نائية بعيدة عن الأرض المُقامة عليها. هي بالنسبة للبنانيّين «بؤر أمنيّة»، لأنّ باقي المناطق اللبنانيّة _ من غير شرّ _ هي واحات من السلام والوئام والتحاب. لا يعكّر صفو الأمن اللبناني وسلامه إلا المخيّمات. كان إعلام الكتائب الحربي أثناء الحرب اللبنانيّة يعتنق خطاب إذاعة العدوّ فيصف المخيّمات بـ«المعسكرات» وذلك من أجل التحضير لتدميرها ولارتكاب مجازر بحق أهلها. والمخيّمات في حالة حصار مفروضة من جيش تعصاه البطولة إلا في مواجهة مدنيّين أو في مواجهة المخيّمات. مشكلة المخيّمات متشعّبة، لكنّها مرتبطة بالجهل العميق الذي يعتري صف الشعب اللبناني في مسألة قضيّة فلسطين. خذ جبران باسيل: يرى الرجل في نفسه شعلة متوقّدة من الذكاء ــ قل إنّه لا يجد من هو ذكيّاً حوله ــ لكنّه في ما يتعلّق بتاريخ القضيّة الفلسطينيّة لا يمتاز علماً ومعرفة عن أنطوان زهرا أو عن نعمة الله أبي نصر (إذا كان نعمة الله أبي نصر نعمة من الله بحق وحقيق، فرغبة التجديف تزداد).لكن ما هي قصّة الجيش اللبناني في مواجهة المخيّمات الفلسطينيّة في لبنان؟ ولماذا يبدو أنّ الجيش مُصرّ على ارتكاب معاصٍ تاريخيّة مُكرّرة؟
المخيّمات في لبنان لا ظهير لها: مثلها مثل الأكراد الذين يتعرّضون للاضطهاد في برج حمّود. لا سند لهم ولا حركة باستثناء أفراد يسكنون الهم الفلسطيني، ويهجسون به صبح مساء. لكن هؤلاء أفراد. المخيّمات الفلسطينيّة هي التي ولّدت المقاومة الفلسطينيّة في لبنان لحماية نفسها من عدوان إسرائيل ومن تنكيل المكتب الثاني في المخيّمات في الستينيات: هي وحدها لا سند لها إلا سلاحها. تمرّ استفزازات الجيش اللبناني ضد المخيّمات مرور الكرام في الصحافة اللبنانيّة. وفريقا النزاع في لبنان لا يعبّران أبداً عن مناصرة لأهل المخيّمات. فرقاء الصراع في لبنان تعوّدوا استغلال المخيّمات لأهداف سياسيّة وطائفيّة بغيضة: يغذّون الخلافات ثم يضحّون بمن يريدون. لا يجد وليد جنبلاط غضاضة في شتم الجبهة الشعبيّة ــ القيادة العامّة، مع أنّه كان يتلقّى دعماً منها أنقذه في حروب طائفيّة مفصليّة خاضها (لكن من يأخذ على جنبلاط عدم الانسجام السياسي ــ الأخلاقي وهو الذي كان أداة في يد استخبارات حسني مبارك فيما هو الآن يعظ بوقاحة حول الثورات وفي مديح انتفاضة مصر؟). كان للقضيّة الفلسطينيّة والثورة الفلسطينيّة في لبنان، في الستينيات واوائل السبعينيات، جبهة مساندة عريضة تتكوّن من حركات وشخصيّات ومنظمات فاعلة في البلاد. رحلت الثورة الفلسطينيّة عن لبنان ــ لا بل رُحّلت ــ وما عاد هناك في لبنان جبهة مُساندة لما تبقّى من الثورة. ومجزرة نهر البارد لقيت تأييداً عارماً من مختلف تيّارات الشعب اللبناني الذي يسعى أبداً ودوماً للعثور على البطولة في جيشه الوطني. قرع الشباب اللبناني الطبول ونفخوا في المزامير ترحيباً بدكّ المخيّم فوق رؤوس أصحابه.
ما جرى في نهر البارد وفي عين الحلوة أخيراً سلسلة مترابطة. يستطيع مريدو أنماط تحليلات فارس سعيد (القادر على ربط انتخابات الكورة بالملف النووي الإيراني) أن يعزوا ما جرى إلى مؤامرة خارجيّة خطرة تستهدف منعة مسخ الوطن المنهار. يستطيع وليد جنبلاط (مهرّج التحليلات السياسيّة في لبنان والذي يبهر سامعيه باشتراكه بمجلّة «نيويورك ريفيو أوف بوكس») أن يعزو ما حدث في المخيّمات إلى زيارة أحمد جبريل القصيرة للبنان. لكن من المشكوك فيه أن يكون جنبلاط هذا قد وطئ أرض المخيّمات الفلسطينيّة، إلا عندما كان يزور مراجع فلسطينيّة مستجدياً سلاحها لتوظيفه في معاركه الطائفيّة التي لا تنتهي. الجيش اللبناني صدّق الأكذوبة الوطنيّة عن مغزى نهر البارد ومعناه.
زرت مخيّم نهر البارد في 2010 بدعوة من أهله لإلقاء محاضرة. واللافت هناك هو الوجود المُستفزّ للجيش حول المخيّم. أنا من منطقة جنوبيّة لا تبعد كثيراً عن الحدود مع فلسطين المحتلّة، وقد لمس أهلها على مرّ العقود الطويلة منذ إنشاء دولة الكيان الغاصب الغياب التام للجيش في مواجهة عدوان إسرائيل المُستمرّ. يقوم جيش العدوّ قبل نحو شهر ببناء جدار في مخالفة لاتفاق الهدنة (والذي كان يجب أن يتعرّض للإلغاء من حكومات ما بعد الحرب وما بعد الاحتلالات الإسرائيليّة المتوالية)، فيقف الجيش اللبناني حارساً لأعمال العدوّ ولحمايته من غضب الأهالي. طبعاً، يستطيع قائد الجيش اللبناني السابق، ميشال سليمان، أن يزعم أنّه وجد استراتيجيا دفاعيّة مبنيّة على «مواجهة العديسة» كما ورد في «السفير» أخيراً. لكن من الغريب والمُستهجن من جنرال في أيّ جيش أن يرى في مجرّد رشق فردي من الرصاص استراتيجيا دفاعيّة مُتكاملة: لكن ماذا تقول عندما يتقدّم قائد لواء تنّورين السابق، بطرس حرب، بكتابة استراتيجيّة دفاعيّة للبنان كبديل من مقاومة أثبتت فاعليّتها باعتراف العدوّ نفسه؟ لكن أن يتقدّم ميشال سليمان باستراتيجيا دفاعيّة مبنيّة على إطلاق نار (شجاع) فردي من قبل ضابط لبناني دليل على أنّ سليمان لا يفهم كلمة استراتيجيا بمعانيها السياسيّة والعسكريّة.
كيف يكون هناك وجود كثيف للجيش اللبناني في تطويق ملحوظ للمخيّمات الفلسطينيّة، فيما لا يتحرّك هذا الجيش في الجنوب إلا برفقة قوة أجنبيّة اتت فقط لحماية العدوّ الإسرائيلي (آن الأوان كي تتوقّف المحطات اللبنانيّة المُقاومة للعدوّ عن بثّ شرائط ترويجيّة من «اليونيفيل» عن «اليونيفيل» حيث نرى أنّ الجندي فيها «يقوم بإلقاء التحيّة على الأهالي». هل من أجل إلقاء التحيّة على الأهالي أرسلت أنجيلا ميركيل قوات ألمانيّة إلى لبنان وهي التي أقرّت أمام مجلس نوّابها بأنّها قامت بذلك لحماية العدوّ الإسرائيلي). كيف لا يردّ الجيش اللبناني بقصف على مواقع في داخل فلسطين المحتلّة ردّاً على تفجير العدوّ لمنصّة تجسّس أقامها هو داخل الأراضي اللبنانيّة؟ على العكس، يردّ الجيش (بأمر من الحكومة اللبنانيّة) على تفجير العدوّ لمنصّة تجسّس مزروعة على الأراضي اللبنانيّة بعقد اجتماع ثلاثي مع العدوّ في الناقورة. لماذا لا يظهر لين هذا الجيش في التعاطي مع المخيّمات؟
إنّ الشروط الدنيا للسيادة تتطلّب ردّاً فوريّاً وحاسماً من الجيش المفروض أنّه يحمي الوطن (والذي يُفترض ــ وفق سيناريوهات صهيونيّة واضحة يعتنقها فريق 14 آذار ــ أن يستوعب سلاح المقاومة). إنّ تفجير العدوّ لمنصّة تجسّس وتفجيرها عن بعد من طائرات خرقت أجواء لبنان، خرق مضاعف للسيادة اللبنانيّة مرّ مرور الكرام في الإعلام والسياسة في لبنان. عندما يبدأ الجيش بالردّ بالحدّ الأدني على جرائم إسرائيل المستمرّة، يحق له عندها بعض «المرجلة» ــ مع أنّ الكلمة من مخلّفات الثقافة الذكوريّة العنصريّة، وهي من جذر «الرجل» ــ التي تظهر في عروض أكل الأفاعي الموسميّة أمام طلبة المدارس النائمين في النهار على وقع الأناشيد الوطنيّة الحماسيّة.
أن يكون هذا الجيش مُتقاعساً في مهامه الأم لحماية الحدود ــ حتى لا نتحدّث عن حماية المخيّمات التي لم يحمها الجيش في تاريخه الطويل وذلك بسبب عقيدة فؤاد شهاب العسكريّة والتي على أساسها اعتبر لبنان نفسه حليفاً خجولاً لإسرائيل في حروبها ضد العرب ــ وأن يقيم ترسانات عسكريّة خارج المخيّمات فهذا ذروة في الاستفزاز لكل أهالي المخيّم. محطة تلفزيونيّة قالت إنّ الجيش تعرّض للرشق بالحجارة: حسناً، ليحتمل هذا الجيش المغوار بعض الحجارة من صبية غاضبين في مخيمات الفقر والمهانة، كما احتمل في تاريخه الطويل صواريخ وقنابل وإذلالاً من العدوّ الإسرائيلي. مراسلة في شاشة أخرى قالت إنّ الجيش تعرّض لكلام نابٍ من صبية في المخيّم، فردّ بإطلاق النار. فليتحمّل الجيش الشتائم من صبية غاضبين، كرد فعل صغير ونسبي على تدمير مخيّم نهر البارد (ومقتل نحو 45 من المدنيّين والمدنيّات ــ لا يزال جماعة 14 آذار يُكرّرون القول إنّ واحداً أو اثنيْن من المدنيّين «فقط» قُتلوا في البارد).
عندما تدخل إلى مخيّم نهر البارد عليك أن تمرّ على مكتب لاستخبارات الجيش. يتعرّض اللبناني (واللبنانيّة) لمساءلة فظّة من الضابط المعني هناك. يريد مكتب استخبارات الجيش أن يُشعرك أنّك حثالة لأنّك لبناني يرغب (أو ترغب) في زيارة مخيّم فلسطيني. يفتح الضابط (الذي أكمل لتوّه أكل بعض الأفاعي) أمامه دفتراً من مخلّفات المدارس العثمانيّة، ويقارن بين الأسماء المُدرجة والأسماء على الهويّات. سألتُه: ولو، نحن في عصر الكومبيوتر، اليس أسهل لو استعملتم كومبيوتر في عملكم؟ حنق وأجابني: لا، نفضّل الدفاتر (كما يفضّلون الأفاعي على غيرها من الحيوانات في استعراضات مغاوير الجيش الموروثة من استعراضات قبضايات القرى في القرن التاسع عشر ــ على الأقلّ). وأهل المخيّم لم ينسوا الضيم، ليس فقط بسبب الدمار الهائل الذي أصاب منازلهم، بل بسبب إصرار الجيش، بناء على خطة موضوعة خارج لبنان قامت بتنفيذها حكومة فؤاد السنيورة، على تدمير ما تبقّى من المخيّم حتى بعد انتهاء «العمليّات العسكريّة». وقد ترك الجيش وراءه على جدران المخيّم شتائم عنصريّة بذيئة بحق الشعب الفلسطيني برمّته. لم يتعرّض جندي واحد لمحاسبة على أعمال الاعتداء التي حصلت.
ويزيد من غضب أهل المخيّم الوضع السكاني المعيشي. أوقفتني سيّدة من المخيّم (الجديد) عندما كانت السيّارة التي أقلّتني تهم بالمغادرة. أصرّت على أن أرى بأم عيني كيف يعيشون داخل المستوعبات الحديديّة. الحرّ داخل ما قيل لهم إنّها منازلهم الجديدة يجعل البقاء هنا مستحيلاً. كان السكّان يبيتون ليلتهم بين المستوعبات اتّقاءً للحرّ الشديد في الصيف. وحالة الغضب بين السكّان نحو الجيش اللبناني والمحيط غير المضياف (الذي يُكثر من «تربيح الجميل» للشعب الفلسطيني فيما هو يمعن فيه قتلاً وإذلالاً) لم تتوقّف.
يجب على قادة الجيش اللبناني أن يتعظوا من تجربة المكتب الثاني في الستينيات. أكثر الجيش اللبناني آنذاك من فرض السطوة والقسوة والاعتداء على أهالي المخيّمات، فما كان من السكّان بعدما تسلحوا وقويت شوكتهم إلا أن انتفضوا في أوّل فرصة ضد سلطات الدولة التي ظلمتهم. قد لا يكون هناك من أصوات سياسيّة لبنانيّة تناصر أهل المخيّمات هذه الأيّام، والثورة الفلسطينيّة غادرت لبنان، وبات متشدّقو الثورة في لبنان (حلفاء الحريريّة) هم أنفسهم حلفاء الاحتلال (أي جيش لحد فلسطين) الذي يتكلّم باسم الشعب الفلسطيني، وباسمه دعموا دك مخيّم فلسطيني آهل بالسكّان. سينتفض أهل المخيّمات في لبنان إذا استمرّ الجيش اللبناني في استفزازه وقمعه لأهالي المخيّم. تعيش المخيّمات الفلسطينيّة حالة حصار وتضييق لا يدري بها، أو لا يكترث لها، الشعب اللبناني.
هناك ضرورة للجيش كي يكسب هيبة ووهجاً وكي يعطي صورة البأس والحزم. لكن عليه أن يفعل ذلك جنوباً، لأن الوجهة الأخرى لا تأتي له إلا بالخزي والعار.
* أستاذ العلوم السياسيّة في جامعة كاليفورنيا (موقعه على الإنترنت: angryarab.blogspot.com)