حلّت الذكرى الرابعة والستون للنكبة بعد حوالى نصف قرن من بدايات الكفاح المسلح الفلسطيني. ومر هذا الكفاح بمراحل عديدة من الصعود والهبوط: من الانتصارات الجزئية إلى الهزائم المريرة، من الاحتضان الشعبي العربي إلى العزلة. أحيا هذا الكفاح أكبر الآمال والأحلام، وحمل الجماهير الفلسطينية أكبر التضحيات وأشد العذابات في ظل الاحتلال، كما في بعض دول المحيط، وأسّس لمقاومات فاعلة عديدة في لبنان والعراق.وتطلّ القضية الفلسطينية اليوم على مرحلة تاريخية جديدة تشهد تحوّلات كبرى على الصعد المحلية والإقليمية والعالمية، وتطاول الكيان الصهيوني والأنظمة العربية والإقليمية والعالمية، وتبدّلات موازين القوى فيها. ولم تبدأ المرحلة التاريخية الجديدة اليوم أو في الأمس القريب، بل بدأت منذ عقود. فالمراحل التاريخية تتداخل، ويولد الجديد من رحم القديم وكنقيض ولو جزئياً له.
في هذه الظروف لا بد من مراجعة نقدية ولو سريعة لمسيرة هذا النضال ضد الكيان الصهيوني، تواكب تباشير المرحلة الجديدة التي يعاد فيها اصطفاف قوى فلسطينية وعربية وإسلامية ودولية على الصعد الشعبية والرسمية، في إطار النضال ضد الإمبريالية العالمية. إمبريالية يمثّل الكيان الصهيوني إحدى أذرعها، بل ذراعها الأساسية في منطقة ذات أهمية استراتيجية استثنائية. إنّ دخول النظام الرأسمالي العالمي في مرحلته الأكثر احتكارية وعولمة أزمته البنيوية الدورية الطويلة المدى، وانزياح مراكز الثقل الاقتصادي العالمي، وبالتالي الثقل العسكري والسياسي، من المركزية الأوروبية ـــــ الأميركية إلى الدول الناشئة، وعلى رأسها دول الـ«بريكس»، يفتح الأفق واسعاً أمام إمكان سقوط هذا الكيان، القاعدة الإمبريالية المتقدمة في الوطن العربي ومحيطه الإسلامي.
إذا كان مؤتمر «بال» قد مثّل بداية الحملة الاستعمارية الصهيونية لاستيطان فلسطين، فإنّ وعد بلفور كان البداية العملية لإقامة الكيان الصهيوني برعاية الاحتلال البريطاني. وأثار هذا الوعد موجة عارمة من المعارضة العربية، وبداية الصراع العربي ــ الصهيوني. فقد استقرّ في فلسطين بعد الغدر بالثورة العربية الكبرى، العديد من قادة هذه الثورة. وسرعان ما اندرج هؤلاء في إطار الصراع مع الصهيونية والاستعمار البريطاني. واندفع العديد من الشباب العرب للانضمام إلى جيش الإنقاذ من أجل تحرير فلسطين، وأخذ الصراع منذ بدايته بعداً قومياً، رسمياً وشعبياً، رغم هزال الأنظمة العربية شبه المستقلة والهيمنة الاستعمارية الشاملة في ذلك الحين، القادرة على صنع موازين القوى المحلية، عبر التحكّم في الإمكانات الاقتصادية والعسكرية والسياسية لطرفي الصراع.
وشهدت بداية الخمسينيات ولادة جديدة لحركة التحرر العربية بقيادة انقلاب عسكري في مصر تحوّل إلى ثورة بقيادة جمال عبد الناصر. ومثّلت هذه الثورة التغييرية قاطرة تحوّلات كبرى على الصعيد العربي، ثم تحرر المغرب العربي واليمن، وكسر احتكار السلاح بالتوجه نحو الاتحاد السوفياتي، وطرد القواعد العسكرية الأجنبية، ورفض سياسات «الأحلاف» الإمبريالية.
كانت الأحزاب والحركات القومية القائدة للتيارات الشعبية الأوسع، تضع الوحدة العربية هدفاً استراتيجياً أول في نضالها، وتفهم «الوحدة» كشرط أساسي لتحرير فلسطين. حتى إنّ مفهوم العروبة بمضمونه السياسي والنضالي كان يعني العمل على تحرير فلسطين. ورفعت حركة القوميين العرب، بنت النكبة، شعاراً يقول إنّ تحرير فلسطين يمر عبر جميع العواصم العربية المحيطة بفلسطين، بمعنى تحرير هذه الدول المحيطة من الهيمنة والتبعية وتوحيدها، لبناء القوة القادرة على استعادة الأرض المغتصبة. وكان هذا الشعار صحيحاً ولا يزال.
ومثّلت الوحدة بين مصر وسوريا انتصاراً كبيراً لحركة التحرر الوطني العربية، فأطلقت دينامية سياسية عارمة، وحملة استعمارية ـــــ إمبريالية شرسة في مرحلة صعود الإمبريالية الأميركية. ومثّل «الانفصال» انتكاسة كبيرة لحركة التحرر العربية، ومقدمة هزيمتها في وجه المدّ الإمبريالي المتصاعد وقاعدته الصهيونية. ومع انتصار الثورة الجزائرية، تحوّلت الآمال الشعبية الفلسطينية، خصوصاً نحو الكفاح المسلح كطريق لتحرير فلسطين من استعمار استيطاني شبيه بالاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر.
وسرعان ما برز إلى الوجود 34 تنظيماً فلسطينياً، تدعو جميعها إلى الكفاح المسلح كطريق للتحرير في النصف الأول من ستينيات القرن الماضي. حتى إنّ حركة القوميين العرب، التي عنت لها العروبة «تحرير فلسطين» على نحو خاص، وارتبطت بالناصرية، وتطوّرت فكرياً ونحو اليسار بمواكبة التجربة الناصرية، بدأت بالارتداد إلى الإقليمية على الصعيد الفلسطيني. ففي المؤتمر القومي للحركة الذي عقد في بيروت في 1964، جرى طرح وتبنّي «اللامركزية» في القيادة القومية، بدافع إعطاء «إقليم فلسطين» استقلالاً يمكّنه من سلوك طريق الكفاح المسلح كخصوصية فلسطينية متميّزة. جرى بذلك إسقاط شعار «الوحدة» كطريق للتحرير، ومرور «التحرير» عبر جميع العواصم العربية المحيطة بفلسطين. وجرى تبنّي «اللامركزية» بالرغم من تنبيه البعض إلى خطر الانزلاق نحو «الإقليمية» في التوجهات النضالية، وتشرذم الحركة عملياً. وعجّل في هذه التحوّلات ظهور منظمة «فتح» الإسلاموية، التي لاقت ترحيباً واسعاً على الصعيد الشعبي الفلسطيني، كما على صعيد العديد من الأنظمة العربية.
لا تلتزم منظمة فتح بأية رؤية قومية علمانية أو أممية يسارية، وهي غير قادرة على فهم طبيعة الكيان الصهيوني وارتباطاته الاستعمارية الصهيونية، أو فهم طبيعة الأنظمة العربية التابعة (أشباه المستعمرات) ودورها في النظام الرأسمالي العالمي وعلاقاتها الحقيقية بالكيان الصهيوني. وترتاح معظم الأنظمة العربية بالتالي لحركة فتح وقيادتها لفلسطينيي الشتات لديها لأسباب عدّة، أهمها:
أ ـ فكرها الإقليمي الفلسطيني، الذي يبعد الفلسطينيين العاملين أو المقيمين فيها عن الحركات التغييرية القومية أو اليسارية أو الدينية المتطرفة في تلك الدول.
ب ـ يعفي تلك الدول من تحمّل العبء النضالي ضد الكيان الصهيوني، كهمّ قومي أو إسلامي، ويكتفي بطلب الأموال منها وجباية مساهمات الفلسطينيين العاملين فيها.
ج ـ لا اعتراض من فتح على علاقات هذه الدول بمراكز النظام الرأسمالي العالمي الحليفة للكيان الصهيوني. وبسبب هيوليّة فكر «فتح» وتنظيماتها، يسهل اختراقها ومراقبتها والتأثير عليها.
ودفعت التحوّلات في الشارع الفلسطيني الدول العربية إلى إقامة «منظمة التحرير الفلسطينية» كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني، يرضي الشعب الفلسطيني ومعظم الأنظمة العربية.
وكانت هزيمة الخامس من حزيران 1967 وما واكبها من نقد وبكائيات وشتم للذات العربية، في محاولات البحث المحموم عن مشبك تعلق عليه الهزيمة. وفي زمن اهتزاز الثوابت المبدئية وانهيار الأحلام والرهانات، تستسلم العقول لكلّ أنواع المراهنات والدسائس الفكرية، ولا سيما عند القادة المذعورين من هول الهزيمة. هكذا سقطت سطوة الفكر القومي الوحدوي على الشارع العربي، واستُعمل الفكر الإسلامي الأصولي المعادي للناصرية للتصدي لكل التيارات اليسارية والقومية العلمانية. وهجر الكثيرون مواقعهم السابقة نحو الحركات الإسلامية، أو نحو الفكر الاشتراكي العلمي، خفافاً، تاركين متاعهم القديم إلى «شقق مفروشة» فيها ما يحتاجون إليه من أفكار وتحالفات. لم تكن الماركسية بالنسبة إلى هؤلاء «الماركسيين الجدد» نهجاً في تحليل الواقع المعيش على الصعد المحلية والإقليمية والدولية، بل قضية إيمان بدين جديد، ومقولات يجري إسقاطها على الواقع، أو بقية الواقع المعيش من خلالها. وسهّل على عملاء الاستخبارات الغربية من أمثال آلونزو (عميل استخباري أميركي في السفارة الكوبية في بيروت) إقناع الكثيرين من هؤلاء الماركسيين الجدد بأولوية التناقض مع البرجوازية الصغيرة التي يمثّلها عبد الناصر. وجرى شق حركة القوميين العرب ثم حلّها. ومن ثمّ تشظّت الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، ولم يستطع حزب العمل أن يشكل تنظيماً قومياً حاضناً بديلاً عن حركة القوميين العرب، وغرقت الجبهة الشعبية أكثر فأكثر في الإقليمية الفلسطينية كغيرها من المنظمات.
واستقطبت المقاومة الفلسطينية الجماهير العربية بعد معركة «الكرامة»، التي طمس دور الجيش الأردني الحاسم فيها لمصلحة المقاومة، ولمصلحة فتح على نحو خاص. واستولت فتح على منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبحت بفعل حجمها وتمويلها وعلاقاتها العربية ودينامية أبو عمار، ذي الشخصية الكاريزمية، القائدة الفعلية للنضال الوطني الفلسطيني المسلح، تتبعها كل المنظمات الأخرى في خياراتها العسكرية، وإن تميّزت عنها بعلاقاتها السياسية. عندما قررت فتح بناء قواعد عسكرية ثابتة، وتزويد هذه القواعد بأسلحة ثقيلة، تبعتها معظم فصائل الثورة الفلسطينية، في الوقت الذي كان يردد فيه هؤلاء خطأ هذا الخيار العسكري. وعندما رفضت فتح العمل مع ضباط أردنيين لقلب النظام الأردني، ظنّاً منها أنّ بقاء الحكم الملكي الضعيف يعطيها حرية للحركة أكبر من نظام راديكالي قوي، تبعتها الجبهة الشعبية والجبهة الديموقراطية في هذا الخيار، مما يدل على عدم فهم طبيعة النظام الأردني وعلاقاته الإقليمية والدولية، ودور الكيان الصهيوني المدعوم أميركياً في حمايته.
وبالرغم من الإحاطة الشعبية العربية بالمقاومة وإغراقها بالأموال والسلاح، لم تستطع بناء قواعد آمنة في الداخل، أو بناء تنظيمات سرية مقاتلة وفاعلة في الوسط العربي. ونجحت إسرائيل في إحكام إقفال حدود الكيان ضد تسلل الفدائيين الفلسطينيين. وتحوّل قتال هذه الفصائل إلى قصف مواقع إسرائيلية عبر الحدود من دول الجوار العربي، من الأردن ثم من لبنان، مع ظهور «استعلائية» فلسطينية، أو «شوفينية» فلسطينية على محيطها الحاضن، الذي كان يتلقّى الردود العسكرية الإسرائيلية. وخلق هذا السلوك السياسي مع العجز العربي هوّة أخذت تتّسع باستمرار بين الثورة الفلسطينية ومحيطها الحاضن، مما أدى في النهاية إلى هزيمتها وإبعادها عن حدود فلسطين. وبعد مناورات وصراعات، لجأت قيادة منظمة التحرير إلى تونس، بعيداً عن فلسطين، وتحت رقابة حكم عربي تابع وغير صديق للثورة.
وأطلقت هزيمة الخامس من حزيران هجمة امبريالية شاملة على المشرق العربي على نحو خاص واستُعملت الأصولية الإسلامية لمطاردة الفكر القومي واليساري، وإسقاط إنجازات حركة التحرر العربية بقيادتها الناصرية... ثم إسقاط النظام العربي بإخراج مصر منه، وعقدها اتفاقية كامب ديفيد وإعادتها إلى الحظيرة الأميركية سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وإعادة القواعد العسكرية بعد ذلك إلى بلدان الخليج العربي وإلى البحر الأحمر وخليج عُمان. وجرى تعبيد طريق الاعتراف بإسرائيل وإقامة علاقات سياسية واقتصادية معها، كما جرى تجفيف تمويل المنظمات الفلسطينية اليسارية والقومية المعادية لأميركا، وتدجين منظمة فتح بعد هزيمتها. وأصبحت المنظمات أسيرة تمويل منظمة التحرير الفلسطينية ذات التمويل الخليجي ـ الأميركي ـ الأوروبي المشروط والمعادي لكل أنواع المقاومة ضد الاحتلال، وأصبحت سوريا المحاصرة الملجأ الوحيد للمنظمات الرافضة للاستسلام.
في عتمة هذه الأيام الفلسطينية، انفجرت الانتفاضة الشعبية في الداخل الفلسطيني، وهرعت المنظمات الفلسطينية في الخارج للّحاق بها واختطافها. فقد أفرزت الانتفاضة قيادتها غير الملوثة والمتحررة من بريق السلطة وأوهامها، مثل حيدر عبد الشافي وحنان عشراوي.
وأطلق سقوط الاتحاد السوفياتي هجمة أميركية على الصعيد العالمي. وطرحت أميركا مقولة «النظام العالمي الجديد» المتميّز بالتفرّد الأميركي وانكشاف معظم دول العالم للعدوانية الأميركية بعد سقوط المظلة السوفياتية عنها، وسيادة مبادئ الليبرالية الجديدة. وعبّر بوش الأب عن هذا الواقع الجديد بقوله: «ما نقوله يتحقّق» (what we say goes). في ظل هذا الواقع الدولي، عُقد «مؤتمر مدريد» في أواخر 1991، لإنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني كشرط لاستقرار ودوام الهيمنة الأميركية ـ الأوروبية على «الشرق الأوسط الكبير» العربي الإسلامي، وتصفية البؤر المقاومة أو الممانعة لهذه الهيمنة. ولما فشل المؤتمر في تحقيق الهدف الأميركي ـ الصهيوني، انتقل العمل للهدف ذاته إلى وراء الكواليس، إذ تفرّدت قيادة فتح في عقد اتفاقية أوسلو في 1993. وأعطت إسرائيل الدور الأساسي لفلسطينيي تونس في قيادة فلسطينيي الداخل، بدل قيادات الداخل من أمثال عبد الشافي وعشراوي. وكما يقول نعوم تشومسكي: مثّلت اتفاقية أوسلو تخلّياً كاملاً عن حقوق الفلسطينيين، إذ «لم تذكر الاتفاقية حقوق الفلسطينيين، بل تحدثت كثيراً عن حقوق إسرائيل... وخلال السنوات اللاحقة عقدت اتفاقات جزئية كانت فضائحية».
انتقلت قيادة منظمة التحرير الفلسطينية صاحبة السلطة الوطنية الفلسطينية إلى داخل الأراضي المحتلة، إلى حضن الاحتلال الإسرائيلي، وتبعتها بعض المنظمات الأخرى. ومثّل هذا الانتقال العجيب تخلّياً عن الثورة، أي عن طريق الكفاح المسلح. مثّل هذا الانتقال من تونس إلى رام الله استسلاماً كاملاً للاحتلال وإيماناً رومنطيقياً بالتحرير عن طريق القتال بالحجارة، والمفاوضات بلا شروط، بدفع أميركي ومباركة عرب «الاعتدال».
دخلت المقاومة الفخ الأميركي ـ الإسرائيلي وأصبحت تحت رحمتهما، فاغتالت إسرائيل «الرؤوس الحامية»، من أمثال أبو علي مصطفى، ووضعت آخرين في السجون من أمثال أحمد سعدات ومروان البرغوثي، وطاردت جميع المناضلين، وحولت السلطة الفلسطينية إلى أداة في خدمة الاحتلال لا في خدمة الشعب الفلسطيني والتحرير. كذلك فرضت واشنطن محمود عباس رئيساً لمجلس الوزراء الفلسطيني رغم إرادة ياسر عرفات في 2003، واغتالته عندما رفض استمرار السير على طريق الاستسلام الكامل، ونصّبت عباس مكانه. وجرى ربط قيادات السلطة الفلسطينية بشبكة من العلاقات الاقتصادية مع الاحتلال، كوكلاء تجاريين وسماسرة، وبُنيت طبقة برجوازية فلسطينية وسيطة وتابعة للاحتلال وفي خدمته لقمع الشعب الفلسطيني بأداة فلسطينية وتمويل عربي وقيادة أميركية (الجنرال الأميركي بايتون).
وأكد رئيس الشين بيت (جهاز الأمن الداخلي الإسرائيلي) يوفال ديسكين في حديث مع مسؤولين أميركيين في حزيران 2007 أنّ قيادات من حركة فتح، من الذين انهارت معنوياتهم نتيجة تنامي قوة حماس، طلبوا من إسرائيل مهاجمة حماس. وأشاد ديسكين بـ«علاقات العمل الجيدة جداً مع فوجين من الأجهزة الأمنية الفلسطينية، التي تتقاسم مع «الشين بيت» كل الاستخبارات التي تجمعها تقريباً». وقال ديسكين: «هم يفهمون الآن مدى حيوية أمن إسرائيل بالنسبة إلى صراعهم مع حماس في الضفة»، كما ذكرت صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية أنّ لائحة الفلسطينيين الذين يطاردهم الجيش الإسرائيلي في الضفة الغربية «باتت شبه فارغة»، ونسبت هذه النتيجة إلى التعاون المتزايد في المجال الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية.
لكن استسلام قيادة منظمة التحرير والسلطة الفلسطينية لإسرائيل جعل الجماهير الفلسطينية تنحاز إلى مَن استمرّ على نهج المقاومة خارج إطار منظمة التحرير، بغضّ النظر عن الأيديولوجيا التي يحملها ويعبّر عنها. باختصار، جرى إلحاق السلطة الفلسطينية بأدوات الاحتلال الإسرائيلي. وحسب خطة أميركية ـ صهيونية، جنّدت لها أميركا أشباه المستعمرات العربية وفوائضها المالية، كما مؤسسات النظام العالمي التي تتحكّم فيها. هدفت الخطة إلى إنهاء الصراع العربي ـ الصهيوني عبر دفع السلطة الوطنية الفلسطينية، الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، إلى الاستسلام الكامل للاحتلال، واعتراف الأنظمة العربية التابعة بإسرائيل، وقبولها في المشرق العربي كقوة عسكرية واقتصادية مهيمنة وحامية لـ«الاستقرار»، كما للمصالح الأميركية الاقتصادية والسياسية.
ونجحت أميركا، على الصعيد الرسمي، في تجريد الصراع الفلسطيني ـ الصهيوني من أبعاده العربية والإسلامية والأممية، وتحوّلت المنظمات الإقليمية (مثل جامعة الدول العربية ومؤتمر العالم الإسلامي) إلى منظمات محايدة في إطار هذا الصراع. أما على الصعيد الدولي، فقد أضعف انهيار الاتحاد السوفياتي وانسحاب الصين من الصراع ضد المعسكر الرأسمالي العالمي، واتّباع طريق التنمية بالصادرات والانفتاح الاقتصادي، حسب شروط السوق الرأسمالية العالمية، أضعف القضية الفلسطينية وجرّد بعض الفصائل من أهم مصادر قوتها.
نتيجة هذه التطوّرات، بدت صورة الوضع الفلسطيني سوداء حزينة. فقد خمدت نار المقاومة المسلحة والسلمية، وجرى عزل فلسطينيي الشتات عن فلسطينيي الداخل عبر مسيرة أوسلو، وانتقال قيادة منظمة التحرير إلى الحضن الإسرائيلي ـ الأميركي، وعُزلت الضفة عن غزة المحاصرة إسرائيلياً وعربياً بغية إجبارها على الاستسلام والسير في ركاب منظمة التحرير نحو الاستسلام الكامل. كذلك تسارع تهويد القدس الشرقية والضفة الغربية ومرتفعات الجولان السورية المحتلة، وتكثيف بناء المستوطنات وهدم بيوت الفلسطينيين وحرق مزارعهم وسرقة مياههم وأراضيهم، في ظل تنامي علاقات الأنظمة العربية بالكيان الصهيوني. وأُبعدت المقاومة الفلسطينية عن حدود الكيان الصهيوني، أي جرى تعطيل هذه المقاومة وعزلها في المخيمات الفلسطينية، دون مهمّات، تنتظر «الفرج» أو «الإمام المهدي» الفلسطيني، فلا هي في العير ولا في النفير، أو كالمتنبي عند كافور: فأُمسِكَ لا يُطالُ له فيرعى ولا هو في العليقِ ولا اللّجامِ.
مناضلو المقاومة يتعفنون في مخيمات الانتظار، يقتاتون بفتات موائد شيوخ النفط عبر «منظمة التحرير» شرط الاستمرار في السكوت عن مسيرة الاستسلام الكامل والاستمرار في الانتظار والتعفّن في محاجزهم الفلسطينية، كما في لبنان، إذ تحوّلت المخيمات الفلسطينية من بؤر ثورية عربية تحررية تحمل الهموم الوطنية والقومية وتناضل من أجلها، إلى محاجز فلسطينية تشرف عليها «السلطة الوطنية الفلسطينية».
* خبير اقتصادي